استوقفتني صديقتي الكاتبة والناقدة المعروفة أمام المدخل الرئيسي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب قبل أكثر من عشر سنوات لتسأل عن أخبار المعرض والكتب التي أُوصي بها، وهي تتفحص في عناوين الكتب التي اشتريتها. نظرت في عيني نظرة مرحة ومتسائلة وهي تقرر أنني لابد واقع لشوشتي في قصة حب جديدة. كنتُ في عجلة من أمري، وكومة الكتب التي أحملها تثقل على يدي، فلم أستطع أن أوضح لصديقتي أن المسألة كلها تتعلق بكتاب «طوق الحمامة» الذي كنتٌ أنتهيت من قراءته قبل يوم، وساق خطاي إلى اقتناء هذه المجموعة من الكتب التي بسببها راحت تظن أن وراء الأمر قصة، وأن وراء القصة عشقا جديدا.
كُتبٌ في العشق والعشاق
كان ضمن العناوين التي لفتت نظر الصديقة كتاب «الواضح المبين في ذكر من استُشْهِد من المحبين» تأليف علاء الدين مغلطاي بن قليج[1]، المتوفي سنة 762 هجرية، وحققه سيد كسروي حسن، وصدر عن دار الكتب العلمية من منشورات محمد علي بيضون، تناول فيه المؤلف موضوعات العشق والغرام والهيام والألفة والائتلاف والأنس والارتياح، وبسط الكلام حول رؤية الدين في كل ذلك، وسلط الأضواء على أسماء عدد كبير من المحبين والعشاق ومن قتلهم الحب، وعرض عجائب أفعالهم، وقصص حبهم، وقصص استشهادهم؛ والكتاب لا شك ممتع بما يحويه من أدب وشعر وقصص يشغف بها جميعا المحبون، ولا يتركون الكتاب إلا وقد أتوْا على أجزاء عديدة منه.
وكان إلى جانبه كتاب آخر في نفس الموضوع هو «فن الهوى[2]» لأوفيد[3] ، وأكثر ما دفعني إلى اقتنائه أن من ترجمه وقدم له في مقدمة وافية هو الوزير المثقف الكبير الدكتور ثروت عكاشة، الذي كتب في تقديمه للكتاب: لا يكاد القارئ يطالع كتاب «فن الهوى» حتى يستهويه ما جاشت به عواطف هذا الشاعر الجياشة وما انطلق به لسانه في عبارات أنيقة وصياغة دقيقة للأساطير القديمة التي ضمنها مزيجاً من ثقافة عصره وأحاسيس قومه، وحتى يدرك السر الذي جعل هذا الكتاب الدقيق الحجم والموضوع يترك أثراً واضحاً في مختلف فنون العصور التالية حتى عصر النهضة.
ما زادني حرصاً على اقتناء الكتاب ما قرأته قبلها عن أنه واجه اعتراضاً ورفضا كنسياً، ومع ذلك ذاع صيته وانتشر حتى اضطر رجال الكنيسة أن يرتضوا ما جاء فيه بعدما أولوه، فكتب أحد القسس كتاباً باللغة الفرنسية القديمة بما جاء على لسان «أوفيد» فيه تأويل رمزي، رُمز فيه بالحبيب إلى الفضيلة والتقوى، وبالمحب إلى الناسك المتعبد على غرار شعر التصوف لابن الفارض في الأدب العربي والمثنوي في الأدب الفارسي.
الكتاب الثالث في قائمة كتب العشق والعشاق كان رواية «قواعد العشق الأربعون[4]» للكاتبة التركية ألف شفق[5] التي نشرت عقب روايتها لقيطة إسطنبول، ولكنها نالت شهرة واسعة جعلت اسم المؤلفة ينتشر في أرجاء المعمورة، في هذه الرواية تسرد الكاتبة حكايتين متوازيتين، إحداهما في الزمن المعاصر والأخرى في القرن الثالث العشر، عندما واجه الرومي مرشده الروحي، الدرويش المتنقل المعروف باسم «شمس التبريزي» وكيف أنهما معاً جسّدا رسالة شعر الحب الخالدة.
