منوعات

لطفي الخولي الذي عرفنا قيمته متأخرا «رؤية ذاتية»

من بين العشرات من قادة اليسار الكبار، سواء من الناصريين أو الماركسيين، الذين عرفتهم، فإن الأستاذ «لطفي الخولي» رحمه الله، له منزلة خاصة في القلب والعقل والوجدان، فهو من تشرفت بمعرفته عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية، ومرت السنوات لأكون زميلاً له في قيادة حزب التجمع في زمن «خالد محيي الدين» عندما كان «حزب التجمع» هو رأس المقاومة لسياسات السادات الذي إنقلب على سياسة سلفه الكبير جمال عبد الناصر

لقاء التلميذ بالأستاذ

كانت البداية في ديسمبر عام ١٩٦٦ عندما نشرت مجلة الطليعة اليسارية التي كان يرأسها الأستاذ «الخولي» مقالاً لي بعنوان «نحو وحدة الاشتراكيين، فكراً وعملاً في مجتمعنا» وبعد نحو أسبوع تسلمت خطاباً من بريد مدرستي، مدرسة «أحمد عرابي» الثانوية بالزقازيق، يطلب مني فيه الأستاذ «لطفي» مقابلته في مكتبه بجريدة الأهرام العريقة. فوجئت بالخطاب ومحتواه، وبقدر ما كان مصدراً للسعادة، بالنسبة لي، فقد كان موضعاً لتحذير رقيق من ناظر المدرسة، الأستاذ «حليم جرجس سعد» فلا أنسى كلماته ووجهه السمح وهو يقول لي: «يا ابني انت لسه صُغّير عَلى الشيوعية، أعرف أنك مسؤول وحدة منظمة الشباب في المدرسة، وايه اللي جاب الشيوعية للناصرية؟».

لطفي الخولي

استمعت بكل أدب لهذا التحذير الرقيق، والذي حمدت ربي أنه جاء من الأستاذ «حليم» ولم يأت من وكيل المدرسة الرهيب الأستاذ «جودة فرج» الذي كُنَّا نطلق عليه «عشماوي» لفرط قسوته، فَلَو وقع الخطاب في يده، لكان أقل العقاب هو الإبعاد عن الدراسة لعدة أسابيع، وعدم السماح بالعودة إلّا مع وليّ أمري. ذهبت الى القاهرة، والتقيت بالأستاذ «لطفي» وكانت المفاجاة بالنسبة له، أن من دعاه للقائه هو  طالب ثانوي وليس مُدرساً!! وقد غرس هذا اللقاء الإنساني منذ تلك اللحظة في قلبي محبة راسخة للطفي الخولي، حيث كان احتفاؤه بي واضحاً، وازدادت تلك المحبة بعد ذلك خلال السنوات التالية والعاصفة، والمواقف العصيبة، التي تيقنت خلالها  أنه، فارس شُجّاع، ومُفكر كبير، ومُقاتل صُلب، ومُجدد من مجددي الفكر الإشتراكي في مصر والوطن العربي…. كانت صفة «الشجاعة» هي مُفْتاح شخصية هذا الرجل الكبير، وللدلالة عَلى صحة ما أقول، أكتفي هنا بموقفين شخصيين وآخر عام، أما الموقف الشخصي الأول فهو نشره لدراسة لي دفاعاً عن «منظمة الشباب» في عدد شهر سبتمبر من عام ١٩٧١، رداً عَلى حملة ظالمة عَلى «المنظمة» أطلقتها صحافة الرئيس «السادات» وبتوجيهات مباشرة منه، إثر أحداث مايو ١٩٧١، والتي وصفت هذا التنظيم الشبابي الرائد في تاريخ مصر بأنه من ذيول «مراكز القوى»!!.

وبنفس القدر من الشجاعة نشر لي دراسة موسعة بعنوان «نحو وحدة اليسار المصري» في آخر عدد من أعداد مجلة «الطليعة» مارس ١٩٧٧، وكنت وقتها رهن الاعتقال في سجن طرة، بتهمة عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري. وقد أصدر «السادات» قراراً باغلاق الطليعة  مُتهماً إياها، و رئيس تحريرها الأستاذ «لطفي الخولي» بالدفاع عن الانتفاضة الشعبية، والتي عرفت  في كل صحف العالم، بأنها «ثورة الخبز» فيما أسماها السادات بـ«انتفاضة الحرامية» أما الموقف العام، فقد عاصرته خلال الاجتماعات العاصفة للأمانة العامة لحزب التجمع، التي ناقشت صيغة التجمع كإطار جامع لكل تياراته، فقد قاد «لطفي الخولي» حملة شُجاعة للدفاع عن صيغة التجمع، ومشاركة كل فصائله عَلى قدم المساواة في القيادة والحركة والنشاط، دون سيطرة أحد الفصائل الحزبية الشيوعية عليه، اذ تكشفت محاولات هذا الفصيل جلية بكل وضوح  ورغبته المُميتة للسيطرة عَلى الحزب.

كُنتُ شاهداً عَلى تلك المعركة كعضو في الأمانة العامة، والأهم كعضو في لجنة تحقيق ثلاثية كانت برئاسة الدكتور «يحييّ الجمل» نائب رئيس الحزب، والدكتور «رمزي فهيم» المسؤول المالي للتجمع، رحمهما الله، وكاتب هذه السطور، بوصفي الأمين العام لإتحاد الشباب التقدمي، وقد مَثُلَ أمام هذه اللجنة كل قيادات التجمع ابتداء برئيس الحزب الأستاذ «خالد محيي الدين» وأسماء كبيرة وتاريخية في معسكر اليسار المصري، يضيق المجال عن ذكرها، وأولهم بطبيعة الحال الأستاذ «لطفي الخولي».

السياسي الفنان!

هو «أحمد لطفي الخولي» وُلد في أغسطس من عام ١٩٢٩ بإحدى قُرى محافظة القليوبية، لأب من أفندية الريف، ورث عشرة أفدنة زراعية  جنّبت أسرته صعوبة الحياة، وحمتْ أولادها من غائلة الفقر، ولذلك أُتيح لأبنائها تعليم جيد، وكان اختيار «لطفي الخولي» كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إختياراً صائباً، حيث  أفرز المُناخ العام، آنذاك، في حياة مصر إحتراماً لمهنة المُحاماة، فغالبية قادة الأحزاب ورؤساء الوزارات و أصحاب الشركات الكبرى، مابين ثورتي ١٩ و١٩٥٢، كانوا من خريجي كلية الحقوق بجامعة «فؤاد الأول»، جامعة القاهرة فيما بعد…. وبين أسوار الجامعة، والتي كانت تموج بحركات الإحتجاج والتنظيمات العلنية والسرية، من وفديين وشيوعيين وإخوان وغيرهم، اختار  الخولي الأيدلوجية الماركسية نهجاً فكرياً وسياسياً له، دون أي إرتباط بتنظيماتها وحلقاتها السرية والغامضة، فقد تأثر بالماركسية من صديقه «صلاح زكي» الإعلامي البارز، وأحد أعلام الاذاعة المصرية في الخمسينيات، ومن بين أبرز نجوم التلفزيون المصري عند تأسيسه في العام ١٩٦٠، فقد كان عصياً على شخصية نصفها فنان وأديب ونصفها الآخر كاتب وسياسي، أن ترتبط بمنظمات محدودة العدد، ومحدودة التأثير، ولذلك ظل «لطفي الخولي» طوال حياته، رغم تّعدُد مرات اعتقاله، صاحب الرأي المُستقل، والموقف المُتفرد، مع نجاحه في نسج شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية والسياسية الواسعة والمُتعددة، مع كل أطياف التيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية، ليس في مصر وحدها، ولكن في عدد كبير من دول العالم، حتى أنه اُنتخب لأكثر من مرة أميناً عاماً لاتحاد «كُتاب آسيا وأفريقيا» لا ينافسه أحد، وربما من هذا المنطلق ظل مُتردداً في قبول العمل في مؤسسة الأهرام عندما دعاه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» للعمل معه، في بداية عقد الستينيات، وعندما وافق على العمل بالأهرام استطاع أن يؤدي دوره الرائع والرائد في تأسيس صفحة الرأي، وكان في الوقت نفسه يعمل محامياً في مكتب الدكتور «محمد مندور» شيخ النُقاد والأدباء المصريين والعرب، حتى أقنعه الأستاذ «هيكل» في عام ٦٥ بضرورة التفرغ لإنشاء وتأسيس مجلة «الطليعة» لتكون لسان حال اليسار المصري، وخاصة التيار الماركسي، والتي صدرت بالفعل في يناير من عام ١٩٦٥…

لطفي الخولي وناصر والسادات وهيكل سنة 1969 أثناء زيارة ناصر لمبنى الأهرام واجتماعه بمحرري مجلة الطليعة

مشروع فكري وثقافي

في تلك السنوات من حقبة الستينيات، بدأ الخولي خطواته الأولى لتأسيس مشروعه الفكري والثقافي، والذي استمر بسخاء وقوة وتنوع منذ العام ١٩٦٢، وحتى وفاته في عام ٩٩، وذلك بصدور كتابه الأول «الميثاق الوطني: قضايا ومناقشات» ثم  ألحقه بكتابه الرائد «دراسات في الواقع المصري المعاصر» عن دار الطليعة في بيروت عام ٦٤، ثم صدور كتابه الرئيسي والشامل «٥ يونية: الحقيقة والمستقبل» الذي تجاوزت صفحاته الـ«٧٠٠» صفحة من القطع الكبير، وخصوصاً في طبعته الثانية عام ١٩٧٤ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والذي يُعد أحد أهم مصادر البحث في تداعيات ودروس الخامس من يونيو ٦٧، وقبل وأثناء تلك الفترة الخصبة من حياته، نُشرت أعماله الأدبية التي بلغت ستة أعمال إبداعية بين المسرحيات والمجموعات القصصية، خلال  الأعوام المُمتدة بين ٥٥ و ١٩٨٦، فضلاً عن استمرار نشر أعماله الفكرية والسياسية، الركن الأساسي في مشروعه الفكري والسياسي، حيث صدر كتابه الهام «حوار مع برتراند راسل وجان بول سارتر» وحواره الطويل مع الرئيس الجزائري «هواري بومدين» تحت عنوان «عن الثورة، في الثورة، مع الثورة» عام ١٩٧٥، وكتابه «الانتفاضة والدولة الفلسطينية» في عام ١٩٨٨، وكتابه المُثير للجدل «عرب نعم ؟ ولكن شرق أوسطيون أيضاً» الصادر عن مركز الترجمة والنشر بمؤسسة الاهرام عام ٩٤، حيث يرىّ «لطفي الخولي» أن «كل المُسلّمات أصبحت في حاجة الى إعادة نظر، تُحتمها الحقائق المُتجددة التي تطرحها الحياة نفسها، اذ هبت رياح التغيير على الواقع المحلي لكل بلد عربي، وعلى الواقع الإقليمي، ومن قبلهما عَلى الواقع الدولي بتأثيراتها الضخمة»…. مشروع بالغ التنوع والثراء، يَندُرُ أن يحققه مُفكر عربي مُعاصر جمع بين المُشاركة في الحياة السياسية لبلاده، وبشكل يومي، وما يفرضه البحث العلمي والتأريخي من عُزلة وإعتكاف وإبتعاد عن عموم الناس!!.

لطفي الخولي وسيمون دي بفوار وجان بول سارتر في جامعة القاهرة سنة 1967

على يسار السادات

غير أنني سأتوقف سريعاً عند كتابين، أعتقد أنهما من أهم ماترك لنا هذا المفكر الكبير من أثر ثقافي وسياسي، أولهما «مدرسة السادات السياسية واليسار المصري» وقد صدرت طبعته الأولى في باريس عن «منشورات العالم العربي» في عام ٨٢، فيما صدرت طبعته الثانية عن حزب التجمع، ضمن سلسلة كتاب الأهالي في نوفمبر ١٩٨٦، أما الكتاب الثاني فهو «البحث عن ستالين ديمقراطي: التراچيديا الروسية» والصادر في القاهرة عام ٩٥.

عن كتاب «مدرسة السادات» والذي تزيد صفحاته عن ٣٠٠ صفحة من القطع المتوسط، ويضم بقسميه ثلاثة عشر فصلاً من التحليل السياسي والتأريخي العميق، يكتب «لطفي الخولي» في صفحات المُقدمة ما يكفيني إنصافا لهذا الكتاب الرائع في وجه مٌنتقديه، من أصحاب التيارات اليسارية، سواء كانت ناصرية أو ماركسية يقول الخولي: «في اللقاء الأخير الذي أتيح لي مع السادات، كانت حلقات القسم الأول من الدراسة، مدرسة السادات السياسية، قد نُشرت وردود فعلها مُتأججة، تم اللقاء في يناير ٧٦، وحين هممت بالدخول عليه أشار الى كومة من الأوراق ومعها صفحات من حلقات الدراسة المنشورة بكاملها بالأهرام، وقد خطط باللون الأحمر تحت عدد من فقراتها، وقال: هذه التقارير كلها عن مقالاتك من المكتب الصحفي برئاسة الجمهورية والمباحث العامة والأمن القومي وأمانة الاتحاد الاشتراكي، لو أخذت بما فيها لأمرت فوراً بقطع رأسك»!!.

