ما إن تسلم حافظ الأختام السنية بقصر عابدين برقية تلغرافية تحتوي على فرمان من السلطان العثماني محررة باللغة التركية موجهة إلى «الخديوي إسماعيل باشا خديوي مصر سابقًا»، حتى أصيب موظفو الدور الأرضي من سراي الحكم بحالة من الارتباك، «أسقط في أيديهم جميعا، وعلا الاصفرار والاضطراب جباههم جميعًا».
الخديوي إسماعيل
احتوت البرقية التي وصلت صباح 26 يونيو من عام 1879 فرمانا سلطانيا يقضي بعزل الخديوي إسماعيل خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، والذي حكم البلاد من عام 1863 خلفا لعمه محمد سعيد باشا، إلى أن تم خلعه بضغوط إنجلترا وفرنسا.
محمد سعيد باشا
حمل شريف باشا رئيس الوزراء البرقية وذهب بها إلى إسماعيل ففضها، وإذا بها من الصدارة العظمى بالآستانة وبدأ في قراءتها بثبات وهدوء جديريْن بالإعجاب، بحسب وصف المؤرخ إلياس الأيوبي في كتابه «تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا».
فرمان عزل الخديوي اسماعيل.. والتنصيب
«إن الصعوبات التي نجمت أخيرًا، في أحوال مصر الداخلية والخارجية، بلغت مركزًا عسيرًا، وقد ينتج عن استمرارها كما هي خطرٌ لمصر وللدولة العثمانية.. ومن أهم واجبات الحكومة السلطانية إيجاد الوسائل لتقرير الطمأنينة والأمن والرفاهية بين الأهالي، وإنما صدرت الفرمانات لهذه الغاية عينها. فبما أنه قد ثبت أن بقاءكم في منصب الخديوية لن ينجم عنه سوى مضاعفة الصعوبات الحالية، وزيادتها خطورة، فجلالة مولانا السلطان بناء على تداول مجلس وزرائه، قرر تعيين صاحب السعادة محمد توفيق باشا في منصب الخديوية، وأصدر إرادته الهمايونية بذلك، وقد أبلغ هذا القرار السامي إلى سعادته بإشارة برقية على حدة، وعليه فإني أدعوك إلى التخلي عن شئون الحكم طبقًا لأوامر جلالة السلطان».
محمد توفيق باشا
انتهى إسماعيل من قراءة البرقية، ثم التفت بسكون إلى شريف باشا وقال «أدع سمو توفيق باشا حالًا»، فخرج شريف باشا من حضرته ليزف بنفسه البشرى إلى الخديوي الجديد كما زف نبأ العزل إلى الخديوي السابق.
محمد شريف باشا
يقول الأيوبي وهو مؤرخ معاصر لتلك الفترة: على أن أسلاك التلغرافات كانت قد أعقبت بأسرع ما أمكنها البرقية المرسلة إلى إسماعيل ببرقية أخرى أرسلها الباب العالي عينه إلى توفيق، سلمت إليه في قصره بالإسماعيلية، ففضها، وإذا بها من الصدر الأعظم أيضًا، وفحواها
«إن جلالة مولانا السلطان قد أصدر إرادته الهمايونية بتعيينك خديوي مصر، وسوف يرسل لك الفرمان الشاهاني بالكيفية الرسمية المعتادة، وقد كلف إسماعيل باشا بتلغراف آخر بالانسحاب من شئون الحكومة، فيلزمك بناء على ذلك، حالما تصل هذه البرقية إليك، أن تستدعي جميع العلماء، والموظفين، ووجهاء البلاد وأعيانها، ومستخدمي الحكومة، وتبلغهم مضمون الإرادة الشاهانية الخاصة بتعيينك، وتباشر شئون الحكم حالًا، فإن هذا التعيين السامي العادل مكافأة لكفاءتك، وسيكون ارتقاؤك السدة الخديوية بدء عهد نظام ورقي يسود على القطر الملقاة زمام شئونه إلى حكمتك».
وجد شريف باشا الأمير محمد توفيق وهو على وشك ركوب مركبته، فتخلى عن العربة التي أتى فيها، وركب بصحبة الخديوي الجديد، وعاد معه إلى عابدين. وفي الطريق سلمه توفيق، البرقية الواردة إليه، فقرأها شريف وقال: إن المناداة به خديويًّا على مصر، المنصوص عليها في تلك الإشارة التلغرافية، يجب أن تتم بعد ظهر ذلك اليوم عينه في قلعة الجبل.
