منوعات

الفقر في الوطن العربي.. من المقاييس الخادعة إلى آليات المواجهة

لبنان التي مازالت تشهد حراكا شعبيا ممتدا منذ السابع عشر من أكتوبر من العام الماضي أثر أزمتها الاقتصادية الناجمة عن نظام المصارف بها، أعلنت مؤخرا بشكل رسمي عن تخلفها عن سداد ديونها الخارجية، لعجز الإمكانات المالية لديها، وذلك في الوقت الذي تقع فيه هذه الدولة العربية الشقيقة، إضافة لمصر ضمن قائمة الدول العشر الأكثر تفاوتا في الدخل بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم.

في هذا السياق نظم برنامج حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ندوة بعنوان: «مفهوم الفقر وقياسه في البلدان العربية: مراجعة نقدية» استضاف فيها الأستاذ «أديب نعمه» الخبير الاقتصادي اللبناني والمستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر والأستاذ وائل جمال، الباحث الاقتصادي المصري والصحفي البارز، وأدار اللقاء الدكتور سامر عطا الله أستاذ الإقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

تناولت أعمال الندوة مفهوم الفقر والمشكلات المتعلقة بأساليب قياسه وتقييم السياسات العامة المتبعة لمواجهته في العالم.

مقاييس خادعة

استهل «أديب نعمه» تناوله لقضية الفقر في البلدان العربية بطرح تساؤل مؤداه: «هل الدراسات الراهنة للفقر أكثر تقدما من الدراسات التي قمنا بها خلال العقود الثلاثة الماضية؟» الغريب في الأمر أن الإجابة كانت «لا» وكيف ذلك؟ هذا ما سنتعرف عليه عبر شرحه الشيق لعدد من مناهج قياس الفقر المتبعة من قبل المؤسسات الدولية، التي أعلنت مؤخرا أن الفقر في العالم قد تراجع بنسبة تقترب من خمسين بالمائة!.

بداية يشير أديب إلى الفقر بوصفه «جذر لغوي مشترك بين الفقر وبين فقرات العمود الفقري» لذا لم يكن من المستغرب أن يصف التعبير الشعبي الفقير بكونه «ظهره مكسور» أو بأنه «بلا ظهر» أي بلا سند، وهو الشخص الضعيف المستضعف الذي لا يستطيع تدبر أموره. كذلك الحال في معنى «الغني» من «الاستغناء عن الحاجة للأخرين».

أديب نعمة

يطرح أديب ذات التساؤل الذي طرحه «أنتوني أتكينسون» الذي يعد أحد أعمدة البحث في مجال دراسات الفقر من منظور المؤسسات: «لماذا يتم تصميم خط الفقر العالمي في مؤسسة مقرها في بلد يفترض أن الفقر المدقع غير موجود فيه؟ ولماذا يهيمن على المناقشات في قضية الفقر الأبحاث التي ينتجها أشخاص يعيشون في دول ذات مستوى دخل مرتفع؟» ومن ثم يقارن ما بين رؤية الخبراء المختصين للفقر مقابل رؤية الفقراء أنفسهم للفقر.

الخبراء ينظرون إلى «الفقر» بوصفه «ظاهرة عامة، عالمية، مادية، يمكن قياسها كميا، وترتبط بشكل أساسي بالدخل، والتشغيل»، في حين يرى الفقراء «الفقر» بوصفه «حالة محلية، معقدة، مركبة، شاملة، متنوعة» والفقر لدى الفقراء يستند إلى «التجربة المعاشة» ومن ثم فهو يتصف بالحرمان وعجز سبل العيش وبالتالي هو أمر متعدد لا يمكن قياسه.

أزمة الخبراء إذن تكمن في تعاملهم مع قضية الفقر بوصفها ظاهرة يمكن قياسها متبعين بذلك مبدأ «ما هو قابل للقياس ويتم قياسه يصبح هو الحقيقة» وهم بذلك يغفلون عن الكثير من المظاهر المرتبطة بالفقر والتي لا يمكن قياسها.

يضرب أديب العديد من الأمثلة المتعلقة بالإستهلاك كمقياس لفقر الأسرة والتي يتضح منها أن ذلك المقياس قاصر تماما على التعاطي مع قضية الفقر ومن ثم يستشهد برؤية «أمارتيا سن» التي يقول فيها: «الفقر البشري هو أكثر من مجرد الدخل، أنه حرمان من الخيارات والفرص في العيش حياة محتملة ومقبولة».

