في زيارة عمل إلى هلسنكي أخيراً، جمعتني بأطراف إثيوبية ورشة عمل تناقشنا فيها كثيراً عن سد النهضة، وفي جلسة عشاء على خليج فنلندا أفصح فيها الطرف الإثيوبي الذي كان يعمل في الخارجية أنه ليس هناك مهددات حقيقة تقف أمام الرغبة الإثيوبية في استكمال بناء سد النهضة، وأن الأطراف لا الإقليمية ولا الدولية تملك أوراق ضغط، وأن الإثيوبيين يرفضون الفيتو المصري الذي قيدهم طويلاً، وحينما تحدثت أنه لا وجود لفيتو مصري خصوصاً مع الاعتراف بالسد في اتفاق المبادئ، ولكن هناك محددات دولية حاكمة للدول المشاطئة لنهر مشترك، وأيضاً عن محددات الاستقرار الإقليمي، بدا الرجل بعيداً عن هذا النوع من المعطيات مزهواً بالقدرة الإثيوبية كما تبدو له.
وبطبيعة الحال، وجدت من جانبي أن هذا تقدير شخصي لا ينتبه إلى حساسية الموقف على المستويين الإقليمي والدولي، ولكن يبدو لي الانسحاب الإثيوبي من مباحثات واشنطن كان مصداقاً لهذه الذهنية الإثيوبية التي تدفعها عوامل غير واقعية، خصوصاً أنها قررت الانسحاب في اللحظة الأخيرة من جولة واشنطن النهائية للتوقيع على اتفاق كان محلاً لرضا جميع الأطراف.
والمفارقة أن تصريحات المسؤولين رفيعي المستوى أو البيانات الرسمية الصادرة عن العواصم الفاعلة في الملف واشنطن والقاهرة والخرطوم وأديس أبابا، كانت الإشارات فيها واضحة سواء في بيانات وزارات الخارجية في واشنطن والقاهرة، وكذلك تصريحات سامح شكري وزير الخارجية المصري، وكذلك وزير الخارجية السوداني الذي كان يحرص على تأكيد هذا المعنى، فما الذي جرى في اللحظات الأخيرة ليجعل التراشق واضحاً ليس بين القاهرة وأديس أبابا كالعادة، بل بين واشنطن وأديس أبابا.
يبدو أن أديس أبابا وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام التزام قانوني يأخذ صفة دولية، لطالما حاولت التملص منه منذ عام 2014، عبر أساليب من المناورات مارستها كافة أطراف الدولة الإثيوبية وكل رؤساء وزرائها المتعاقبين، سواء عبر العبارات الإنشائية التي تم استخدامها في اللقاءات الرسمية مع المسؤولين المصريين والسودانيين على حد سواء، وهي الخالية من محتوى الالتزام على لسان كل رؤساء الوزراء المتعاقبين وآخرهم آبي أحمد، وقد اختلف هذا الخطاب ما بين الخرطوم والقاهرة، حيث بشر رؤساء وزراء إثيوبيا السودانيين بكهرباء من السد بسعر مخفض، وزراعة دائمة لأكثر من محصول في العام، بل والتهنئة بانتهاء فيضان النيل الأزرق الذي كان يصل حتى الخرطوم ويغرقها. متجاهلة في ذلك الإفصاح عن معطيات السلامة الهندسية للسد، وهو الإفصاح الذي طالبت به اللجنة الدولية بشأن سد النهضة في مايو 2013، التي كان أطرافها خبراء سدود ومياه مستقلين عن أطراف الأزمة.
أما في القاهرة فقد أقسم الإثيوبيون بعدم الإضرار بشعب مصر، أو منع تدفق نهر النيل، وغيره من الوعود ولكنهم حتى أكتوبر 2019 لم يحددوا بالضبط ما هي بنود عدم الإضرار، ولعل ما يفسر هذه الحالة الإثيوبية ثلاثة محددات.
أولاً: تقدير إثيوبي بأن نهر النيل هو نهر يقع تحت السيادة الإثيوبية، بالمخالفة للقانون الدولي حيث أن النيل ينبع ويجري في أراضي 11 دولة أفريقية، من حقها الاستفادة الكاملة منه، ومن ثمَّ تحويل هذا المورد المائي إلى سلعة تباع وتشترى مثل النفط.
وكانت إثيوبيا قد انخرطت بالفعل في مشروع لتسعير المياه عام 2007 عبر الأمم المتحدة، وبهندسة إسرائيلية، كادت تكون مرئية، ولكن مصر أحبطت هذا المسعى ونجت منه، ومع هذه النجاة خططت الأولى أن تجمع كل قطرة ماء على أراضيها، الأمر الذي ربما يشير إلى أسباب اختيار موقع السد في نهاية الحدود الإثيوبية وعلى بعد 40 كليو متراً فقط من حدودها مع السودان.
ثانياً: تقديرها بضرورة تحول الوزن الإقليمي الإثيوبي من وزن فاعل في القرن الأفريقي إلى وزن مهيمن على التفاعلات في هذه المنطقة المؤثرة بالتجارة والمصالح الدولية والأفريقية، وهو مشروع بدأ مع مليس زيناوي عام 1995، عبر بلورة مشروع داخلي يضمن استقرار المكونات القومية الإثيوبية المتناحرة تاريخياً، وذلك إلى حد السماح لأي قومية بإعلان رغبتها في حق تقرير المصير طبقا للمادة 39 من الدستور الإثيوبي، بينما كانت مكوناته الإقليمية مسيطرة على التفاعلات في الصومال ومقاومة لأي دور مصري فيها.