ولما وصلا عابدين، بقي شريف في الدور الأرضي، وصعد توفيق إلى حيث كان أبوه في انتظاره، وحالما دخل الغرفة التي كان إسماعيل جالسًا فيها بصحبة أفكاره وشجونه مذ تركه شريف، ووقعت عين والده عليه، نهض إسماعيل وتقدم للقياه، وأخذ يده ولثمها قائلًا: «إني أسلِّم على أفندينا»، ثم قبَّله على وجنتيه، وتمنى له أن يكون أوفر حظًّا وأكبر سعادة من أبيه، وبعد ذلك انحنى أمامه، ودخل دائرة حريمه، تاركًا لابنه، المتأثر تأثرًا عميقًا، منصبه وقاعة عرشه.
استدعى شريف باشا العلماء والوجهاء والأعيان، وقرأ عليهم الفرمان السلطاني، ودوت المدافع معلنة أن محمد توفيق أصبح خديوي مصر. استقبل الخديوي الجديد بعد ذلك وفود المهنئين، من قناصل وكبار موظفين وأعيان، وعلماء ورؤوس أديان، في القاعة عينها التي كان أبوه قابلهم فيها، منذ نيف وست عشرة سنة، ووعد جموعهم بأنه سيبذل جهده ليجعل البلاد سعيدة.
الخديوي إسماعيل وابنه توفيق
الخديوي إسماعيل في المنفى
فلما كان المساء أخطر إسماعيل ابنه بأنه يرغب في مغادرة القطر نهاية الشهر، ولكنه لم يعين وجهة السفر. فقد كان يرغب في أن يقيم في الآستانة، وإلا ففي أزمير، لكي يكون في بلاد ملائمة لطريقة معيشته الشرقية، واستأذن السلطان في ذلك.
لكن، ووفقا لما أورده الأيوبي في كتابه، فإن السلطان عبد الحميد – ولم تكن قدماه قد ثبتت على عرش أجداده بعد- خاف جيرته، وأبى أن يقدم له الضيافة في بلاده، وربما خاف أيضًا وخزات ضميره، لأنه بعد خلع إسماعيل أخذ يفكر في إلغاء جميع الامتيازات التي كانت منحت له.
السلطان عبد الحميد
علم ملك إيطاليا برفض عبد الحميد لطلب إسماعيل بالسماح له بالعيش في الىستانة أو أزمير، فأسرع ووضع تحت تصرف خديوي مصر السابق «صديق والده» قصرًا من قصوره في ضواحي نابولي. فقبل إسماعيل ضيافة الملك أمبرتو.
وفي 30 يونيو عام 1879م تحرك إسماعيل من سراي عابدين إلى المحطة بصحبة عدد من نسائه وولديه حسين وحسن، أما إبراهيم فكان في إنجلترا، بينما كان فؤاد لا يزال صبيًّا لا يتجاوز الحادية عشرة من العمر، ولما بلغ المحطة، وحانت ساعة السفر، عانق إسماعيل ابنه توفيق عناقًا أخيرًا، وقال له، وهو يجهش بالبكاء: «كنت أود يا أعز البنين، لو استطعت أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك ارتباكًا، على أني واثق بحزمك وعزمك، فتوص بإخوتك وسائر الآل برًّا، واتبع رأي ذوي شوراك، وكن يا بني أسعد حالًا من أبيك».
ثم التفت إلى جمهور الحاضرين، وقال: «إني، وأنا تارك مصر، أعهد بالخديو ابني إلى ولائكم وإخلاصكم»، فتقدم محمد توفيق، وقبل يد والده، واستودعه، واستودع إخوته المسافرين معه، الله عز وجل.
ويكمل الأيوبي وصف مشهد الرحيل قائلا: قام قطار الخديوي وإذا ببعض الزغاريد تعلو في الأفق مودعة له بتهكم، فاستوقفت البحث والاستفهام، فعلمت بأنها صادرة عن نساء المفتش إسماعيل صديق- شقيق الخديوي إسماعيل من الرضاعة ووزير ماليته وقيل أنه تخلص منه وأغرقه في النيل، وأنهن أردن بها الشماتة بالخديو المخلوع، والانتقام منه.
إسماعيل صديق
ولما بلغ القطار محطة الإسكندرية، ركب إسماعيل ومن معه عربات مقفولة، وساروا إلى الترسانة، ومنها في زوارق إلى ظهر «المحروسة»، وكانت في انتظارهم، وكان ظهرها مكتظًا بذوي المقامات الرفيعة، وكبار الجاليات الغربية، الآتين لتوديع الخديوي الأول، وداعًا أخيرًا، اعترافًا منهم بما كان له من منزلة في القلوب، بالرغم من كل المطاعن التي وجهها إليه أعداؤه.
أطلقت طابية نابليون والسفينة الإنجليزية «ريوپرت» الراسية في الميناء مدافعهما تحية للمسافر، وإجلالًا له فكان ذلك آخر إكرام قُدم له في مصر.
هكذا انتهى حكم الخديوي إسماعيل الذي أغرم بالنظام الأوربي منذ أن كان طالبا في فرنسا يدرس العلوم الهندسية والرياضية والطبيعية، فلما تربع على عرش المحروسة حاول جاهدا بحماس منقطع النظير أن يحول البلاد إلى «قطعة من أوربا»، فعمل على تنفيذ عدد من المشروعات التنموية في القاهرة غيرت من شكل العاصمة على المستوى المعماري والبنية التحتية، وكما أقام مشروعات زراعية في محافظات الدلتا، وأنشأ التلغراف الحديث، ووسَّع من السكك الحديدية التي استطاعت الوصول إلى الفيوم وأسيوط فضلا عن محافظات الدلتا.
كيف تم عزل الخديوي اسماعيل
إلى جانب إنفاقه على المشروعات والتحديث كان إسماعيل يتفنن في ضروب الإسراف والبذخ، فكان لا يمر عام إلا ويقضي بالآستانة أو بأوروبا ردحا من الزمن ينفق فيه الأموال بغير حساب، وكانت رحلاته وسياحاته في العواصم والمدن الأوروبية تكلف البلاد الآلاف بل الملايين من الجنيهات، وكلف البلاد ملايين الجنيهات على بناء القصور وزخرفتها وتأثيثها، وكل ذلك بالديون، حتى أنه بعد 13 عاما من حكمه بلغت القيمة الكلية لديون مصر 91 مليون جنيه إنجليزي.
حاول إسماعيل أن يسد العجز في الميزانية عن طريق الضرائب المختلفة، إلا أنه لم يفلح في ذلك، فلجأ إلى الاستدانة من الخارج، وتدافعت البنوك والمؤسسات المالية على إقراضه، ولكن سماسرة الديون وقناصل الدول أخذوا ما يقرب من 40 مليون جنيه إسترليني من قروض مصر البالغة 90 مليونًا، فتعثرت مصر عن السداد، واضطرت إلى بيع أسهمها في قناة السويس بمبلغ هزيل للإنجليز، وهو ما جعلها على حافة الإفلاس والخراب المالي، وكان ذلك ذريعة لمزيد من التدخل الأجنبي، فأنشأت الدول الدائنة «صندوق الدين»، وعينوا مراقبَيْن مالييْن: أحدهما إنجليزيي، والآخر فرنسي؛ لمراقبة إيرادات ومصروفات البلاد، بل إن الوزارة دخلها وزيران أوربيان لأول مرة في تاريخ مصر.
وانتهى الأمر إلى طلب الدائنين فرض الوصاية المالية الكاملة على مصر، وأن يكون لسداد الديون الأولوية المطلقة، وأشار إلى ذلك عدد من المؤرخين وعلى رأسهم عبد الرحمن الرافعي الذي قال في كتابه «عصر إسماعيل»: أدى هذا التعنت الأوروبي إلى انتفاضة وطنية تلقائية في أبريل 1879، جمعت قادة وطوائف الشعب المصري المختلفة، دعوا خلالها إلى اكتتاب عام لسداد قسط الدين الذي تعثرت الدولة في سداده، ويبلغ 1.5 مليون جنيه إسترليني، وتم تحصيله على الفور وسداده.
وبحسب الرافعي دعا هؤلاء إلى إقامة حياة نيابية كاملة، والعمل على سداد الديون والوقوف أمام التدخل الأجنبي، والتقوا الخديوي إسماعيل الذي أقر مطالبهم، وهو ما أثار مخاوف الدول الغربية، وقدم قنصلا بريطانيا وفرنسا إنذارا إلى إسماعيل بأن يرجع عن تأييد المشروع الوطني، وإلا فإنهما سيتخذان الأساليب المختلفة لعزله.
رفض إسماعيل إنذار القنصليْن، وأصدر مرسومًا بتسوية الديون، وإزاحة الوزيريْن البريطاني والفرنسي من الوزارة، وشكل شريف باشا وزارة وطنية؛ فتعالت الاحتجاجات الغربية من أصحاب الديون، وبدا المشهد أن أوروبا قد أعلنت الحرب على إسماعيل، وسعت لعزله وكسر شوكته، وكان أحد أشكال حربها هو أن تلجأ إلى الباب العالي لتحصل منه على فرمان بعزل الخديوي الذي تفاقمت ديونه بسبب إسرافه؛ فناصر إسماعيل الحركة الوطنية، وقبل بمبدأ مسؤولية الوزارة أمام مجلس النواب، وسعى لمقاومة التدخل الأوروبي.
ويبدو أن الدول الأوروبية أدركت أن سعيها لدى السلطان العثماني لعزل إسماعيل يعطي السلطان حقًّا قد فقده منذ زمن طويل، فحاولت الضغط على إسماعيل للتنازل عن عرشه، ولكنه تعامل معهم تعامل النمر الجريح، فرفض طلبهم، ورفض التنازل، وقرر أن يخوض المعركة حتى النهاية، غير أن الأوضاع لم تكن في صالحه؛ فكان يسبح ضد التيار، ولم يستطع إخراج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه بداخله.
ولم تجد الدول الأوروبية بُدًّا من اللجوء إلى السلطان العثماني لعزل إسماعيل، ووجدت هذه الدول الطريق معبَّدًا أمامها في الآستانة؛ لأن الدولة العثمانية لم تقبل نزعات إسماعيل الاستقلالية، كما أنها كانت في حاجة إلى تأكيد هيبتها وسلطتها؛ إذ لا توجد سلطة أقوى من إسقاط صاحب العرش عن عرشه، وإقصاء الملك عن ملكه!
وانتهى عهد إسماعيل بصدور الفرمان العثماني المشار إليه في بداية المقال، وصدور آخر بتنصيب ابنه الأكبر توفيق حاكما لمصر. ويقول الرافعي عن إسماعيل إنه «كان حقا عظيما في موقفه، شجاعا في محنته؛ فشجاعته جعلته يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوروبية جمعاء.. فآثر المقاومة على الاستمساك بالعرش».
رحل إسماعيل على ظهر «المحروسة» إلى نابولي وهناك أقام في قصر «الفافوريتا»، ثم تنقل بعد ذلك في زيارات طويلة بين باريس ولندن وفيينا، وفي تلك العواصم حاول إقناع دوائرها بالضغط على الآستانة لإعادته إلى عرش مصر، خاصة بعد تأزم أمور ابنه توفيق في حكم البلاد.
لكن سرعان ما تبخر حلمه بالعودة إلى عرش مصر بعد هزيمة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، حينها قرر أن يقيم في الآستانة، وطلب من السلطان السماح له بالإقامة في قصره على البسفور.
عودة إلى مسجد الرفاعي
ويذكر إلياس الأيوبي في كتابه أن إسماعيل التقى في قصره على البسفور حفيده عباس حلمي الثاني، في زيارته الأولى للآستانة، «سُرَّ إسماعيل به كثيرًا، ويقال: إنه التمس منه الاستئذان له بالعودة إلى مصر، لأن حنينه إليها بات لا يحتمل.. لكن عباس الثاني لم يفعل، إما لعدم رغبة منه مبنية على تخوف من جده، وإما لسهو مبني على عدم محبة له».
عباس حلمي الثاني
استمر إسماعيل في منفاه حتى وافته المنية بالآستانة حتى 2 مارس سنة ١٨٩٥، وكان عمره حينها خمس وستون سنة، ونقل جثمانه إلى مصر على ظهر الباخرة «توفيق رباني».
الخديوي إسماعيل في اواخر ايامه
وصلت الباخرة إلى الإسكندرية في 10 مارس، واستقبل الخديوي عباس حلمي جثمان جده مع أمراء الأسرة العلوية وكبار رجال الدولة، وشيعت جنازته من مسجد الرفاعي بالقاهرة في مشهد مهيب، شارك فيها رجال الجيش والقناصل والمشايخ والتجار والأعيان والعلماء وطلبة المدارس ومختلف أطياف الشعب.