رغم أن الحرب العالمية الأولى كانت حربا أوروبية في الأساس، إلا أنها تلوّنت بطابع شرقي عربي إسلامي منذ أن دخلت الدولة العثمانية حلبة الصراع إلى جانب دول المحور في أكتوبر من عام1914. فبعد أن أعلن السلطان العثماني «الجهاد المقدس» ضد دول الحلفاء أو الوفاق، أصبح البعد الإسلامي رقما مهما في معادلة تلك الحرب التي سقط فيها نحو 60 مليون قتيل.
سعى الألمان مبكرا إلى استغلال هذا الجهاد لصالح بلادهم، وعملوا على إثارة شعوب الدول الواقعة تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي، بهدف إرباك بريطانيا وفرنسا، واستعانت ألمانيا بعدد من المستشرقين والخبراء في شئون الشرق الأوسط لتحقيق هذا الهدف، كان أبرزهم البارون ماكس فون أوبنهايم، تلك الشخصية الأسطورية الغامضة الذي استخدم ذكاءه وعلاقاته ومهاراته وخبراته في اللغة والتاريخ والسياسة ليخدم أجهزة مخابرات بلاده.
البارون ماكس فون أوبنهايم
في مقال سابق بعنوان «جهاد صنع في ألمانيا.. حين دعت برلين المسلمين لقتال أحفاد الصليبيين»، حاولنا توضيح الدور الذي لعبه أوبنهايم ليقنع أهل الشرق بالثورة على الدول التي احتلت بلادهم فرفع راية «الجهاد ضد أحفاد الصليبيين» ليس إيمانا منه بحرية تلك الشعوب بل لتحقيق أهداف بلاده وحلفائها.
وكما طرقت ألمانيا باب الجهاد الإسلامي المقدس، دقت إنجلترا نفس الباب، وحاولت استغلال كراهية العرب للدولة العثمانية ورغبتهم في إنهاء قرون من الاحتلال التركي لبلادهم، لكنها انطلقت عبر محطة الجنوب «الجزيرة العربية» وحاولت إقناع الشريف حسين وأولاده بإعلان ثورة للتخلص من العثمانيين.
الشريف حسين
بريطانيا تشعل الثورة العربية
الوثائق البريطانية عن الجزيرة العربية والتي أزيح الستار عنها نهاية ستينيات القرن الماضي كشفت عن الدور الذي لعبه الإنجليز في إشعال «الثورة العربية الكبرى» واستخدامهم الشريف حسين وأولاده لمواجهة العثمانيين ودول المحور، الذين لعبوا بورقة «الجهاد الإسلامي»، فصار «الجهاد الإسلامي» و«الثورة العربية» مطية لأطراف الحرب يركبها الألمان ومحورهم من جهة «ألمانيا إيطاليا واليابان» والإنجليز وحلفاؤهم من جهة أخرى «بريطانيا وفرنسا وروسيا».
كانت هذه الوثائق محاطة بسرية تامة نظراً لأن القانون البريطاني الخاص بحفظ الوثائق كان يُحتم بقاءها مغلقة لمدة خمسين عاماً، ولكن هذه المدة خفضت في سنة 1967 إلى ثلاثين عاماً، ولذلك أخذ الباحثون والمؤرخون يتدفقون على مركز حفظ الوثائق في لندن للاطلاع على أحدث ما فُتح من الوثائق البريطانية.
وفقا لما رصده عدد من المؤرخين العرب والأجانب في تلك الوثائق، استغلت بريطانيا طموح الشريف حسين، وعلاقاته السيئة مع أحمد جمال باشا قائد العثمانيين في الشام، ودخل الإنجليز في مفاوضات سرية مع الشريف حسين بمساعدة ضابط الاستخبارات البريطانية توماس إدوارد لورنس الشهير بــ«لورنس العرب»، وتم تبادل رسائل بينه وبين السير هنري مكماهون الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر والسودان.
توماس إدوارد لورنس الشهير بــ«لورنس العرب»
حاولت بريطانيا من خلال اتصالها بالشريف حسين إبعاد العرب عن الاشتراك في الحرب ضدها، ففي نهاية شهر مايو من عام 1915 كان السير هنري ماكماهون قد حل محل هربرت كيتشنر في القاهرة باعتباره المندوب السامي البريطاني، وقام بإبلاغ الشريف حسين بأن الحكومة البريطانية ترغب في إجراء اتصالات سرية معه.
السير هنري ماكماهون
في هذا الوقت كانت الدولة العثمانية قد أعلنت «الجهاد المقدس» ضد الإنجليز ودعت المسلمين إلى التخلص من الاستعمار، ودخلت الحرب العالمية إلى جانب دول المحور «المركز»، فتحركت طائرات بريطانية من القاهرة وأسقطت منشورات فوق جدة ضد دعوة الجهاد العثماني، هنا بدأ الشريف حسين الذي كان يتعرض لضغوط من الدولة العثمانية ليعلن تأييده لدعوة الجهاد، يبدي رغبة في التواصل مع الإنجليز.
كان الشريف حسين يعي خطط العثمانيين للإطاحة به إذا رفض دعوتهم للانضمام إلى جهادهم، فسعى إلى كسب الوقت وأرسل ابنه الأمير فيصل إلى القسطنطينية لفتح حوار مع الحكومة العثمانية، وكانت تعليماته له أن يناقش مسألة تأييد الجهاد مع أحمد جمال باشا الحاكم الجديد لسوريا دون الالتزام بأي شيء.
أحمد جمال باشا
وثقت كتب التاريخ العديد من المذابح التي قام بها أحمد جمال باشا «السفاح» الحاكم العثماني لسوريا الكبرى في ذلك الوقت، حيث نصب المشانق لعدد كبير من زعماء الحركة القومية العربية الذين كانوا يطالبون بحرية بلادهم واستقلالها، بل إن بعضا منهم كان ينادي بنيل حقوق الإنسان العربي حتى ولو في ظل الدولة التركية.
وفي دمشق اتصل قادة الجمعيات السرية العربية في سوريا بالشريف حسين وطالبوه بأن يتزعم الكفاح العربي من أجل نيل مطالبهم في إطار الإمبراطورية العثمانية، والتقى عدد من هؤلاء الأمير فيصل سرا ونقلوا إليه رغبتهم.
نقل فيصل إلى والده ما دار في اجتماعاته مع هؤلاء الزعماء، وكان الشريف حسين ينوي بالفعل أن يتبنى مطالب القوميين العرب الحديثة مثل اللامركزية والحكم الوطني، إذا ساعده ذلك في تقوية شوكته في الحجاز.
بعد فترة استشف الشريف حسين أن العثمانيين ينوون خلعه بالقوة، حيث اكتشف في أول أيام شهر رمضان «يوليو» من عام 1915 أن الجنود العثمانيين في الحجاز تم إعفاؤهم من فريضة الصيام طوال الشهر «ربما طاف بفكره أن الجنود على جبهات القتال يعفون من الصوم»، ومن ثم فقد استنتج أن ما رآه يكشف عن أن العثمانيين يعتبرونه عدوا لهم.
مراسلات الشريف حسين – مكماهون
في اليوم التالي كتب الشريف حسين رسالة إلى السير هنري ماكماهون يردد فيها بشدة المطالب التي أخبره بها السوريون عبر ابنه فيصل، وأضاف أنه إذا أراد البريطانيون ضمان صداقة العرب، عليهم الاعتراف باستقلال الدول العربية، وأن على بريطانيا أن توافق على قيام خلافة عربية في مقابل تمتعها بالأفضلية الاقتصادية.
أرفق الأمير عبد الله بن الحسين مذكرة برسالة والده إلى الإنجليز مطالبا بأن تستأنف الحكومة المصرية إرسال المساعدات إلى الأراضي المقدسة: «يجب ألا تتعبوا أنفسكم بإرسال الطيارات أو رجال الحرب، لإلقاء المناشير وإذاعة الشائعات كما كنتم تفعلون من قبل لأن القضية قد تقررت الآن.. وإني لأرجوكم هنا أن تفسحوا المجال أمام الحكومة المصرية لترسل الهدايا المعروفة من الحنطة للأراضي المقدسة التي أوقف إرسالها منذ العام الماضي. وأود أن ألفت نظركم إلى أن إرسال هدايا هذا العام والعام الفائت سيكون له أثر فعال في توطيد مصالحنا المشتركة».