لم يكن ظن صديقتي الناقدة بعيداً عن الحقيقة فقد كنت بالفعل شغفت أيما شغف في تلك الفترة من حياتي بكتاب «طوق الحمامة» الذي أعترف أنه أدخلني بما فيه من «امتاع ومؤانسة» إلى رحاب التأليف العربي والغربي في جنان الحب وجنونه وتصانيف العشق وتصاريفه.
مفارقة ابن حزم
اسم مؤلف الكتاب قبل أي شيء آخر هو المحرض الأول على قراءته، فإبن حزم الأندلسي، واحد من أهم أعلام المسلمين في القرن الخامس الهجري، وهو صاحب المؤلفات المعروفة في الفقه والتاريخ ومقارنة الأديان، وكان رحمه الله مفسِّرًا، محدِّثًا، فقيهًا، مؤرِّخًا، شاعرًا، مربِّيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب، ويعد من أكبر علماء الأندلس بل أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري.
وكتب ابن حزم «رسالته في الحب والمحبين» بأسلوب أدبي مشوق يعتمد على الوضوح والدقة وعلى الصراحة التي توصل بعض النصوص الى الواقعية التامة. وقد ترجم الكتاب الى لغات كثيرة، وصار تراثاً انسانياً، ويعزو البعض دقة «ابن حزم» في وصف مشاعر النساء وألاعيبهن وفنونهن في الإيقاع بالحبيب وحسن اطلاعه على صورة المرأة الأندلسية في عصره، يعزون ذلك كله الى نشأته في مجتمع نسائي حيث نشأ في تنعم ورفاهية في بيت أبيه الذي كان واحداً من كبراء أهل قرطبة، ويشير الكثيرون ممن ترجموا لابن حزم الأندلسي أو درسوا تاريخه ونشأته أنه نشأ بين مجموعة من النساء، ما أكسبه بعض الصفات من تأثيرهن على نشأته، وقد قام بعضهن على تربيته وتعليمه، وحفظ القرآن على أيديهن.
والمطلع على سيرة «ابن حزم» سيعرف أنه صاحب التصانيف الكثيرة في موضوعات شتى، وتناولت علوماً كثيرة، وسيعرف أيضاً أنه خاض الكثير من المعارك الفكرية، وكان شديداً على خصومه، له لسان شبَّهه «ابن القيم» بالمنجنيق، فقد هاجم علماء وفقهاء عصره، ووصفهم بالمنتفعين، فنجحوا في تأليب «المعتضد بن عباد» أمير «إشبيلية» ضده، فأمر بمصادرة جميع بيوته، وإحراق كتبه، ونفاه إلى منشئه في «منت ليشم» جنوب الأندلس، وظل فيها حتى مات عام ٤٥٦ﻫ.
والعجيب أن يكون هذا القلم الجبار، وصاحب هذا اللسان الحاد، هو نفسه الذي يكتب كتاباً يحمل بين جنباته كل تلك العذوبة والرقة، ويحتوي على كل تلك الإحاطة النفسية، والدقة العلمية، في تتبع تجاويف النفس البشرية لدى المحبين وأهل العشق وأربابه.
رسالة في الحب
«طوق الحمامة» كتاب موضوعه الأساسي الحب، وفيه الكثير من قصص المحبين، ويعتبر الكتاب أحد الأعمال التي ركزت على تحليل المشاعر الإنسانية وفهم النوازع البشرية وليس مجرد كتاب للتسلية أومجرد ذكر القصص والحكايات أو المواعظ، ويضم الكتاب عدداً من الفصول التي تتحدث عن عوارض الحب وعلاماته، ودلائل تصرفات المحبين، ووصف أحوالهم في الوصل، وذكر الأمور المنغصة كالعاذل والرقيب، وما إلى ذلك من أمور كانت موضوعا للحديث في العصور الوسطى، ويحض الكتاب على التعفف وترك المعاصي، ويحفل بالأبيات الشعرية والقصص التي يذكرها ابن حزم ليضرب بها المثل.
ولا شك عندي في أن «طوق الحمامة» من أجمل الكتب في بابه، ومن أدق ما صوره أديب كاتب وشاعر من أحوال الحب وقضاياه، وقد خاض «ابن حزم» خلاله في تجاويف النفس البشرية ولم يبخل على قارئه ببعض أحواله وتجاربه الشخصية حتى عد الكتاب أحد المصادر الرئيسية لسيرة ابن حزم الذاتية، وقد أورد المؤلف في الأبواب الثلاثين التي يتألف منها الكتاب قطعا وقصائد من شعره جعلها في خدمة فكرة الكتاب وتفصيلات مقاصده.
والكتاب في الأصل مكتوب على صورة رسالة إلى صديق لابن حزم طالبه أن يصنِّف «رسالةً في صفة الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا مُتزيِّدًا ولا مفننًا، لكنْ مُوردًا لما يحضُرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسَعة باعي فيما أذكره، فبدرتُ إلى مرغوبك»، وفي أول أبواب الكتاب تحت عنوان «الكلام في ماهية الحب» يقول ابن حزم: «الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهذبين والأئمة الراشدين كثير».
ولا شك سوف يلفتك بشدة دقة ابن حزم في متابعته لعاطفة الحب الإنسانية، ولماحية تحليله النفسي القائم على الملاحظة والتجربة، وهو يعدد ضروب المحبة فيقول: أفضلها محبَّة المتحابِّين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحلة والمذاهب، وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان. ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابَّين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. والتي في رأيه هي المحبة الوحيدة التي لا تفنى ولا تزيد ولا تنقص كأنواع المحبة الأخرى، «فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المُمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه، وذا السِّن المتناهية إذا ذكَّرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب، واهتاج له الحنين».
ويقول أيضا عن الحب : «اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع»، ويرفض «ابن حزم» فكرة أن يحب المرء اثنين، وأن الحب لا يكون إلا مرةً واحدة، ولحبيبٍ واحد. ويعتبر أن هذا لا يتعدى أن يكون شهوةً تسمى محبةً، ومن أذكى أبواب الرسالة وأكثرها طرافة ما جاء تحت عنوان «باب الإشارة بالعين»، واعتبر ابن حزم أن «العين أبلغ الحواس وأصحها دلالة وأوعاها عملا عن بقية الحواس. وذكر فيه إشارات المحبوب لمحبوبه بالعين، فالإشارة بمؤخرة العين الواحدة تعني النهي عن الأمر، وإدامة النظر دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها دليل على الفرح، والإشارة الخفية بمؤخرة العين تعني سؤالا، وترعيد الحدقتين من وسط العينين تعني النهي العام».
«طوق الحمامة» كتاب ممتع، ورسالة في الحب فيها الكثير من الفائدة والمتعة الفكرية، والوجدانية، والكثير من القصص المسلية، التي لا تخفى دلالتها على كل لبيب، خاصة إذا كان من فئة العشاق أو من أهل الهوى، وهو إلى جانب ذلك شهادة عالم كبير بحجم ووزن وقيمة ابن حزم على أوضاع المجتمع والمرأة في الأندلس قبل عشرة قرون.
——————–
هوامش
[1] علاء الدين مغلطاي (689 -762 هـ / 1290 -1361 م): اسمه مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحكري، تركي الأصل، مستعرب، مصري النشأة، حنفي المذهب، ولد في جامع قلعة الجبل بمدينة القاهرة، واشتغل الحافظ مغلطاي بالعلم في سن مبكرة، واشتهر بانكبابه على العلم، مقبلاً على البحث والدرس، منقطعا عن الناس.
تقدم علاء الدين أكثر ما تقدم في الحديث، فكان له فيه باع واسع واطلاع كبير ومعرفة بعلومه وطرقه المختلفة بحيث أهّله ذلك لأن يكون شيخ الحديث والمحدثين في الظاهرية وأن يدرس في مدارس عديدة غيرها، وآثاره ومؤلفاته في الحديث خير شاهد على ذلك. وله تصانيف كثيرة تزيد على المائة، شملت علوما ومباحث شتى منها:
– الإشارة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتاريخ من بعده من الخلفاء.