وفي هذا السياق فشلت محاولات الجامعة العربية في تسعينيات القرن الماضي في تحقيق المصالحة الصومالية، بل نجحت إثيوبيا في تجريم هذه المجهودات، كما أقدمت إثيوبيا في عهد آبي أحمد بقيادة المصالحات بين دول القرن الأفريقي المتناحرة بسبب خلافات حدودية في أغلب الأحوال.
ثالثاً: توظيف الورقة المائية في التأثير بمصر وإضعافها إقليمياً، لخطوة لتحقيق الوزن الإثيوبي المطلوب، ومن هنا تم اعتبار الأولى منافساً للأخيرة لدرجة ترقى إلى العدو بسبب استفادتها من مياه النيل. وكان هذا التقدير الإثيوبي واضحاً في إعلان الدولة الإثيوبية عام 2002، وتوجهاتها الجديدة في السياسيات الخارجية، وهو ما يبدو أن القاهرة ما لم تنتبه إليه في حينه.
وقد استفاد التوجه الإثيوبي من التقدير الدولي التاريخي، حيث كتب اللورد كرومر في بداية القرن أن من يريد أن يتحكم في حاكم القاهرة فعليه بالنيل، وبطبيعة الحال يتمثل الإسرائيليون هذه المقولة، خصوصا أن أساطيرهم التاريخية أن تكون أراضي إسرائيل من النيل إلى الفرات، كما أن المشروعات المطروحة إسرائيلياً تدور حول الحصول على مياه النيل، ولعل أبرزها مشروع «ليشع كالي»، وهو المشروع الذي أسس لفكرة نقل مياه النيل عبر سيناء وحاول تنفيذه الرئيس السادات، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، ولكنه فشل في ذلك، نتيجة الرفض الشعبي المصري.
هذه المحددات الإثيوبية هي التي جعلت الاستراتيجية الإثيوبية قائمة على الوصول إلى محطة الملء الأول لبحيرة السد في يوليو المقبل دون اتفاق مع دولتي المصب، أي سياسة فرض الأمر الواقع، واستخدمت في ذلك آلية التلاعب بالوقت وتحييد السودان، ومناهج التفاوض الإسرائيلية المعروفة في إطار العلاقة مع الفلسطينيين بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو عبر 21 جلسة مباحثات بين الأطراف في عواصم كل من مصر والسودان وإثيوبيا اعتباراً من نوفمبر 2011 وحتى أكتوبر 2019، بالإضافة إلى تسع جلسات تفاوض في واشنطن بعد أن دخلت كمراقب دولي لهذه المباحثات مع البنك الدولي اعتباراً من نوفمبر 2019، وحتى فبراير 2020، ولكن يبدو أن إثيوبيا اضطرت أن تعلن حقيقة موقفها، وصرحت للمرة الأولى عن أهدافها الاستراتيجية بعد بيان وزير الخزانة الأميركي عقب انسحابها، الذي جاء فيه بوضوح أنه لن يكون هناك ملءٌ مائي أولي لبحيرة سد النهضة دون اتفاق، ودون مراعاة لشروط السلامة الهندسية لجسم السد.
وقد عبّر الإثيوبيون عن خيبة أملهم في الجانب الأميركي في البيان الذي صدر مساء 29 فبراير عن مجلس الوزراء الإثيوبي، وأوضحوا بلا مواربة هذه المرة أن عدم وجود أديس أبابا للتوقيع على الاتفاقية بسبب احتياجها مزيد من الوقت للمراجعة والتقييم. وهو ما عبرت عنه سابقاً بالتعلل بظروف ما قبل الانتخابات، والصراعات الداخلية ولكن في النقاط الأساسية قالت إنها، أولاً، عازمة على البدء في التخزين المبدئي للسد في ضوء الاستخدام المنصف للمياه، وعدم الإضرار الجسيم بدولتي المصب اتساقاً مع ما جاء في إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في 23 مارس 2015. ولكنها لا توافق على ما جاء في ذات الاتفاقية عن قواعد ملء وتشغيل السد، لأنها تعكس فقط رأى مصر وليس الدول الثلاث، وللمفارقة كانت توافق إثيوبيا على المسودة في المحطة النهائية ولم تفصح عن تحفظات، بشهادة الجانب الأميركي. ثانياً، أنها قامت بجميع إجراءات السلامة الإنشائية للسد كما جاء في تقرير اللجنة الدولية وباعتراف مصر والسودان في بند 8 من إعلان المبادئ، وستستمر في هذه الإجراءات لضمان السلامة الإنشائية للسد. ثالثاً أن أديس أبابا لا تزال ملتزمة بالتواصل والتفاوض مع كل من مصر والسودان حتى التوصل إلى توافق حول قواعد. وهو ما يعني ببساطة أن التفاوض بحد ذاته هو هدف إثيوبي.
وبطبيعة الحال، يمكن تحديد الخسائر الإثيوبية في هذه المرحلة بأنه فقدت القدرة نهائياً على المناورة السياسية في موضوع سد النهضة وتعرضت مصداقيتها إلى الانهيار على المستوى الدولي، كما أن حجم الثقة مع السودان يتعرض لتآكل سريع، ربما عكسته اهتمام المسؤولين السودانيين في مباحثات واشنطن بمسألة سلامة السد من الناحية الهندسية وتصاعد مخاوف الرأي العام السوداني إزاء هذه المسألة، وهو ما تعبر عنه حالياً عشرات الصفحات السودانية على فيسبوك.
نقلا عن: إندبندنت عربية