ثقافة

اقتصاديات الثقافة.. كيف يصبح النشاط الثقافي صناعة داعمة للاقتصاد؟

ثمة علاقة مؤكدة بين الثقافة والاقتصاد، علاقة طردية بكل تأكيد، فكلما ازدهرت الثقافة انعكس ازدهارها بالإيجاب على الاقتصاد، فمن البديهي أن الاقتصاد والتنمية يستفيدان من الثقافة، وقد حققت دول كثيرة فوائد اقتصادية جمة من ثقافتها من ناحية تأثير الثقافة الإيجابي على السلوك المجتمعي الذي يصب في نهاية المطاف في صالح الإقتصاد، وكذلك من ناحية استثمار تراثها الثقافي، بل وحرفها اليدوية في تحقيق عوائد ومدخولات مالية مباشرة، هذه السطور تناقش مع بعض كُتَّابنا ومبدعينا قضية استثمار الثقافة كصناعة وكسلوك في الإقتصاد وهو أمر تخلفنا فيه كثيرا وما زلنا.. فماذا قالوا؟

خسائر اقتصادية

يشير الكاتب والروائي د. زين عبد الهادي إلى أن كل مايتعلق بالسلوك يرجع مرده إلى الثقافة، وعلى ذلك فكل أمر متعلق بسلوك أفراد المجتمع سيؤثر في الاقتصاد بشكل مباشر وغير مباشر، وعلى ذلك فالثقافة والإبداع لهما ثلاثة أبعاد فيما يتعلق بالاقتصاد، الأول الاقتصاد الثقافي، والثاني ثقافة الاقتصاد، والثالث الاقتصاد الإبداعي، وإذا كان الأول يتعامل مع المنتج الثقافي كسلعة أو خدمة، فالثاني يتعامل مع السلوك كمؤثرعلى الاقتصاد، والثالث يتعامل مع الأفكار الإبداعية في الاقتصاد  بهدف تحسينه أو بناء أنواع جديدة من المؤسسات لم تكن معروفة من قبل وبالطبع يمكننا تخيل تأثير  كل ذلك على اقتصاد أي دولة، إذ أن السلوك في النهاية هو محصلة الأفكار التي يؤمن بها الفرد، وهذه الأفكار تمثل ثقافته في النهاية، التي على مؤسسات الدولة – على مختلف أنواعها – وضعها تحت المجهر وبالتالي الفحص الدقيق لمعرفة مجموعة كبيرة من الحقائق، منها مدى تأثير هذا السلوك على اقتصاد الدولة، ومن هنا يمثل السلوك عنصرا بالغ الأهمية في الاقتصاد.

د. زين عبد الهادي

ويلفت عبد الهادي إلى أنه بلا شك أن مصر قد عانت ولا زالت من أفكار وأحداث تتعلق بالإرهاب والثأر والكراهية داخل المجتمع وأن هذه الأحداث قد عطلت الاقتصاد الثقافي طويلا، وإذا وضعنا في الاعتبار أن الأحداث الناتجة عن هذه الأفكار قد ساهمت بشكل مؤثر في تراجع هذا النوع من الاقتصاد الذي تقترب قيمته من 5% من حجم الاقتصاد العالمي، وإذا أخذنا هذه النسبة عبر السنوات العشر الماضية لقلنا ببساطة أن خسائر اقتصاديات الثقافة في مصر تبلغ حوالي 50 مليار دولار وأن هذا الرقم يقترب من التريليون دولار خلال الربع قرن الماضي، وهو ناتج عن تفشي هذه المفاهيم في المجتمع، التي كان من نتائجها انتشار الإرهاب الذي أضعف مردودات اقتصاديات الثقافة إلى حد هائل، بجانب عناصر أخرى تتعلق بسوء الإدارة والتخطيط لاقتصاديات الثقافة في المجتمع المصري، بجانب عدم وضوح الرؤية أمام المُخطط المصري للدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في دعم الاقتصاد والقضاء على البطالة ورفاهية هذا الانسان وعودة الجماليات والأخلاق إلى الشارع المنهك بثقافة في بعضها متخلف وبالٍ.

وعن سؤال لماذا اقتصاديات الثقافة؟ يجيب زين عبد الهادي

من المهم أن نعرف الأسباب التي تدفعنا للغوص في أعماق هذا النوع من الاقتصاد، خاصة وأنه اصبح عالميا، ويمكننا هنا في هذه العجالة الإشارة إلى البعض منها: الحاجة المستمرة للدول المتقدمة في البحث عن رفاهية شعوبها، وأيضا تعميق مفاهيم الجمال والثقة والحرية من جانب، واستكشاف مواهب وقدرات أفراد هذه المجتمعات من خلال التعليم وتعزيزها، وكذلك بناء صناعات صغيرة Small Industries تعتمد على الثقافة السائدة «التي سيتم تجديدها» داخل المجتمع والتي لها جوانب ايجابية وذات طبيعة جمالية، لذلك تقوم هذه الدول بإعداد تقارير دورية عن اتجاهات اقتصاديات الثقافة بها، مثل أستراليا والمملكة المتحدة وأوكرانيا واليابان وهو مايجب أن أشير إليه هنا.

صناعة الثقافة

ومن جانبه يؤكد الكاتب الصحفي والباحث مصطفي عبادة على أن الثقافة الرسمية تتعامل بوعي محدود جدا مع فكرة الصناعة، وتحصر الثقافة في الكتاب فقط، ثم تحصر الكتاب في فنون السرد والشعر، هذا خطأ أول، وثانيا يتم تهميش بقية العلوم الإنسانية كلها مثل: الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس السياسي، وعلم النفس الثقافي، وعلوم الاجتماع، بحيث يبدو للناظر ان الثقافة هي الرواية. ويلفت عبادة إلى أن هناك مجالات إبداعية مثل الحرف اليدوية، ومنها الخط العربي، وفنون التراث، والخيامية والزجاج، وهذه تمثل عنصرا مهما في الثقافة، هذه لا يعرفها أحد ولا يلتفت إليها مسئول أبدا، الصين على سبيل المثال تكسب من هذه الصناعات اليدوية عشرات المليارات من الدولارات وتعفيها من الضريبة على الدخل، بل الأكثر من ذلك تشتري الحكومة هذه المنتجات وتقوم بتسويقها عبر سفاراتها وملحقيها الثقافيين، وأريد ان أذكِّر بأمرهو أنه بعد اتفاقية التجارة العالمية التي كانت التمهيد النيراني للعولمة، تم تصنيف المنتج الثقافي كسلعة، لتكسب أمريكا المليارات من عائد بيع الأفلام السينمائية، قارن صناعة السينما في مصر مثلا وستعرف كيف ينظر المسئولون عندنا لفكرة الثقافة عموما.

الكاتب الصحفي والباحث مصطفي عبادة

ويشير عبادة إلى أنه حين انتبهت الدولة لفكرة الحرف اليدوية أقامت معرض تراثنا الذي يفتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي، كل عام في شهر أكتوبر، لكن العارض صاحب الحرفة عليه أن يدفع ألف جنيه لتأجير المتر الواحد بحد أدنى 9 مترات، هذا فضلا عن رسوم دخول المنتج وخروجه، ورسوم النقل، بحيث يتم «تفطيس» أصحاب الحرف، ونقطة أخرى مهمة  هي أن الدولة المصرية تملك عشرات المؤسسات الثقافية أقدمها مؤسسة الأهرام ومؤسسة الهلال، ما وضعهما الآن ولماذا لم نحاول استثمار تاريخهما الثقافي العريق والزاخر؟، وكذلك لا يمكن أن ننسى أنه رغم وجود كيان ثقافي مهم هو الهيئة العامة لقصور الثقافة التي تشكل جهازا عصبيا وتضم أكثر من 550 قصرا عاديا و 55 قصرا نوعيا مثل قصر الإبداع وقصر السينما  فإن  الجهل والأمية ما زالا يعششان في القرى والمدن المختلفة لأن الدولة المصرية صارت حساسة إزاء أي أمر يتطلب دفع أموال، وهو ما لا يستقيم مع أهمية محاربة الجهل والإرهاب، الثقافة ليست الروايات ولا دواوين الشعر، وعلى وزارة الثقافة أن تعيد النظر في طبيعة عملها بل وجودها ذاته. ويلفت عبادة إلى أن أمريكا تنفق على تصدير قواها الناعمة 8 مليارات دولار، والصين تنفق 5 مليارات والهند وفرنسا 4 مليارات دولار، والآن كوريا الجنوبية تدخل السباق وصار المسلسل الكوري يتابعه الملايين وكذلك الموسيقى الكورية، وأشهر فرقة غنائية عالمية الآن من كوريا الجنوبية، وكذلك فإن البرازيل والأرجنتين هما الدولتان رقم واحد في تطوير علم الاجتماع.

 ونحن لم يفسر لنا أحد إلى الآن ما الذي حدث منذ 25 يناير في الشارع المصري ولا لماذا تجد أفكار الجماعات المتطرفة صدى لدى بعض الشباب رغم الملايين التي زارت معرض الكتاب لكنها كانت ملايين رقمية لم تصنع ثقافة ولم تستهلك ثقافة، ونفرح بكل هذا العدد من كُتّاب الرواية.

ويختم الناقد جمال الطيب بأن العلاقة بين الفرد والثقافة علاقة عضوية ديناميكية، والثقافة من صنع الأفراد، فهي توجد في عقول الأفراد وتظهر صريحة في سلوكهم خلال قيامهم بنشاطهم في المجالات المختلفة، وقد تتفاوت في درجة وضوحها، كما أن الثقافة ليست قوة في حد ذاتها تعمل مستقلة عن وجود الأفراد، فهي من صنع أفراد المجتمع، وهي لا تدفع الإنسان إلى أن يكون سويًا أو غير سوي، بل يعتمد في ذلك على درجة وعي كل فرد بالمؤثرات الثقافية ونوع استجابته لها، وجمود الثقافة وحيويتها يتحدد بمدى فاعلية أفرادها ونوع الوعي المتوافر لهم.

الناقد جمال الطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock