منوعات

مذكرات النحاس المجهولة.. صفحات مضيئة من بطولات الأجداد

عندما أقرأ التاريخ المصري، الحديث والمعاصر منه على وجه التحديد، يتأكد لي، أننا أمة قل نظيرها في المقاومة، نحن أمة تقاوم على مدار الساعة، ونبتكر أشكالًا من المقاومة لا أظن أن غيرنا قد سبقنا إليهالكن ساعة البناء تصبح حياتنا كأنها لوح زجاج هش، ينهار فجأة كل ما قاومنا من أجل صنعه، ونرضى بفتات المكاسب، وحتى ذلك الفتات لا نحافظ عليه، فيتسرب من بين أصابعنا، لنعود للمقاومة من جديد لا نكل ولا نمل، لكننا لا نبني، فمتى تنكسر هذه الدائرة الجهنمية التي أهلكت منا الرجال أولي العزم والأبطال الأشداء؟

بطولات ضائعة

قلت ما قلت وعيني على «مذكرات النفي» التي كتبها مصطفى باشا النحاس قبل مائة عام من عامنا هذا، وقد حققها وقدم لها المؤرخ الأستاذ الدكتور عماد الدين أبو غازي ونشرتها دار الشروق في سياق برنامجها الاحتفالي بمئوية ثورة 1919.

هناك مذكرات شهيرة للنحاس، حققها ونشرها الكاتب الأستاذ أحمد عز الدين، ولكن لغطًا شديدًا دار حول تلك المذكرات، فبعضهم قال: هى من صنع محمد كامل البنا الذي كان سكرتيرًا خاصًا للنحاس. وبعضهم قال: إنها من إملاء النحاس على سكرتيره. وقالوا آخرون: هى خليط من الأمرين، فالبنا ـ عندهم ـ قد سجل الوقائع والأحداث من وجهة نظره طبعًا ولكن بمعرفة النحاس الذي أملى على البنا بعض الصفحات.

اللغط الذي جرى مع مذكرات البنا / النحاس، لم يقع شيء منه مع «مذكرات النفى» لأنها مكتوبة بخط يمين النحاس، وهذا يقطع بصحة وسلامة نسبها إليه.

تعرضت تلك المذكرات لحوادث مثيرة كادت تضيع، وتُضيِّع علينا فرصة معرفة بطولات عظيمة قام بها جيل الآباء والأجداد الذين قاموا ما استطاعوا إلى المقاومة سبيلًا ودفعوا ثمن مقاومتهم كاملًا غير منقوص.

كتب النحاس المذكرات وهو مع سعد باشا زغلول وقيادات الوفد المصري في المنفى، بجزيرة سيشيل، وعندما كتب الله لهم العودة، بل وكتب للنحاس رئاسة الوزراء لأكثر من مرة، لم يفكر في نشرها. عاشت المذكرات في بيت النحاس، ثم ورثتها عنه قرينته السيدة زينب الوكيل، ثم تسلم مالك بيت النحاس الذي كان في حي جاردن سيتي بيته، فوصلت المذكرات، كيف لا نعرف، إلى القطب الوفدي فؤاد باشا سراج الدين، فلم يفكر في نشرها، حتى بعد أن عاد حزب الوفد إلى ممارسة دوره السياسي وأصبحت له جريدة سيّارة. ثم بعد سراج الدين اختفت المذكرات، إلى أن عثر عليها القطب الوفدي الأستاذ فؤاد بدراوي الذي تحدث بشأنها مع صديقه القطب الوفدي منير فخري عبد النور، الذي أحسن عندما رشح أبا غازي  لكي يقوم بتحقيق المذكرات والتقديم لها ونشرها.

مصطفى النحاس وسعد زغلول فى سيشيل

ما كتبته هو اختصار أرجو ألا يكون مخلًا للرحلة التي قطعتها المذكرات النفيسة الغالية، والتي حفظهاـ بعد الله، الزمان وحده، ولكنه- أي الزمان- عاقبنا فضاع منها جزء، وذلك لأن النحاس كان يكتبها في كراسات، فضاعت كراسة، ليضيع بضياعها جزء من تاريخنا. فنحن نبدو متخمين بالتاريخ، فلا نهتم لضياع جزء منه، ولله في خلقه شئون، فالدول التي بدأ تاريخها أول أمس تكاد تقدس أحجار منازلها!

الكتابة بالأمر المباشر

المنفيون، أعني سعدًا وصحبه، كانوا بالأساس جماعة من المثقفين، والمثقفون ينشغلون بالتاريخ دائمًا، يتحركون في الحياة وعيونهم على المستقبل، الذي سيصبح تاريخًا، ولذا توحدت كلمتهم على تدوين يوميات المنفى.

لم يكن أحدهم يعرف هل سيعود أم لا، وإن عاد إلى مصر كيف ستمضي حياته تحت قبضة احتلال غاشم قاموا بثورة ضده. ومع ذلك كان هناك هذا الحرص العظيم على تدوين يومياتهم لكي يقدموا شهاداتهم أمام محكمة التاريخ التي لا ترحم أحدًا.

اختار سعد وصحبه فتح الله باشا بركات للقيام بمهمة تدوين يومياتهم. وهنا نقف مع فتح الله بركات ونقول: هو حسب الروايات المتواترة الشائعة جدًا ابن أخت سعد باشا زغلول لكن هناك رواية وحيدة غير مشهورة تقول بعكس هذا، وهي أنه هو خال سعد باشا، ولكن من المقطوع به أن والدة سعد زغلول باشا من عائلة بركات.

فتح الله كتب بعض اليوميات، ولا نعرف مصيرها، وقد جعلها مذكرات شخصية، وهنا وقع الخلاف بينه وبين النحاس وسينوت حنا، فلم تعجبهما طريقته في التدوين، فحل النحاس محل فتح الله، وسنجد في اليوميات نقدًا عنيفًا قام به النحاس لفتح الله حتى أنه اتهمه بالبخل!

قصة النحاس مع فتح الله لم تقف عند هذا الحد لأن الخلاف العميق تجدد بعد وفاة سعد باشا. فقد بحث الوفديون عن زعيم يحل محل سعد، وكان الرأي السائد أن كرسي سعد لا يشغله إلا صفية زغلول  أو فتح الله بركات، لكن المخضرمين من الوفديين رأوا أن هذا الاتجاه سيجعل من الوفد حزبًا عائليًا وليس حزبًا للأمة، أما الطامعين من الوفديين فقد بحثوا عن شخصية ظنوا أنهم سيحكمون من خلف ظهرها، فوقع اختيارهم على النحاس باشا، فهو هادئ الطباع مسالم. اختاروا النحاس ليكون الرجل الرمزي فباغتهم جميعًا بصلابة ثورية لم يظنوا أنه يتمتع بها، وقاد الوفد في أحلك الظروف إلى بر الأمان حتى قيام ثورة يوليو 1952.

ماذا كتب النحاس؟

من البداية يقرر أبو غازي: «أن هذه المذكرات كتبت لتُنشر وأنها مذكرات «رسمية»ينطبق على هذه المذكرات مفهوم اليوميات، فقد دونّها مصطفى النحاس بشكل يومي، وإن كان يبدو بوضوح أنه قد بدأ في تدوين الكراسة الأولى بعد بداية الأزمة التي انتهت بنفي سعد ورفاقه، لكن باقي المذكرات كما يتضح من أسلوبها، كانت يوميات يدونها الرجل في حينها، باستثناءات قليلة؛ لكن هناك تفاوتًا واضحًا في ما كان يكتبه في كل يوم وفقًا للأحداث. فبعض الأيام يشغل عدة صفحات وبعضها  يشغل سطورا قليلة، وبعضها لا يدون فيه أحداث إطلاقًا».

ويضيف أبو غازي: «ما وصل إلى أيدينا من المذكرات هو خاص بالفترة من 19 ديسمبر 1921 حتى 12 مارس 1923، أي أنها تبدأ قبل اعتقالهم بأربعة أيام، ولا تستمر حتى نهاية فترة النفي، كما أن هناك فجوات طويلة فيها لم تصل إلينا أو لم يدون فيها مصطفى النحاس مذكرات».

مذكرات النفى بخط مصطفى النحاس

من قلب اليوميات تشرق مصر لتكتسح عتمة المنفى، سيل من البرقيات والرسائل لم يكن ينقطع كان يصل إلى المنفيين بطريقة يومية، وعندما كانت الرسائل والبرقيات تتأخر لظروف رقابة الاحتلال، لم يكن المنفيون يسكتون، بل كانوا يبادرون بالاحتجاج!

من تلك اليوميات سنعرف أن الثورة ظلت مشتعلة رغم نفي قياداتها، فقد كان للثورة تنظيم حديدي، ثم كانت هناك استجابة شعبية عارمة تؤيد أهدافها.

سنعرف من اليوميات حرص المنفيين على الالتزام بكل العبادات بل والطقوس والعادات المصرية، فهناك قصة أسرف النحاس في ذكر تفاصيلها، وملخصها أن نقاشًا حادًا قد جرى بينه وبين فتح الله بركات، وتفوه خلاله بركات بكلمات جعلت دم النحاس يغلي، فقرر الانصراف عن مائدة الغداء التي كان على رأسها (الرئيس) وهو اللقب الذي كان النحاس يصف به سعد باشا دائمًا.

دعا الرئيس ومكرم عبيد وسينوت حنا النحاس للعودة إلى المائدة لكنه رفض، وفي صباح اليوم التالي، تذكر النحاس أن اليوم يوافق وقفة عيد الأضحى، فهدأت نفسه ورأى مصالحة فتح الله بركات وشقيقه عاطف تقديسًا للعيد!

مكرم عبيد، ومصطفى النحاس

وبالفعل صالحهما وذبح المنفيون خروف الأضحية كأنهم في مصر وليس في منفى لا يعرفون متى سيكون زمن مغادرتهم له.

لا يصلح مع تلك اليوميات تلخيص، فقد كُتبت لتُقرأ كاملة، ولنعرف أي رجال كان أجدادنا.

ختامًا يجب أن أتوقف مشيدًا بأمانة المحقق «عماد أبو غازي»، فالنحاس باشا لأسباب لا نعرفها كان يترك فجوات في نصه، وقد تكون الفجوة كلمة أو جملة أو فقرة، وعندما تسلم أبو غازي الكراسات لم يضع حرفًا في سياق اليوميات، فقد نشر النص كما وصله، ثم عمل في الهوامش لا المتن على سد الفجوات مستعينًا بقراءات موسعة تناولت تلك الفترة، فإن لم يجد ما يسد به الفجوة، تركها على حالها، وتلك الأمانة قلت بين ناس زماننا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock