يقول «تقي الدين المقريزي» في كتابه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء» إن السبب في قتل الحاكم بأمر الله للقاضي «مالك بن سعيد»: «أنه اتهم بموالاة ست الملك شقيقة الحاكم».
ويذكر كثير من المؤرخون أن الحاكم بأمر الله قال لأخته في مقابلة عاصفة بينهما: «أنت حامل، وقد رماها بالفجور والفحشاء»، في وقت تجاوزت فيه «ست الملك» الخمسين من عمرها.
سوف تدهشنا ست الملك كثيرا بدءا من اسمها «ست الملك» ثم سيرتها، وميلها لنصرة العدل، واتخاذها لكثير من القرارات المصيرية من دون تردد.. تلك المرأة الجميلة التي لم تتزوج، وظلت تنعم في حياة لن نستطيع تصورها من كثرة البذخ، لكن وسط هذا البذخ، كانت اللعنة.
ثلاث سنوات حكمت فيها ست الملك مصر، بل المملكة الفاطمية كلها- على أساس أن ثقل الحكم يظل في مصر وليس الشام أو المغرب العربي، ومع ذلك لم تجلس على العرش لحظة واحدة، فقط، ظلت تحرك الأحداث من خلف الستار، وتقود الرجال من وراء حجاب، وتوقف الدسائس أو تشعل الفتن بما يأتي في مصلحتها أو مصلحة البلاد.
تنقسم حياتها لقسمين: حياتها بجوار أخيها، ذلك الطفل الصغير «الحاكم بأمر الله» الذي لم يصل للحادية عشر من العمر، لكنه أصبح الحاكم ووريث العرش، ثم حياتها بعد إختفائه ووصايتها لابنه الظاهر لإعزاز بالله.
الميلاد والنشاة
«ست الملك»: أو سلطانة، ابنه الخليفة «العزيز بالله»، خامس الخلفاء الفاطميين والذي حكم مصر في الفترة من 975 حتى 996م، وعندما رحل، كان ابنه ووريثه «الحاكم بأمر الله» صغيرًا في السن، في الحادية عشرة، وكانت اخته غير الشقيقة «ست الملك» في عز شبابها، في السادسة والعشرين من العمر.
ولدت عام 970م، بالمغرب، وجاءت مع ركب جدها «المعز لدين الله الفاطمي» وبرفقه والدها «العزيز بالله»، وكان ذلك أواخر 362 هجرية. وقد ولدت «ست الملك» قبل ميلاد الحاكم بأمر الله بستة عشر عاما.
والدتها هي الجارية الرومية من سراري العزيز بالله وهي «السيدة العزيزية»، وهي مسيحية الديانة على المذهب الملكاني كان لها شأن وحظوة عند الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حيث يذكر المقريزي أن المعز كان يتشاور معها في الأمور السياسية. بل وكان لها أثر كبير في كثير من السياسات التي انتهجها.وهو ما جعله يعين أخاها «أُرِيسْتس» مطرانا على بيت المقدس سنة (375هـ= 985م)، وعين أخاها الآخر أرسانيوس مطرانا على القاهرة، ثم أصبح بطريركا على القاهرة بعد ذلك.
وقد تربت «ست الملك» في مصر، داخل أروقه القصر الفاطمي، فتعلمت الكثير من الحيل والدهاء مما سمعته عن جدها أو شاهدته أثناء حكم والدها، وكابنة جميلة مدللة، عاشت حياة البذخ والرخاء أثناء حياه والدها، وقد بني لها قصرًا يحكي عنه كل الناس في كل مكان.
ولم يكتف الخليفة الفاطمي «العزيز بالله» بذلك، بل أصبحت ابنته «ست الملك» ذات ثقة كبيرة بالنسبة له، وأولاها ثقته وكثيرا من أسراره، وكان يستشيرها في الكثير من الأمور.
لذا فقد عرف عنها الرجاحة والرزانة والحزم الشديد والتحفظ واهتمامها بعظيم الأمور، وعندما مات والدها «العزيز بالله»، أصبح أخوها من أبيها «الحاكم بأمر الله» هو الحاكم، لكنه كان طفلا صغيرًا في الحادية عشر من عمره، وبالتالي كانت هي الحاكم الفعلي، وأصبحت صاحبة القرار في مصر لعدة سنوات.
الطفل الحاكم
كان الحاكم في الحادية عشرة من عمره حين تولى الخلافة في يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من رمضان سنة 386هـ، وقد حكم مصر والشام وأجزاء من العراق مع الحجاز وشمال أفريقيا في المدة ما بين (386 إلى 411ه) الموافق (996 ـ 1020م).
في البداية كانت الأمور تحت سيطرة الخادم ابن عمار، والذي كان يسيطر على «الحاكم بأمر الله»، وهو ما لم ينل أعجابها، فأقنعت أخاها ليعزلا ابن عمار. بعد أن استمالا خادمهما المطيع الوزير «برجوان» لهما، وفي بالهما إنه سيكون افضل من «ابن عمار».
وبسبب هذا الانتصار السياسي والانفراد بالسلطة، قامت «ست الملك» بإهداء أخيها «الخليفة – الحاكم بأمر الله»: «ثلاثين فرساً مرصعة بالذهب والبللور وعشرين بغلة وخمسين خادماً ومائة تخت ثياب وتاجاً مرصعاً وأدوات ثمينة وتحفة فنية عبارة عن بستان من فضة مليء بالأشجار».
لم يهنأ الأخوان الحاكم بأمر الله وست الملك بهذا الانتصار، ذلك لأن الخادم الجديد «برجوان»، الذي سميت إحدى حارات القاهرة باسمه وهي حارة برجوان الواقعة أمام مسجد الحاكم بالله حتى الان، قد بدأ ينفرد بالحكم ويستبد بالأمر، وكون لنفسه حرسًا خاصًا، كما قام بعقد صلح مع خصومه السابقين ومنهم «ابن عمار» ذاته، في مقابل اعترافهم بسلطانه.
ولم يكتف «برجوان» بذلك، بل إنه بدأ يتلاعب بهذا الصغير – الحاكم بأمر الله – ويستخفّ به ويسيء معاملته، وينهب أموال العامة، ويقال أن ثروته بلغت أكثر من مائتي مليون دينار وخمسين أردباً من الدراهم والفضة واثني عشر صندوقاً من الجواهر بالإضافة إلى الممتلكات العينية.
ظل الخادم «برجوان» في طغيانه وفساده واستهتاره بالخليفة، ولم ينتبه إلى أن الخليفة صار شابًا وأخته تتابع ما يحدث ولا ترضي به، فخططت ودبرت، وبالفعل استطاعت «ست الملك» الاطاحة برقبة «برجوان» عندما استدعاه الخليفة وقتله. بينما هي تقف خلف الستار حينها، خوفًا من ردة فعل أعوان برجوان، أو الانقلاب على الخليفة.
لكن العدو عندما يرحل، ويصفي الجو كما يقولون، نبدأ في البحث عن عدو جديد، وكانت هذه هي اللحظة التي قلبت الأمور، فقد صار الأخوان عدوين«الحاكم بأمر الله وست الملك».
هلاوس
تهيؤات وهلاوس و وسواس قهري، هذه هي الحالة التي يمكن تلخيصها لحياة الحاكم بأمر الله، مدة ربع قرن حكم فيها هذاالرجل ذلك الرجل كان لديه شعور دائم بالتآمر عليه، وأن الجميع يريد الانقلاب عليه أو اغتياله أو التواطؤ ضده، ومن المؤكد أن النشأة هي السبب في هذا الشعور الدائم له.
فمنذ أن أعتلي كرسي العرش وهو في الحادية عشر من عمره، شاهد كل المؤامرات أمام عينيه، خاصة بين خادميه – ابن عمار وبرجوان،.
وفور التخلص من «برجوان» بدأت الساحة أمام الحاكم بأمر الله خالية، وما لبث ان صنع عدوًا في خياله هو أخته التي وقفت بجانبه فقد داهمه إقتناع اكيد بأن أخته «ست الملك» تتآمر على حياته وأنها أقدر من الآخرين على الكيد له والانفراد بالسلطة.
تذكر كثير من كتب التاريخ أن فترة ولاية الحاكم بأمر الله كان أغلبها قتلا ودماءً، فقد أكثر «الحاكم» من قتل أعيان الدولة بتهمة أنهم أعوان «ست الملك»، وجهر بالعداء لأخته، وذلك عندما إتهمها في شرفها بإقامة علاقات آثمة محرمة مع خصومه.
وقد اتهمها كذبا بالعشق والفجور، وكان يقلل من شأنها في المجالس العامة، بينما تؤكد الكثير من المصادر إنها كانت أبعد ما يكون عن أي تصرف مشين أو غير أخلاقي.
وكان أشهر من قتله الحاكم بتلك التهمة قاضي القضاة «مالك ابن سعيد»، حيث يُذكر إنه كانت هناك إشاعات تقول أن «مالك بن سعيد» يذهب إلى قصر «ست الملك» ويخلو بها بحجة قراءة صفحات الدعوة الشيعية، وكان معروفاً أن الحاكم يحب القاضي مالكا ويثق فيه، إلا أن تلك الإشاعة أوغرت صدره وأثارت شكوكه، فاختبر الحاكم ذلك القاضي، فأمره أن يقطع ألسنة الذين ثبت ترديدهم لتلك الإشاعة، فلم يستطع القاضي تنفيذ الأمر فأمر الخليفة بقتله
وبدأ الخليفة يضيق الخناق على اخته و يحاصرها حتى اعتزلت في قصرها في شبة قطيعة دائمة، ولكنها كانت تتابع كل الأمور بالرغم من عزلتها.
عجائب الحاكم
كان الحاكم بأمر الله، متقلّب الرأي والمزاج، يقرب الباطنية، ويقدم الأتراك والبربر على المصريين، وكان من أكثر الخلفاء تشددًا في خروج النساء، ومنعهنّ من ركوب المراكب مع الرجال، كما منع «الصرامتية»- «صناع الأحذية» من صنع الخفاف التى تلبسها النساء. كما أصدر قرارًا بألا يباع شيء من السمك بغير قشر، وأن يؤذن لصلاة الظهر في أول الساعة السابعة ويؤذن لصلاة العصر في أول الساعة التاسعة، ومن أشهر عجائبه أيضًا منعه أكل الملوخية والبقلة المسماة بالجرجير، والكثير من الأوامر التي تثير الاندهاش والعجب.
لكن الأمر الأكثر مدعاة للتعجب والدهشة كان هذا الأمر الخطير، عندما علمت «ست الملك» ما جاء به أعوان الحاكم من الفرس الذين عملوا على نشر مذهبهم وتنادوا بألوهية الحاكم زاعمين أنه ليس بشراً كسائر الناس, وإنما هو رمز حلّ فيه الإله, وبدلاً من أن يبطش بهم الحاكم إذ به يحميهم ويبارك دعوتهم حتى عمّ السخط سائر البلاد. وخشيت «ست الملك» أن يأتي يوم يزداد فيه غضب الناس وسخطهم فيكون الانفجار, وهو ما حدث بالفعل حين ذهب أتباع الحاكم إلى جامع عمرو بن العاص فأثاروا الناس مما أدى إلى حدوث معارك، وإحراق الفسطاط بأوامر الحاكم.حيث كانت الحرائق قد بدأت تلتهم كل شيء في القاهرة، بينما كان الحاكم بأمر الله سعيدًا بهذا الإدعاء بألوهيته.
وعندما علم الحاكم أن العامة يقتلون دعاته، ثار وغضب غضباً شديدا وأمر بالقبض على كثير من الناس وإعدامهم. ولم يكتف بذلك، بل أراد أن يؤدب أهل الفسطاط فأباحها لجنوده من العبيد الأتراك لثلاثة أيام, فراحوا يغيرون على أحياء الفسطاط وينهبون الحوانيت والدور ويخطفون النساء ويشعلون النار في كل مكان.
اختفاء الحاكم وانقاذ العرش الفاطمي
كان يجب أن يختفي الحاكم بأمر الله، ففي إحدى الليالي خرج الحاكم يطوف حول جبل المقطم بحماره، و لم يعد!!.
وقد جاء في كتاب «الإسماعيليون.. تاريخهم وعقائدهم»، إن الحاكم بأمر الله اغتيل بناء على أوامر «ست الملك»، حيث أصبح الخليفة يُهدد حياتها بالخطر، وطبقًا لرواية أخرى، فإنه قد قُتل وأخفيت جثته بعناية. وشاعت قصص و حكايات بل وعقائد دينية لتفسر سر اختفاء الخليفة. وأشهر هذه الحكايات أن اخته هي من دبرت لقتله و الخلاص منه، وقد فكرت ست الملك في قائد ينفذ لها مهمة الاغتيال فوقع اختيارها على الأمير «الحسين بن الداوس» زعيم قبيلة كتامة أقوى القبائل المغربية وأشد الناقمين على الحاكم لغدره وبطشه بقبيلته، وعرضت عليه أن يقتل أخاها الحاكم بأمر الله، وقد تلقف ابن الدواس هذا التوجه وتعهد بالتنفيذ، و رتب خطته وعهد بتنفيذ الجريمة إلى عبديْن من أخلص عبيده.
وفي مساء ليلة 13 فبراير 1021م. خرج الحاكم كعادته لرصد النجوم في شعاب المقطم وهو راكب حماره الأشهب وليس معه سوى ركابيْيْن، وكان متنكرًا في ثياب الرهبان، خرج عليه العبدان من مكمنهما وانقضّا عليه وقتلاه كما قتلا الركابيين وقطعا قوائم الحمار. وحملا جثة الحاكم إلى سيدهما في كساء فحملها إلى ست الملك فدفنته في مجلسها.
وفي هذه الأثناء كانت ست الملك قد أعدت عدتها للإمساك بكل الخيوط، فأمرت الوزير خطير الملك باستدعاء الأمير الفاطمي ابن إلياس بدمشق دون أن تُعلمه بما حدث للحاكم، وحين أتى إلى الحدود المصرية قتلوه حتى لا يطالب بالعرش، وفرقت في الجنود مليون دينار، وأعلنت للناس غيبة الحاكم وأنه يراسلها وأمرت الناس بالكف عن الكلام، وأمرت بقتل من يتزيد في الكلام ومن يتخلف عن بيعة ابن الحاكم وهو الظاهر ـ بالخلافة.حيث قامت باختيار الصبي «علي» ابن الحاكم بأمر الله ليكون الخليفة الجديد، واختارت له لقب «الظاهر لاعزاز دين الله»، وهو لقب يوضح توجهها و فكرتها وكأنها تعبر عن افكارها بأن الخليفة السابق أساء للخلافة والاسلام وأن الخليفة الجديد جاء لاعادة عزة الاسلام.
لقد استطاعت «ست الملك» ان تضمن انتقال الولاية لابن الحاكم الوحيد، علي، فبعد ثلاثة ليال من غياب الحاكم، خرج جند الخليفة وجموع المصريين يبحثون عن الحاكم لكي يجدوه، ولكن لم يجدوا له أثرا فعادوا إليها يسألونها، فقالت لهم إنه سيعود بعد 6 أيام.
وفي اليوم السابع لاختفاء الحاكم بأمر الله، خرج عليهم من القصر، ولده الصغير الظاهر لإعزاز دين الله في كامل ثياب الملك، فبايعة الشعب والجند وكان حينها في السادسة عشر وثلاثة شهور من عمره، وتمت البيعة للخليفة الظاهر الفاطمي في يوم عيد الأضحى سنة 411هــ، وقد ألبسته ست الملك تاج الخلافة المرصع بالجواهر وجعلت على رأسه مظلة مرصعة وأركبته فرساً رائعاً بمركب ذهب مرصع بالجواهر،وأخرجت بين يديه الوزير وكبار الدولة، فلما تقدم الموكب هتف الوزير في الناس: «يا عبيد الدولة مولاتنا ست الملك تقول لكم هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه»، فارتمى ابن دوَّاس بين يديه يقبل الأرض وتتابع بعده القواد والزعماء يعطونه العهد والميثاق، وهمس أحد الغلمان قائلاً: لا أبايع حتى أعرف خبر مولاي الحاكم ، فأخذوه لوقته وأغرقوه في النيل، فارتعب الجميع، وتم الأمر لست الملك والخليفة الصغير الذي ليس له من الأمر شيء.
بعد ذلك أظهرت ست الملك الود الزائد لابن دوَّاس شريكها في المؤامرة، فزارته في منزله وجعلته يثق فيها، وبعد أن تم لها الأمر أشارت إلى عبيد الحاكم بأن بن دوَّاس هو قاتل سيدهم فدخلوا عليه وقتلوه، وقتلوا كل من شارك في المؤامرة وبذلك نجحت في تنفيذ اختفاء الحاكم بأمر الله للأبد..
ست الملك.. ست مصر
بعد واقعة اختفاء الحاكم بأمر الله، ظلت ست الملك تدبر شئون الحكم، وتتحكم في كل صغيرة وكبيرة فأعادت للدولة هيبتها وملأت الخزائن بالأموال واصطنعت الأكفاء من الرجال.حيث استطاع الخليفة الصغير بوحي من عمته ست الملك إصلاح الكثير من الأمور التي أفسدها والده. يقول الدكتور «عطية نايف الغول» في كتابه «المرأة في العصور العباسية»: «استطاعت «ست الملك» النجاح في تدبير شئون البلاد، ولم تتزوج أبدًا، ووهبت نفسها للأعمال العامة وخدمة الناس فتربعت على عرش القلوب، وقد لقبت بعدة ألقاب منها السيدة الشريفة».
وفي بداية شهر جمادي الآخر سنة 614 هـ، توفيت وهي في السابعة والخمسين من عمرها بعد حياة حافلة بالعطاء. تاركه خلفها ثروة ضخمة، منها كما ذُكر، «800 جارية، 8 من جرار ملىء بالمسك، وكثير من الأحجار الكريمة، من بينها قطعة من الياقوت تزِن ثمانية مثاقيل، وكانت مخصصاتها في العام 50 ألف دينار في السنة».