«هناك طريقان لا وسط بينهما، أما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني، فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمه ومناهجه، وعقيدتنا أن الطريق الأول هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يُسلك وأن تُوجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة».. من أقوال حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
في دراسة له بعنوان «باب الله.. أزمة الخطاب الإسلامي عند الإخوان المسلمين» يتناول الدكتور «عبد الباسط سلامة هيكل» الباحث المتخصص في الفكر الإسلامي وخطاب الجماعات الإسلامية بجامعة الأزهر، خطاب جماعة الإخوان المسلمين بوصفه أحد أهم الخطابات المغذية للتطرف في العالم، وذلك عبر طرح عدد من القضايا المتعلقة بحتمية الصراع والمركزية المطلقة تحت زعم امتلاك الفهم الصحيح للإسلام وإختفاء الحدود بين المطلق والنسبي، والثوري والإصلاحي، والدعوي والحزبي، والوعظي والجهادي في خطاب الجماعة، إلى جانب أزمة الخطاب الديني العام في علاقته بخطاب الجماعات الإسلامية على إختلافها.
د. عبدالباسط سلامة هيكل
حتمية الصراع
يرى الدكتور عبد الباسط هيكل في دراسته التي جاءت ضمن كتاب بعنوان «التطرف الديني في فكر الجماعات الإسلامية.. نحو مقاربة تفسيرية»، والصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود .. للدراسات والأبحاث»، أن خطاب جماعة الإخوان المسلمين يقوم على الثنائية الفكرية المتضادة «الحق والباطل.. الإسلام والكفر.. الصديق والعدو.. أنا أو الشيطان»، فخطاب الجماعة يقوم على أنها ممثل الإسلام والحق. ورغم أن الغرب دائما وأبدا «مُشَيطن» لديها، غير أن هذا لا يمنع من مجاراته بأداء سياسي حزبي تروج فيه مصطلحات «حقوق الإنسان والديمقراطية، وحقوق المرأة والمواطنة».
وبشكل عام فإن خطاب الجماعة – وفقا للدكتور عبد الباسط هكيل- يُخرج الصراع مع الغرب من أبعاده السياسية والاقتصادية والاستراتيجية ليجعل منه صراعا وجوديا بين الأديان.. وتنظر الجماعة وفق فكرة الصراع بين الإسلام والغرب إلى حركة التاريخ بمنظور الغالب أو المغلوب، فالتاريخ في عصوره المتعاقبة يمثل كل عصر فيه كتلة واحدة إما شرقية إسلامية وإما غربية لا إسلامية.
يضيف د/هيكل: «تتسع دائرة الصراع وتتنامى المواجهة على نحو مستمر، فكل من يقف خارج دوائر الجماعة قد اختار من وجهة نظرهم أن يكون في موضع المواجهة معها، فالجماعة لا تخوض صراعا مع الغرب فحسب، بل والأنظمة الحاكمة التي تراها حلفاء تابعين للغرب، وكذا المؤسسات الدينية الرسمية وفي مقدمتها الأزهر الشريف»، وقد لخص «حسن البنا» ذلك الصراع في كتابه «رسالة التعليم» في جملة واحدة: «عادات إسلامية تحارب أعجمية في كل نواحي الحياة».
حسن البنا
المركزية المطلقة والإنعزالية
يلفت دكتور عبد الباسط هيكل النظر إلى رسالة حسن البنا للشباب والتي حملت عنوان «دعوة الإسلام في القرن العشرين أو دعوة الإخوان المسلمين»، حيث يستخدم البنا «دعوة الإسلام» كمرادف «لدعوة الإخوان» وبذلك تتحول الجماعة، بوعي من البنا أو لا وعي -وفقا لهذا الخطاب- من كونها مجرد مجموعة من المسلمين، إلى كونها مركز الإسلام ومحوره، والذي ينبغي أن يدور في فلكه الأفراد والمجتمعات، بل وينبغي أن تذوب فيه الدول يوما ما.
وبإدعاء الجماعة إمتلاك الإسلام يُصبح لها حق الوصاية على المجتمع، ومن ثم يشعر أفراد الجماعة بالتمايز عن غيرهم من المسلمين، كما أنهم بإمتلاكهم الحقيقة المطلقة، فلا مكان لنسبية الحقيقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبذا تتركز الجماعة وتتمحور حول الذات كممثل وحيد لصحيح الإسلام.
هذه الحالة من المركزية في خطاب جماعة الإخوان، والتمركز حول الذات تُكرس تدريجيا لعزلة نفسية داخل عالم الجماعة، وكلما استسلم الفرد لسلطان الجماعة كلما أُتيح له أن ينضم لصفوف «الإخوة العاملون» ومن ثم فرصة الترقي تنظيميا داخل الجماعة، حيث يشترط البنا لكي يصبح الشخص «عامل» بالجماعة: «أن تحيط القيادة علما بكل ظروفك، وأن تكون دائم الاتصال الروحي والعملي بها، وأن تستأذن في كل الخطوات المهمة، وأن تعتبر نفسك دائما جنديا في الثكنة تنتظر الأمر».
ويصبح الإنعزال ضرورة عند سيد قطب لبقاء الجماعة المسلمة لإقامة دار الإسلام: «إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها»، ويصف دكتور هيكل تلك الحالة من «المركزية والإنعزالية» بكونها تصنع نوعا من الجمود يؤدي إلى حالة من الإنشقاقات والانشطارات المتعاقبة لتلك الجماعات، فجسم الجماعة الصلب المتجمد لا يتمتع بأي قدر من المرونة ومن ثم فإن أي شخص أو مجموعة تمتلك فكرا مختلفا عليه، فعليهم بالرحيل عن الجماعة وفق قاعدة «الدعوة تنفي خبثها».
وقد نجم عن تلك الحالة من «المركزية والإنعزالية» أن وصلت بعض «الجماعات» المنشقة عن جماعة الإخوان إلى حد وصف المجتمع «بالجاهلية والكفر» ويزداد الأمر حدة في أوقات المواجهة وأزمنة الصراع، فحين تطلق الجماعات النفير العام لمواجهة خصومهم الذين يرونهم أعداء الإسلام يكون التكفير إحدى أدوات المعركة، ومن ثم فإن الجهاد لديهم يتمثل في محاربة مخالفيهم في الرأي، فمن ليس معهم، صار عدوا لهم.
ومن الألفاظ البراقة والكلمات الرنانة التي استولت على عقول الكثير من أبناء الجماعات الإسلامية، مقولة «الولاء والبراء» الولاء لجماعة المؤمنين ومناصرتها، والبراء من مخالفهم، وصولا إلى التكفير واستباحة دماء الخصوم، وتعد الجماعات الجهادية أكثر الجماعات إعلانا لذلك المبدأ، غير أن جماعات العمل السياسي مثل جماعة الإخوان المسلمين فإنها «تُسرُّ» هذا المبدأ أي أنها تعتمده كأحد مناهجها دون أن تعلن عن ذلك صراحة.
خلطٌ واضح
يتناول دكتور هيكل خطاب جماعة الإخوان المسلمين ومن ثم يصفه بكونه خطابا يتزين بكلمات رنانة وشعارات براقة، فإن بحثت في جوهره وجدته خطابا مختلطا تختفي فيه الحدود بين المطلق والنسبي، والثوري والإصلاحي، والدعوي والحزبي، والوعظي والجهادي، ويتجلى ذلك الخلط في تداولهم لبعض الكلمات مثل: «الخلافة، الدعوة، الشورى، الأمة» وتختزل الجماعة أزمة المسلمين في غياب السلطة الدينية المركزية ممثلة في الخلافة، حيث تعد الخلافة الإسلامية واحدة من دواعي تأسيس حسن البنا لجماعته.
من جانب آخر يتجلى تخبط خطاب الجماعة في كونه يجعل من طاعة قياداتهم واجبه شرعا، فهى من طاعة الله، لأن فيها التزاما بنتائج الشورى، متجاهلين مبدأ أن إلزام الشورى قبل أن يكون واجبا على القواعد التنظيمية، فإنه يقوم على إلزام القيادة برأي القواعد، الذي من المفترض أن يقدمه ممثلون لهم تم انتخابهم داخليا بشكل معلن يقوم على الشفافية، وهو أبعد ما يكون عن واقع الجماعة، التي تختار قياداتها وفقا للائحة غير معلنة.
ويغلب على جماعة الإخوان في علاقتها بفكرة الأحزاب، كونها تنحاز إلى المنطقة الرمادية التي لا يُعرف فيها ما إذا كانت جماعة وعظية دعوية أم حزبا سياسيا، فهى تتعالى بنفسها عن الحزبية، وإن كانت تشارك في المنافسة على السلطة منافسة حزبية سياسية.
ولعل تجربة تأسيس حزب «الحرية والعدالة» الذي أسسته الجماعة في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 لهو أبرز مثال على ذلك التناقض، فعقب تأسيس الحزب، أعلن مرشد الجماعة أن «الحزب طفل لم يبلغ الفطام يحتاج إلى رعاية الأم» أي «الجماعة» فصنعت بذلك واقعا سياسيا غريبا تتنافس فيه الجماعة خلف ستار حزبي لا تؤمن به، فتخلق واقعا مزيفا ينافس فيه الدينُ الثابتُ، الطرحَ البشريَ المتغير، وبدلا من أن تؤسس قناعات شعبية ببرامجها الحزبية، تُروج لحزبها بممارسات خيرية وعظية.
أزمة الخطاب الديني العام
ينتقل دكتور هيكل من تناول أزمة خطاب جماعة الإخوان المسلمين لتناول أزمة الخطاب الديني العام، ذلك أنه يرى أن خطاب جماعة الإخوان ليس منفصلا عن الخطاب الديني العام، بل هو إفراز سلبي ناجم عنه، بوصفه أحد تجليات أعراض القصور.
يرصد هيكل مظاهر قصور الخطاب الديني العام – من وجهة نظره- فيشير أنها تتمثل في كونه خطابا عموميا دعويا يخلو من التفاصيل، ومن ثم تستغل جماعة الإخوان تلك العمومية وتوجهها كيفما تشاء وفقا لأغراضها، فعلى سبيل المثال حين يقول الداعية: «علينا أن نجاهد من أجل الإسلام، وأن نحمي ديننا، ونموت من أجل الإسلام» ثم يسكت عند هذه العمومية، دون أن يفصل ماذا يقصد على وجه التحديد؟ فإن دعاة الجماعات الإسلامية يأتون ليكملوا ما بدأه الدعاة أو الوعاظ الرسميون وفقا لرؤيتهم.
يلفت هيكل النظر إلى أن غياب التفاصيل لدى الدعاة الرسميين، يرتبط بطريقة اكتسابهم للمعرفة، ذلك أنهم يحصلون على المعلومات عبر وسيط سمعي وليس عبر مصادرها الأصلية، كما أن أزمة الخطاب الديني الرسمي أنه لا يقوم على مبدأ تعددية الاجتهاد، بوصفه أحد الركائز في التعامل مع النصوص غير قطعية الدلالة، وذلك على الرغم من معرفة هؤلاء الدعاة لتعدد الآراء أو الحكم، إلا أنهم يسكتون عن جميع الآراء ويتبنون رأيا واحدا يسَوِّقُونه للجمهور العام، وكأنه الرأي الوحيد في تلك المسألة، معززين بذلك وجود خطاب ديني أحادي يُقصي المخالف ويراه مبتدعا ومضللا.
من جانب آخر يعاني الخطاب الديني الرسمي – وفقا لهيكل- من غياب منطقة «المباح، والجائز» ومن ثم فإنه يتبنى خطابا دعويا يختزل الإسلام في «واجب أو محرم» وبذلك فهو يضع «رأسه في الرمال» وفقا لوصف هيكل، في مواجهة خطاب الجماعات الإسلامية على إختلافها، حيث لا يتبنى مصارحة فكرية ودعوية واضحة حول العديد من القضايا الشائكة.
يوصي دكتور عبد الباسط هيكل في ختام دراسته بضرورة العمل على إصلاح الخطاب الديني الرسمي في إطار منظومة تقوم على تعاطٍ عقلاني للتراث وطرق تناوله ومنهجية الاستدلال في الخطاب الديني، حينها يصبح الخطاب الديني العام قادرا على مواجهة خطاب الجماعات المتطرفة على إختلافها إلى جانب إذابة تكتلات العقل الجمعي للمجتمع.