– إصلاح ابن الصلاح، في علوم الحديث.
– الإعلام بسنته عليه السلام. شرح سنن ابن ماجه في خمس مجلدات،
– أعلام النبوة.
– إكمال تهذيب الكمال. وهو كتاب مشهور ومتداول بين العلماء.
– ترتيب صحيح ابن حبان، على أبواب الفقه.
– ترتيب المبهمات على أبواب الفقه.
– التلويح في شرح الجامع الصحيح، في شرح البخاري، ويقع في عشرين مجلدة، وكان أحد مصادر الحافظ في فتح الباري.
– الخصائص النبوية، أو خصائص الرسول، أو معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
– دلائل النبوة.
– الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وضعه على السيرة النبوية وشرحها الروض الأنف للسهيلي.
– زوائد ابن حبان على الصحيحين.
– الواضح المبين فيمن استشهد من المحبين.
[2] أحد أشهر روائع كتب الأدب الكلاسيكي، ومن كتب الحب في تاريخ الإنسانية التي تركت أثرها الواضح على فنون العصور التالية، يقدم فيه «أوفيد» حصيلة خبرة شاعر مجرب مغامر عن الكيفية التي يستولى بها الرجل على قلب حبيبته. ثم كيف يحتفظ بحبها إلى أطول أمد. ثم ينصح المرأة كيف توقع الرجل في حبائلها وكيف تحتفظ به تحت أقدامها، ويروى «أوفيد» في «فن الهوى» قصصاً وحكايات مقرونة بتعليقاته الساخرة، وتفسيراته التي تنبئ عن ثقافة واسعة، تظهر حبه للدعابة، وهيامه بالمرأة مدركاً ما فيها من مفاتن، كما يتميز بقدرته على الانتقال من موضوع لآخر في لطف ومهارة ملحوظين.
وهو من ترجمات الدكتور ثروت عكاشة، وراجعه على الأصل اللاتيني الدكتور مجدي وهبه، وهو من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[3] ببليوس أوفيديوس ناسو (43 ق.م. -17 م)، المعروف بلقب أوفيد، شاعر روماني قديم، من أشهر أعماله «التحولات»، والتي كانت عن الميثولوجيا الإغريقية والرومانية. وكتابه «فن الهوى» من أشهر أعماله، كتبه في السنة الأولى قبل الميلاد.
ولد أوفيد في سولمونا (في إيطاليا الآن) في 20 مارس عام 43 قبل الميلاد. كانت لأعماله آثار كبيرة على الأدب الغربي. تتضمن أعماله المعروفة الأخرى: «أموريس» (وهي ثلاثة أجزاء من قصائد الحب)، و«هيرويديس» (وهي رسائل وهمية من امرأة إلى أحبائها).
[4] صدرت رواية The Forty Rules of Love (قواعد العشق الأربعون) في الولايات المتحدة الأمريكية في شباط 2010 كما صدرت في المملكة المتحدة عن دار النشر بينجوين في حزيران 2010. وقد بيعت من الكتاب 550,000 فأصبح بذلك الكتاب الأكثر مبيعًا في تركيا
[5] ألف شفق (بالتركية Elif Şafak): روائية تركية تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، ولدت ألف بيلجين في ستراسبورغ لوالدين هما الفيلسوف نوري بيلجين وشفق أتيمان التي أصبحت دبلوماسية فيما بعد. انفصل والدها عندما كان عمرها عامًا واحدًا فربتها أمها. وتقول الكاتبة إن نشأتها في عائلة لا تحكمها القوانين الذكورية التقليدية كان له كبير الأثر على كتابتها. وتستخدم الكاتبة اسمها الأول واسم أمها كاسم أدبي توقع به أعمالها. وقد ترجمت أعمالها إلى ما يزيد على ثلاثين لغة.