ويستكمل الأستاذ «الخولي» فيقول «لقد توقف الرئيس عند عبارة «أنه برجوازي ريفي صغير» ليقول: «طبعاً استغليت جهل الأفندية بتوعي اللي مسلمهم الصحافة، وكتبت هذه العبارة، ولم يعرفوا طبعاً، كما أعرف أنا، أن هذا سب وقذف في حقي بأسلوب الاشتراكيين» ثم أضاف السادات «لقد أصدرت أمراً بوقف نشر حلقات القسم الثاني من الدراسة المُتعلقة باليسار المصري» بعد أن كان قد تم نشر حلقة واحدة مبتورة!! يضيف «الخولي»: «وما لم يقله السادات في هذا اللقاء الآخير، أنه أصدر قراره للمرحوم الأستاذ يوسف السباعي، رئيس مجلس ادارة ورئيس تحرير الأهرام وقتذاك بحرماني من الكتابة واعتقال قلمي داخل مصر منذ أوائل ١٩٧٦ حتى لقيّ مصرعه في أكتوبر ١٩٨١»!!! أما الكتاب الثاني «البحث عن ستالين ديمقراطي» فهو دراسة استطلاعية رائعة ورائدة لم يُماثلها في الدقة والإلمام بكل جوانب التراچيديا الروسية، سوى كتاب «الزلزال السوفيتي» للأستاذ «هيكل» عن نفس الموضوع، غير أنني أزعُم أن هذا الكتاب، فيه من الموضوعية والشجاعة ما يُعدْ نموذجا رائداً في كيفية بناء الأُمم ثم أسباب سقوطها، فعبر أربعة عشر فصلاً يقدم نقداً  وتحليلاً علمياً شاملاً للتجربة السوفيتية، لم يقدم أحد من معسكر اليسار المصري مثيلاً له، ولذلك قصد الأستاذ «الخولي» أن يكون الإهداء الى «زملائه في أسرة تحرير الطليعة، التي كان لها الشجاعة، في زمن عاصف أن تشق طريقها الى الاشتراكية، وتنتقد تجاربها في نفس الوقت»…..

موقف عروبي

في تاريخ مصر المعاصرة، هناك أسماء ورواد قلائل، ممن أعطوا لدور مصر القومي ومسئولياتها تجاه أمتها العربية هذا الحضور والتأثير الكبير والعظيم، وفي ظني أن «لطفي الخولي» هو واحد من هؤلاء، وهنا أكتفي بموقف له  تجاه القضية الفلسطينية، فغداة هزيمة يونيو ٦٧، وانطلاق حركة المقاومة الفلسطينية، أراد الرئيس «عبدالناصر» أن يقدم اليها الدعم السياسي والعسكري والدبلوماسي لكي تصبح قوة فاعلة في المواجهة ضد اسرائيل، غير أن العقبة في ذلك الوقت كانت تلك التقارير الأمنية التي تحيط بحركة فتح، كُبرىّ المنظمات الفلسطينية المُسلحة، والتي كانت وفق هذه التقارير تقول أنها حركة تحمل أفكاراً اخوانية، فماذا يفعل الرئيس عبد الناصر؟ طلب من الأستاذ «هيكل» أن يُرتِّبَ له لقاء بقياداتها، فما كان من «هيكل» إلاّ أن نقل طلب الرئيس ورغبته لصديقه «لطفي الخولي» وفي خلال أيام كان «ياسر عرفات، وصلاح خلف، وفاروق قدومي، وهايل عبدالحميد، وخالد الحسن، ومعهم الأستاذ هيكل» في حضرة الرئيس!! مرت السنوات وانتقل «لطفي الخولي» الى رحاب الله في أحد أيام شهر مايو من سنة ٩٩، لم يحتف أحد به من الجيل المعاصر من الشباب بما يليق برجل أعطى لوطنه ولأمته الكثير خلال نصف قرن أو يزيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock