مثلما لعب الشعر القديم دورا في التأريخ للعديد من المجتمعات العربية القديمة، باتت الرواية العربية بمثابة تاريخ مواز لما يسجله المؤرخون، فمن أراد التعرف على جانب من جوانب التاريخ الإجتماعي لشعب من الشعوب فعليه بالعودة إلى «عالم الرواية» عله يجد ضالته المنشودة.
في كتابه «الرواية والسلطة» يبحر الكاتب والناقد الأدبي الدكتور محمد السيد إسماعيل في عالم الرواية السياسية، في محاولة منه للتعرف على السبل التي عالج بها الأدباء المصريون في رواياتهم عددا من القضايا السياسية والإجتماعية ومن بينها قضية «الحروب» التي خاضتها مصر ضد الكيان الصهيوني الإسرائيلي، مستهدفا التعرف على صورة «العدو» وصورة «المحارب المصري» إلى جانب التعرف على طبيعة النتائج السياسية والإجتماعية المترتبة على «الحرب».
يخصص الدكتور محمد السيد إسماعيل في كتابه محور لتناول قضية الحرب في الرواية السياسية، يبدأه بتقديم تعريف مبسط للمقصود من «الحرب»، مُشيرا إلى أن «الحرب» لا تعني فقط «القتال» العسكري، وإنما تعني «الصراع بين إرادتين» تجتهد كل منهما سعيا للسيطرة على الآخر وتحطيمه عبر كافة الوسائل الممكنة، ومن ثم تتعدد أنواعها ما بين الحرب «الفكرية، النفسية، والعسكرية».
اختار الدكتور إسماعيل عددا من الروايات التي طرحت قضية «الحرب» ضد إسرائيل وهى كالتالي: «في الصيف السابع والستين» (1979) لإبراهيم عبد المجيد، «الأسرى يقيمون المتاريس» (1976) لفؤاد حجازي، «الممكن والمستحيل» (1987) للدكتور طه وادي، «موسم العنف الجميل» (1987) لفؤاد قنديل، «الحرب في بر مصر» (1978) ليوسف القعيد، و«هوس البحر» (1992) لراوية راشد.
أعرف عدوك
«أعرف عدوك» حكمة شائعة توصي بضرورة الحرص على دراسة خصائص العدو، فهل نجح الروائيون المصريون عبر أعمالهم التي تناولت «الحرب» في تجسيد صورة «العدو» الصهيوني؟
يتناول الدكتور إسماعيل رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي مُشيرا إلى أن الكاتب نجح في تجسيد صورة «العدو» وقد أرجع نجاحه هذا لكونه قد تعرض لتجربة «الأسر» قرابة تسعة أشهر، قضاها بمعسكرات الاعتقال الإسرائيلية، ما أتاح له فرصة التعرف على «العدو» عن قرب، ومن ثم تمكن من تقديم صورته الرديئة التي تجلت في «الوجه اللاإنساني» في معاملته مع الأسرى المصريين وإستهانته الشديدة بأدنى حقوقهم الإنسانية والمتمثلة في الحاجة إلى «الماء والغذاء» .. «لوحوا لنا بالماء فلم نتهافت عليه.. رشوه فوق رؤوسنا.. وألسنتنا الجافة في حاجة إلى قطرات منه».
بجانب هذا المَلْمَح اللاإنساني، برز مَلْمَح آخر يتعلق «بالإنحلال الأخلاقي» للعدو وقد تجسد ذلك في ذات الرواية «الأسرى يقيمون المتاريس» عبر مجموعة من السلوكيات أظهرتها النساء الإسرائيليات اللاتي وفدن من الجبهة لرؤية «الأسرى»، هذا إلى جانب إعتمادهم على «الإرهاب» المادي حيث دأب الحراس الإسرائيليون على إطلاق النار في مواجهة «الأسرى» مما تسبب في موت بعضهم وإصابة البعض بحالات «هوس» وفقدان القدرة على النطق، إلى جانب إعتماد العدو على «الإرهاب المعنوي» على نحو ما تجلى في إستغلالهم لنبأ تنحي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن الحكم، مما أشاع «الخوف والفزع» في نفوس «الأسرى».
صورة المحارب المصري
يتطرق الدكتور إسماعيل إلى صورة «المحارب» المصري مُشيرا إلى أن المحارب يمكن أن نجده على جبهة القتال، مثلما يمكن أن نجده داخل المجتمع، وبناء عليه لم يكن غريبا أن يُطلق على المجتمع المصري خلال فترات الحرب لقب «الجبهة الداخلية» التي لا تقل أهمية عن ميدان «القتال».
إبراهيم عبد المجيد في روايته «في الصيف السابع والستين» يصحب القارئ في رحلة إلى معسكر الدفاع المدني، الذي يضم مجموعة من عمال إحدى شركات القطاع العام لبناء السفن بالإسكندرية، عبر ذلك المعسكر نتعرف على رغبة هؤلاء الشباب في الدفاع عن الوطن، ومن ثم تتجلى صورة المحارب المصري في «التضحية والفداء».
يلفت إسماعيل النظر إلى أن إختيار «عبد المجيد» لهذه المجموعة من العمال إنما يعكس دلالة محددة يريد التأكيد عليها، وتتمثل في انتماء أغلب «المقاتلين» أو «المحاربين» إلى «عامة الشعب» سواء كانوا من العمال أو الفلاحين، وإن كان ذلك لا يمنع تنوع انتماءاتهم السياسية التي توزعت فيما بين «الناصرية» و«التيار الديني» و«الإنتماء الماركسي».
وفي رواية «الحرب في بر مصر» ليوسف القعيد الذي تحول لفيلم «المواطن مصري» من إخراج صلاح أبو سيف يطرح القعيد صورة أكثر شمولا للمحارب، عبر شخصية «مصري» الذي يدل اسمه على عمومية نموذج «المحارب» وارتباطه الحقيقي بهموم الوطن، ويتبارى الكاتب في تجسيد صورة «مصري» فيصفه بأنه «وجه مصري أسمر في لون طمي النيل» ينتمي إلى «الذين يعيشون على الكفاف» إلى جانب مواصفاته المعنوية المتمثلة في «حب الدنيا والزهد فيها، والجرأة والخجل، والخوف والشجاعة، الواجهة المسالمة والباطن المتفجر بالثورة والتمرد».
ورغم وطأة «الهم» الاجتماعي الذي كان يسيطر على «مصري» فإنه ما أن تبدأ حرب أكتوبر (1973) حتى ينسى همومه الخاصة، دون أن يفصل ما بين هم تحرير الأرض وهم تحرير طبقته الاجتماعية مما يقع عليها من ظلم.
الحرب.. والمفارقة الكاشفة
قدمت الروايات التي تناولت «الحرب» معالجات عدة للنتائج المترتبة عليها، بعضها ركز على الجانب السياسي والبعض الآخر تعمق في تناول النتائج الاجتماعية الناجمة عنها .
تتناول رواية «الممكن والمستحيل» للدكتور طه وادي الآثار الاجتماعية السلبية التي نجمت عن «النكسة» وقد رصد الكاتب تلك الآثار عبر إشارته لعدد من المظاهر المتمثلة في اللهاث وراء «المادة» والتطلعات الطبقية، وشيوع ما عرف بمصطلح «القطط السمان» وهو تعبير أُطلق على الطبقة الرأسمالية الجديدة التي انتقلت إلى عالم الثراء عبر «الطرق غير المشروعة»، هذا إلى جانب تدهور العلاقات الإنسانية.
على المستوى السياسي أشار وادي في روايته إلى تلك «المطاردة» التي تعرض لها الشباب الراغبون في خوض «الحرب» من قبل السلطة، إلا أن تلك الإشارة السلبية لم تمنع من وجود بصيص أمل تجسد في «إرادة المقاومة» التي دفعت السلطة السياسية إلى الإستجابة وخوض الحرب.
بذات السياق تتناول رواية «هوس البحر» لراوية راشد ردود فعل آلاف الشباب على واقع «الهزيمة» في (1967) حيث «تحولت الجامعة إلى قدر يغلي بالدم الطازج»، وفي رواية «موسم العنف الجميل» لفؤاد قنديل يتناول الكاتب أهمية «العمق الشعبي» للحرب، خاصة خلال فترة حرب «الإستنزاف» وحرب أكتوبر (1973).
يجمل الدكتور محمد إسماعيل رؤيته لنتائج الحرب مستعينا برواية «الحرب في بر مصر» ليوسف القعيد والتي أكدت على المفارقة الاجتماعية المتمثلة في أن من خاضوا الحرب وحققوا النصر لم يجنوا من ثمارها شيئًا، في حين أن من تهربوا منها قد حصلوا في المقابل على كل شئ، وقد مثل «مصري» وابن «العمدة» طرفي تلك «المفارقة»، ودون أن يخل ذلك بعمومية الشخصيتين فتسمية «مصري» مقصودة لتؤكد على أن كل مصري فقير سيكون مصيره مماثل لمصير ذلك الشاب الذي لم يكن يملك شيئًا، غير أنه ضحى بحياته من أجل الوطن، في مقابل ابن العمدة الذي لم يعرف سوى بكونه ابن العمدة الذي جنى ثمار النصر دون خوض الحرب.
«إن جرائم العمدة كلها تندرج تحت عنوان الجرائم السياسية، وإن التعامل معها من منطلقات نصوص القانون خطأ أساسي». من أقوال أحد شباب القرية برواية «الحرب في بر مصر».. وربما تبدو رواية يوسف القعيد هي الأكثر تعبيرا عن ذلك الزخم الاجتماعي الكبير الذي صاحب الحرب وعبر عن تفاعل المجتمع معها، ولذلك كان تحويلها لفيلم سينمائي أمرا طبيعيا بل ومطلوبا.