ينتقد أديب مختلف المقاييس الدولية المستخدمة في قياس الفقر في البلدان العربية، ذلك أن تلك المقاييس لا تراعي احتياجات الأنواع الاجتماعية المختلفة داخل الأسرة الواحدة. كما أن تقارير الفقر العربية تعاني في غالبيتها من عدم الاتساق، فدليل الفقر العربي، على سبيل المثال، الذي يعتمد على مقياس الفقر المتعدد يشترط مستوى تعليم يتعدى متوسط التعليم في الدول المتقدمة، بينما يظل مستوى المعيشة، من حيث الحصول على الخدمات الأساسية من بنى تحتية وصرف صحي وكهرباء متدنيا للغاية.

يزداد الأمر سوءا في تعامل تلك المقاييس مع قضايا المرأة، ذلك أن أسلوب قياس الفقر الحالي غير حساس بالمرة تجاه دور المرأة في المجتمع وتجاه الأبعاد النوعية للفقر بين الرجال والنساء، وبصفة عامة فإن التقارير العربية الحالية لقياس الفقر تخضع لهيمنة المؤشرات الدولية التي لا تأخذ السمات العربية المحلية في الإعتبار، إضافة إلى أن دراسات الفقر بشكل عام قد شهدت حالة من التراجع من حيث المحتوى وطريقة التناول عما كانت عليه من قبل.

ينتهي أديب إلى ضرورة مراعاة التفاوت الكبير بين مختلف البلدان العربية، فالمقياس الصالح لبلد ما قد لا يصلح لأخرى، إضافة إلى ضرورة الإلتفات إلى حالة التفاوت واللامساواة داخل كل بلد، فقياس الفقر الوطني لابد وأن يلتقط مختلف تجليات الفقر بمختلف البيئات الجغرافية والفئات الاجتماعية.

من جانب آخر يوصي أديب بضرورة أن تحرص البلدان العربية عند إجراء مسوح الفقر على ابتكار وسائل وأدوات مناسبة لقياس الفقر بها، تتسم بالكلفة المادية المنخفضة، وذلك حتى تضمن إمكانية تنفيذ تلك المسوح بشكل متكرر دون الحاجة للتمويل الأجنبي.

آلية مواجهة الفقر

يبدأ «وائل جمال» حديثه عن الفقر بالإشارة إلى أنه في الوقت الذي تحتفي به بعض المؤسسات الدولية بانخفاض الفقر في العالم بنسبة تصل لخمسين بالمائة بوصفه إنجازا تاريخيا، فإن ظاهرة الفقر في العالم المتقدم قد شهدت حالة من التصاعد الشديد، وبالتالي فإن الحديث عن كون الفقر بوصفه ظاهرة ترتبط فقط بالمجتمعات المتخلفة بحد ذاتها، هو أمر محل شك بطبيعة الحال، ذلك أن الفقر إنما ينجم عن إتباع مجموعة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى إفقار البشر.

وائل جمال

الغريب في الأمر أن تصاعد معدلات الفقر في مصر خلال  الخمس سنوات الماضية قد رافقه حالة من التصاعد في الغني ومن ثم تزايد حالة «اللامساواة» التي رصدها الاقتصادي الفرنسي «توماس بكيتي» حين أشار إلى أن ال50% الأفقر في مصر يحصلون على 10% من الدخل القومي، في حين أن ال1% الأغني في مصر يحصلون على 19% من الدخل، وهو ما يعني أنه لا يوجد فقر وفقط وإنما هناك صورة من التفاوت الطبقي العميق بين الفئات الاجتماعية «الأفقر والأغنى».

يلفت وائل جمال النظر إلى التحليل الذي أجرته الباحثة الاقتصادية «مي قابيل» لنتائج بحث الدخل والإنفاق الذي أجراه «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء» عام «2017/2018» وتشير فيه إلى أن «حد الفقر الجديد، بناءً على نتائج البحث، يقع عند 735.5 جنيه شهريًا بدلًا من 482 جنيهًا في 2015، بحيث يعتبر كل فرد يعيش بأقل من هذا المبلغ شهريًا فقيرًا، أي غير قادر على تلبية احتياجاته الأساسية من طعام ومسكن وملابس ومواصلات وصحة وتعليم، بحسب تعريف الجهاز المركزي للإحصاء. وبذلك فإن أي أسرة مكونة من أم وأب وثلاثة أبناء تعيش بأقل من 3678 جنيهًا شهريًا، تعتبر أسرة غير قادرة على الوفاء باحتياجاتها الأساسية، ويقع في هذه الشريحة نحو 32.5 مليون مصري».

