في أحد أيام الربيع – غالباً في النصف الثاني من القرن العشرين- يلجأ «دون جوان»، الشخصية الأدبية الأسطورية، إلى حديقة مطعم قريب من دير فرنسي قديم، فراراً من شاب وفتاة بدا أنهما كانا يطاردانه، لكنهما توقفا عن مطاردته بمجرد دخوله في حرم الدير، ومن ثم عادا أدراجهما في اتجاه غابةٍ قريبة.
مدير المطعم الذي لا يرتاده أحد، لا تبدو عليه أي علامة اندهاش، إذ بدا أنه يعرف «دون جوان»، ويتوقع مجيئه. ذلك ما تخبرنا به رواية «دون جوان يحكي عن نفسه» للكاتب النمساوي بيتر هاندكه (1942) الفائز بجائزة نوبل في الأدب عام 2019، والتي ترجمها سمير جريس من الألمانية إلى العربية، لحساب دار ممدوح عدوان ودار «سرد»، وجاءت الترجمة في 110 صفحات من القطع المتوسط ومذيَّلة بـ«شكر» مِن المترجم إلى الشاعر المغربي حسن نجمي؛ «الذي تحمَّل عناءَ المراجعة اللغوية للترجمة كلها ومقارنتها بالترجمة الفرنسية».
يستهل بيتر هاندكه هذه النوفيلا باقتباس من أوبرا «دون جيوفاني» لدابونتي وموتسارت بمقولة: «لن تعرف من أنا»؛ المنسوبة لدون جوان نفسه في هذا العمل، ثم يبدأ السرد على لسان الطباخ الذي هو نفسه مدير المطعم وموظفه الوحيد: «كان دون جوان دائم البحث عن شخص يصغي إليه. وعثر في، ذات يوم جميل، على ذلك الشخص. لم يرو لي حكايته بضمير المتكلم، بل بضمير الغائب. هكذا أتذكرها الآن على كل حال».
تبدأ الرواية من سؤال سابق على كتابتها: هل دون جوان الذي اختلقته مخيلات عدد من المبدعين على مر الزمن، كان يُغوي النساء ويغرر بهن؟
الكاتب النمساوي بيتر هاندكه
سطوة مختلفة
في مقدمة المترجم، يقول سمير جريس: «ثمة شخصيات أدبية تولد ولا تموت. وعبر السنين تشهد هذه الشخصيات ولادات متعددة، فتكتسي في كل مرة شكلاً آخر وبعداً جديداً. ويعتبر الكاتب الإسباني تيرسو دي مولينا (1571- 1648) أول من تناول شخصية دون جوان، فجعل العشق عنده هوساً ومسَّاً، لعنة لا يبرأ منها؛إنه يغرر بالنساء ولا يتورَّع حتى عن قتلهن من أجل متعته، إلى أن ينال في النهاية عقوبته». ومن إسبانيا انتقلت هذه الأسطورة إلى فرنسا عبر إيطاليا، حيث تناولها موليير في مسرحية مُثِلَت عام 1665. و تناول بعده أكثر من أديب مثل كورناي وبايرون وألكسندر دوما الأب، هذه الشخصية التي أضحت رمزاً أدبياً بامتياز.
وها هو بيتر هاندكه في روايته «دون جوان يحكي عن نفسه»، يدلي بدلوه بشأن تلك الشخصية الأسطورية، فيعطيها أبعاداً تخالف التصور الراسخ عنها، إذ يؤكد السارد المولع بالأدب والموسيقى أن ذلك العاشق الشهير «لم يكن مغوياً. لم يغو امرأة أبداً. صحيح أنه قابل نساءً أشعن عنه ذلك فيما بعد. إما أن أولئك النساء يكذبن، أو أن الاضطراب تملَّكهن، وكن يقصدن بذلك شيئاً مختلفاً تماماً. والعكس أيضاً، لم تغرِ أي امراة دون جوان. قد يحدث أن يترك المرأة التي تود أن تكون مغوية تفرض إرادتها، أو ما شئتَ تسميته، لكن في لمح البصر يتضح لها أن الأمر لم يعد إغراءً، وأنه هو، الرجل، لا يجسّد الشخص المفتون، ولا ضده أيضاً. إن لديه سطوة، غير أن سطوته مختلفة» ص 59- 60.
المترجم سمير جريس
نساء جميلات
في هذه الرواية يمكث دون جوان أسبوعاً مع الطباخ، الذي ينقل عنه حكايات عن «6 أو 7 نساء جميلات»؛ قابلهن في الأسبوع السابق، في بلدان عدة في قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. البداية كانت في جورجيا، ومنها انتقل إلى سوريا فالمغرب، والنرويج وأخيرا هولندا، ثم بلد بلا اسم، قبل أن يصل إلى فرنسا.
يقول الطباخ: «منذ زمن بعيد، وصف فيلسوفُ شهوةَ دون جوان – التي تعي بها المرأة على نحو حتمي- أنها لا تُقاوَم، بل إنها «منتصرة». لكن الحكاية، كما حكاها لي بنفسه، لم يكن لها أي علاقة بالانتصار أو الشهوة، على الأقل انتصار دون جوان وشهوته. على العكس، كان الأمر، بالأحرى، هو أنه بنظرته – وليس بمنظره الذي لم يكن لا فتاً على أي نحو من الأنحاء- يطلق شهوة المرأة من إسارها… لقد تدلَّلت بما يكفي أثناء سيرها في الشارع، وأثناء وقوفها وجلوسها على أرصفة محطات السكك الحديدية ومحطات الباصات: آن أخيراً أوان الجدّ، أو قد يحين أوان الجد، وهذا ما تشعر به كانعتاق». صـ 61.
وبحسب رواية بيتر هاندكه وتحديدا في محطة جيب سبتة المغربي الذي تحتله إسبانيا: «أصبح يشتاق في اليوم الثالث من أسبوع نسائه، ليس فقط إلى المرأة التالية، بل أيضاً إلى المرأة التي تليها. وفي الوقت نفسه راح يتبع حزنه، من محطة إلى محطة؛ حزن لا يعرف العزاء… قبل ذلك لم يكن ليمانع لو حال دون اللقاء ظرفٌ قاهر، أو حريق مدمر، أو زلزال، أو حتى نهاية العالم. بمرور الوقت عرف أن لا شيء يستطيع منع التلاقي. بل إن حالة الحرب في سبتة جعلت اللقاء حتمياً». صـ80.
ست نساء أم سبع؟ «خلال ذلك الأسبوع لم يخطر على باله أن يعد النساء. عد النساء، هذا أمر لم يفكر فيه دون جوان، لا الآن، ولا من قبل. لقد كان بالأحرى ينظر إلى زمن النساء على أنه التقاط عظيم للأنفاس. ليس العدّ، بل التهجّي» صـ 89.
وبحسب ما حكى دون جوان عن نفسه، «كان البلد الأخير بلا اسم على الإطلاق. مع المرأة الأخيرة. ليس لأن دون جوان أخفى عني اسم البلد- يقول الراوي- وإنما لأنه لم يكن يعرفه منذ البداية، ولم يتمنَّ أيضاً أن يعرفه. إنه حتى لا يعرف كيف وصل إلى هناك… ليس فقط لأن المرء لا يهمه أن المكان وكل شيء من الأشياء هناك كانت تبدو مجهولة ولا يمكن تسميتها: لقد كان ذلك يعني ذروة الدهشة؛ كان ذلك ساحراً، دون أي سحر». صـ 95.
هنا بيتر هاندكه يبتكر دون جوانه، ويقول على لسان الراوي: «إنني أشهد: دون جوان شخصا آخر. رأيته شخصاً وفياً – الوفاء مجسّداً. كان يمثل لي شيئاً آخر غير مجرد اللطف والبشاشة – كان يقظ الحواس. وإن كنت قابلت في حياتي شخصاً أبوياً، فهو: المرء يصغي إليه ويصدقه… ما حدث بعد ذلك، لا يستطيع أحد أن يحكيه حتى النهاية، لا دون جوان نفسه، ولا أنا، ولا أي شخص آخر. حكاية دون جوان لا يمكن أن تكون لها نهاية؛ وهذه، حقاً وصدقاً، هي حكاية دون جوان النهائية والحقيقية».
ولا يَخفى هنا اضطراب الراوي، ومن ثم الكاتب، إزاء تلك الشخصية الأدبية الأسطورية، وهو يؤكد أنه بلغ حقيقتها، ثم ينفي في اللحظة ذاتها إمكانية حدوث ذلك يوماً ما. وهكذا يقر هاندكه نفسه بأن تلك الشخصية ستظل قابلة لخلقها مجدداً إلى ما لا نهاية، وإن كان صنع هو بمخيلته ما يرى أنه يمثلها ويعبر عنها، بما يخالف صورتها النمطية.
في المقدمة يتساءل جريس: «هل يطلعنا هاندكه في روايته القصيرة المفعمة بروح السخرية على أسرار لا نعرفها عن دون جوان؟ هل يبوح بسر سطوته على الجنس الناعم؟ هاندكه لا يقدم حكاية بالمعنى التقليدي؛ إنه يثير أسئلة عديدة، ويقدم تأملاته عن الحب، وروحانية العشق، ومرور الزمن. دون جوان هاندكه هو تجسيد للوفاء: الوفاء للعاطفة في لحظتها».
ويضيف: «في روايته هذه يحطم هاندكه صور دون جوان الشائعة الواضحة المعالم، ليقدم صورة غائمة عن عاشق مسكون بقلق فاوستي يدفعه دوماً إلى مواصلة الرحيل والبحث عن المشاعر الحقيقية» صـ15.
وبحسب «الشكر»، الموجه إلى حسن نجمي، فإن سمير جريس يؤكد أنه بناء على اقتراحات الشاعر المغربي المستندة إلى الترجمة الفرنسية؛ «اكتشفتُ الأخطاء التي وقعتُ فيها، فأخذت بها، غير أنني رفضتُ اقتراحات رأيتُ أنها تتمسك بحرفية النص (وربما تتيح اللغة الفرنسية ذلك)، كما لم آخذ بتأويلات أخرى وجدتُ فيها بعض الشطط. على كلٍ، فإن جملة هاندكه المرهقة، المحتشدة بالتفاصيل، تضع المترجم أمام مشكلات عديدة، آمل أن أكون قد استطعت تجاوزها بمساعدة الصديق الشاعر».
جريس شكر أيضاً المترجم أحمد فاروق؛ «على الملاحظات العديدة القيمة التي أبداها»، بخصوص تلك الترجمة، التي أكد جريس في النهاية أنه «غني عن القول إنني أتحمل وحدي المسؤولية كاملة عن الأخطاء التي قد تكون تسللت إليها».