وفضلا عن مطالبه باستئناف المساعدات لخص الأمير في المذكرة المرفقة لرسالة والده المطالب العربية وهي:
أولا: نقترح أن تعترف انجلترا باستقلال البلاد العربية من مرسين ـ أضنة حتى الخليج العربي شمالا، إلى المحيط الهندي للجزيرة جنوبا، يستثني من ذلك عدن التي تبقى كما هي ـ ومن البحر الأحمر والبحر المتوسط حتى سيناء غربا، إلى بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقا، على أن توافق انجلترا أيضا على إعلان خليفة عربي على المسلمين.
ثانيا: تعترف حكومة الشريف العربية بأفضلية انجلترا في كل مشروع اقتصادي في البلاد العربية إذا كانت شروط تلك المشاريع متساوية.
ثالثا: تتعاون الحكومتان الإنجليزية والعربية في مجابهة كل قوة تهاجم أحد الفريقين وذلك حفظا لاستقلال البلاد العربية وتأمينا لأفضلية انجلترا الاقتصادية فيها، على أن يكون هذا التعاون في كل شيء، في القوة العسكرية والبحرية والجوية.
وأنهى مذكرته بعبارة فيها تحذير مبطن إذا لم يستجب الإنجليز لمطالبهم: «وفوق هذا فإننا نحن عائلة الشريف نعتبر أنفسنا إذا لم يصل الجواب أحرارا في القول والعمل من كل التصريحات والوعود السابقة التي قدمناها».
تسلم ماكماهون رسالة الشريف وقرأها بحذر شديد ورفض أن يعتبر ما جاء بها من مطالب أمرا يستحق الاهتمام، ولكنه في نفس الوقت كان يخشى التسبب في شعور الشريف حسين بالإحباط، أو إلزام الحكومة البريطانية بأي تعهد، فقرر أن المماطلة هي أسلم الخيارات.
وكلف ماكماهون مستشاره رونالد ستورز بإعداد رد يبلغ فيه الشريف حسين أنه من السابق لأوانه جدا مناقشة أي اتفاق بشأن مستقبل منطقة مازالت تحت السيطرة العثمانية. وحاول المستشار تعويض افتقار رد ماكماهون المتلكئ وغير المشجع باللجوء إلى افتتاح رسالة الرد بأسلوب زينه بعبارات التفخيم.
رونالد ستورز
خاطب ستورز متحدثا باسم الممثل الأعلى لملك بريطانيا الشريف الحسين بما يحب أن يسمع في بداية رسالته وقال مخاطبا إياه: إلى الحسيب نسيب سلالة الأشراف وتاج الفخار، فرع الشجرة المحمدية والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية، السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل دولة الشريف حسين باشا، وسيد الجميع، أمير مكة المكرمة قبلة العالمين ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمت بركته الناس أجمعين“.
وبعد تلك الديباجة وصل مكماهون إلى بيت القصيد فقال: أود أن أؤكد لكم ما قاله اللورد كيتشنر «سلف مكماهون في المنصب» في الرسالة التي وصلتكم.. وهي الرسالة التي أوضح لكم فيها بصراحة رغبتنا في استقلال البلاد العربية وسكانها، وموافقتنا على أن يكون الخليفة عربيا عندما تعلن الخلافة، ونصرح مرة أخرى أن حكومة صاحب الجلالة تميل إلى أن يكون الخليفة عربيا عريق العروبة، أما ما يتعلق بالحدود فهذا أمر سابق لأوانه.
فهم الشريف حسين مماطلة مكماهون وعدم حسمه في قضية الاستقلال والخلافة، فرد برسالة إلى مستشاره قال فيها: «أعذرني يا فخامة المندوب إذا قلت بصراحة إن البرودة والتردد اللذين تضمنهما كتابكم فيما يتعلق بالحدود وقوله – أي مكماهون – إن البحث في هذه الشؤون إنما هو مضيعة للوقت وأن تلك الأراضي لا تزال بيد الحكومة التي تحكمها، يعذرني فخامته إذا قلت إن هذا كله يدل على عدم الرضا أو على النفور أو على شيء من هذا القبيل، فإن هذه الحدود المطلوبة ليست لرجل واحد نتمكن من إرضائه ومفاوضته بعد الحرب، بل هي مطالب شعب يعتقد أن حياته في هذه الحدود، وهو متفق بأجمعه على هذا الاعتقاد مع الدولة التي يثقون بها كل الثقة ويعلقون عليها كل الآمال وهي بريطانيا العظمى».
الثورة تشتعل في الحجاز
وبعد أخذ ورد، وتحت ضغوط قادة الحركة القومية في الشام، وتأهب العثمانيين لخلعه بالقوة، استجاب الشريف حسين للإغراءات وأعلن الثورة على العثمانيين في 10 يونيو 1916، تماما كما خطط مكماهون، الذي أرسل إلى وزارة الخارجية في لندن في 14 أغسطس 1916 قائلا: «إن لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى في أن نؤمّن بواسطة الشريف نفوذا مهما على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية، وربما نوعا من السيطرة عليهما».
في هذه السنة أمدت بريطانيا الشريف بالمال والسلاح، ومنحته في العام الأول فقط من ثورته 71 ألف بندقية وأكثر من أربعين مليون طلقة، وأرسلت إلى نجلي الشريف «فيصل وعبد الله»، ألف سيجارة كونهما المُدخنين الوحيدين في عائلتهما. كما عززت بريطانيا جيش الشريف بأعداد كبيرة من الأسرى العرب التابعين للجيش العثماني.
وفي رسالة طريفة نصح الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس الجنرال جيلبرت كلايتون مدير المخابرات البريطانية المدنية والعسكرية في مصر والسودان بالقاهرة في أكتوبر 1917 بالتوجه إلى معسكر الأسرى العرب ليخطب فيهم قبل التحاقهم بالشريف.
وبالفعل خطب كلايتون في الأسرى العرب قائلا: هل من واجبي –أنا الإنجليزي– أن أذكركم بآل بيت علي ومعاوية والعباس بالأولياء والأبطال الذين صنعوا أمجاد العرب في العالم، بالتأكيد إن ضمائركم تقول لكم ذلك. ولكنني كرجل إنجليزي سأقول لكم التالي: إن إمبراطوريات العرب دمرت وجعلت ترابًا بالخلافات والتكاسل، وإن نير الترك كبل أعناقكم 900 عام لأنكم أتبعتم أهواءكم ولم تكونوا متحدين أبدًا. والآن بأيديكم الفرصة التي إذا أضعتموها فلن يغفر الله لكم.. إن من الأفضل أن يكون المرء طاهيًا في السرية العربية من أن يكون وزيراً خاضعاً للأتراك.
اعتبر الإنجليز أن من إيجابيات انحياز الشريف حسين لهم: رفضه إعلان الدعوة للجهاد ضد بريطانيا استجابة لدعوة السلطان العثماني، فضلا عن تحجيمه للنفوذ التركي في الحجاز، ثم أنه بإعلانه الثورة حال دون تجميع متطوعين عرب للقتال في صفوف الجيش العثماني.
ميدانيا، تمكن جيش الشريف من السيطرة على الحجاز، كما تمكن جيشه الشمالي، بقيادة نجله فيصل، من دخول دمشق بالتنسيق مع الجيش البريطاني.
الخديعة
عاش الشريف حسين أحلاما وردية، مصدقا أن بريطانيا ستهبه حكم الجزيرة العربية والعراق والشام وفلسطين، حتى أن نجله فيصل عندما قال له: «ماذا ستفعل إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟»، فاحتد عليه الشريف قائلا «ألا تعرف بريطانيا العظمى؟ إن ثقتي فيها مطلقة».
وفي فترة مبكرة حرصت بريطانيا وفرنسا على جس نبض الشريف، فقابله الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو في 24 مايو 1917 ليستطلعا رأيه بخصوص مدى قبوله سيطرةَ فرنسا على سوريا، فأجابهما قائلا: «إنه لا يمكنه أن يكون طرفاً في عمل يرمي إلى تسليم مسلمين لحكم مباشر من قبَل دولة غير إسلامية».
الفرنسي بيكو والبريطاني سايكس
قبل هذا التاريخ بنحو عام تقاسمت كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية تركة الدولة العثمانية في اتفاقية «سايكس – بيكو» في 1916، وحرص سايكس في برقية أرسلها إلى وزارة الخارجية بلندن في 17 مارس 1916 على التوصية بكتمان بنود الاتفاقية عن زعماء العرب.
وفي أكتوبر من عام 1917 اندلعت ثورة البلاشفة الروس، ونشرت الوثائق السرية التي عثر عليها في مقر وزارة الخارجية الروسية بالعاصمة بتروجراد، ومن بينها اتفاقية «سايكس- بيكو»، فوصلت أنباء الاتفاقية إلى الشريف، فبادر للاستفسار عن حقيقة الأمر، وهو ما شرحه المندوب السامي البريطاني وينجت في رسالة إلى وزير خارجيته في 16 يونيو 1918 قائلا: «إن ملك الحجاز.. قد أرسل برقية شديدة إلى وكيله موعزاً إليه بالقيام بتحقيقات عن الاتفاق البريطاني الفرنسي ونطاقه، ولا بد أنك تتذكر أن الملك لم يُبلغ قط باتفاقية «سايكس- بيكو» بصورة رسمية.. نصحت الوكيل أن يقول إن البلاشفة وجدوا في وزارة خارجية بتروجراد سجلاً لمحادثات قديمة وتفاهم مؤقت وليس معاهدة رسمية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا».
المندوب السامي البريطاني وينجت
صدق الشريف تلك التبريرات، بل وهنأهم بكل سذاجة على سيطرتهم على القدس قائلا: «إن هذا النبأ مستلزم للفخر العظيم»، ظنا منه أن المدينة ستدخل ضمن نطاق مملكته الجديدة.
وعقب انتهاء الحرب، احتلت الجيوش الفرنسية سوريا، وطردت منها فيصل، نجل الشريف، كما فرضت بريطانيا الانتداب على فلسطين وبدأت في توطين اليهود، فرفض الشريف حسين تلك الإجراءات، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي، فتخلت عنه بريطانيا، ووجهت دعمها كله لأمير نجد، عبد العزيز بن سعود، الذي اجتاح الحجاز عام 1924، ما اضطر الشريف إلى الهرب إلى العقبة ليجبره الإنجليز على مغادرتها ليعيش في منفاه الإجباري في قبرص.
وبذلك تحققت إستراتيجية بريطانيا، التي عبر عنها كلايتون مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة قائلا، في فترة مبكرة في 1916، «إن هدف الشريف هو تأسيس خلافة لنفسه.. نشاطه يبدو مفيدا لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية، وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقرارا من الأتراك.. وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية؛ مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض، غير قادرة على التماسك.. وإذا تمكنا فقط من أن ندبر جعل هذا التغيير السياسي عنيفا، فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسما على نفسه».
وبذلك تمكنت بريطانيا من استخدام الشريف حسين وأولاده، عبر ما سمي حينها بـ«الثورة العربية الكبرى»، لمواجهة «الجهاد المقدس» الذي أعلنه الخليفة العثماني، وضاعت أرضي العرب بين هذا الجهاد وتلك الثورة، وتقاسم المنتصرون في الحرب المنطقة ورسموا حدودها الجديدة، ومكنوا اليهود في وقت لاحق من إقامة دولة على أرض فلسطين.
مراجع:
• الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية– للدبوماسي والكاتب العراقي نجدة فتحي صفوة
• الصحراء تشتعل: لورانس العرب وأسرار الحرب البريطانية في الجزيرة العربية– للدبلوماسي النيوزلندي جيمس بار
• الثورة العربية الكبرى– للمؤرخ السوري أمين سعيد
• ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين– لأستاذ التاريخ اللبناني عبد الرءوف سنو