https://www.facebook.com/AlternativePolicySolutions/videos/2734146283303008/?t=21

يعود وائل جمال ليؤكد على أن الأمر يزداد سوءا إذا ما عرفنا أن الحد الأدني للأجور الذي حددته الحكومة المصرية يبلغ ألفي جنيه فقط وتزيد حدة الأزمة إذا ما تعرضنا لطبيعة الأعمال التي يمارسها الفقراء، ذلك أنهم يعملون أعمالا هامشية، يتسم أغلبها بكونه موسميا غير منتظم وبالتالي فإن المتوسطات التي تعتمد عليها قياسات الفقر لا يمكنها ان تكشف عن الظواهر المتصلة بالفقر في حالة العمل الموسمي والتي قد تصل إلى حد الجوع بشكل مباشر.

يطرح وائل جمال سياسة «الدخل الأساسي المعمم» كآلية لمواجهة الفقر، تلك السياسية التي تقوم على أن تمنح الحكومات دخلا أساسيا لكل فرد كي يتمكن من توفير الحد الأدني الكافي من إحتياجاته، وذلك بغض النظر عن دخله. وفيما يتعلق بتكلفة «الدخل الأساسي المعمم» فأنها تبلغ ما يعادل 3.2% من الناتج القومي، وفقا لتقدير صندوق النقد الدولي، وهو ما يقل عما تدفعه الحكومات من فوائد لسداد الديون، كما أن إتباع مثل هذه السياسة سوف يتبعه ضرورة إتباع تغير هيكلي فيما يتعلق بترتيب أولويات الموازنة العامة لكل دولة.

يضرب وائل جمال المثل بعدد من البلدان التي طرحت سياسة «الدخل الأساسي المعمم» بوصفها سياسة تطرح من قبل اليمين واليسار على حدا سواء، غير أن الفرق بينهما تمثل في كون أنصار اليمين يطالبون بأن ترفع الدولة يدها عن دعم الخدمات العامة في مقابل منح الأفراد ذلك الدخل المادي، في حين يرى أنصار اليسار أن تطبيق سياسة «الدخل الأساسي المعمم» لا تعني إطلاقا تخلي الدولة عن دورها في توفير الخدمات العامة، بل أن هناك دعوات إلى زيادة الإنفاق على الخدمات العامة وتشمل الدعوة إلى المجانية التامة لوسائل النقل والمواصلات، خاصة تلك التي تقع داخل المدن.

اقتصاد وهمي

أزمة الفقر بالبلدان العربية لم تبتعد إطلاقا عن الأزمة اللبنانية الراهنة التي نجم عنها اتخاذ الحكومة اللبنانية قرارا بالإمتناع عن سداد ديونها الخارجية، تُرى هل يعد قرار الحكومة اللبنانية الخاص بالإمتناع عن سداد الديون بمثابة خطوة نحو التخفيف من حدة الفقر في لبنان؟.

وائل جمال يرى في الإعلان عن عدم سداد الدين في لبنان فرصة يمكن أن تُستَغل لتحرير الموازنة العامة اللبنانية من عبء الدين، ومن ثم توجيه الموازنة نحو إتباع سياسات عامة من شأنها التخفيف من حدة الفقر، كما يمكن لها أن تكون مبررا تستند إليه الحكومة اللبنانية للقضاء على حالة الإحتجاج الجماهيري بلبنان  المطالبة بمزيد من الإصلاحات تحت دعوى «البلد فلست ومفيش وقت للتظاهر» ومن ثم مزيد من تخلي الحكومة عن مواجهة الأزمة الإقتصادية بالبلاد.

بذات السياق رحب أديب نعمه بقرار تعليق سداد الديون الخارجية بلبنان الذي يعده بمثابة تحقيق لأحد مطالب المتظاهرين اللبنانيين، غير أنه عاد ليشير إلى أن الإقتصاد اللبناني يعد «إقتصاد وهمي» تلعب فيه «المصارف» أي البنوك دورا محوريا، كما يقوم الاقتصاد في لبنان على السياحة التي أصبحت تعاني نتيجة الأزمة السورية، إضافة إلى التصدير الذي تراجع بشدة، كما يعتمد الاقتصاد اللبناني على تحويلات اللبنانيين بالخارج والتي انخفضت بدورها مؤخرا. وإجمالا لم يكن أمام الحكومة اللبنانية سوى الإعلان عن وقف سداد الديون الخارجية وهى تعد خطوة إيجابية في ظل الأزمة الراهنة التي تمر بها البلاد.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker