مختارات

الفلسفة في مواجهة فايروس كورونا

باغت فايروس كورونا المستجد العالم بسرعة تفشيه ولم يعدْ هناك بلدُ بمنأى عن تداعيات هذا الوباء ولم يتوقع العلماءُ في البداية بأنَّ المارد يخرجُ من قمقمه ووهان ويغزو القارات البعيدة ويقطعُ أوصال المجتمعات

لكن ما لبثَ أنَّ صارت أخبار الفايروس تملأ الدنيا وتُشغل العالم وطال تأثير الصدمة جميع المرافق الإقتصادية والسياحية والثقافية ومن المعلوم بأنَّ هذا الوضعُ ينعكسُ سلباً على المستوى النفسي لدى الأفراد وقد تتخبط الحكوماتُ في القيام بالإجراءات، بعد إرتفاع عدد المصابين بكورنا وإتساع جغرافية إنتشار العدوى وإعلان منظمة الصحة العالمية بأنَّ الوباء بات معولماً وتزايد المدن الموبوءة وتبدل سلوكيات الحياة العادية إذ أصبحت الشوارعُ خالية من المارة وتم إلغاء ممارسة الطقوس والشعائر الدينية في دور العبادة إضافة إلى وقف النشاطات الثقافية والرياضية والمُصافحة بالكوع بدلاً من اليد وركون الناس إلى المنازل ييدو أنَّ التوتر قد تصاعد ولايعلو صوت على صوت كورونا في وسائل الإعلام ناهيك عما يضخُ في الوسائط الألكترونية كما حظيت الأعمال الأدبية التي تتناول الأوبئة والجانحة بالمتابعة ,ولاقت رواجاً وزاد الطلبُ على بعض العناوين الروائية غير أنَّ ما هو الأهم في هذا التوقيت هو التخفيفُ من حدة التوتر وذلك عن طريق التعامل مع النصوص الأدبية بوصفها عاملاً لإستعادة التوازن على الصعيد النفسي إذ تذكرك هذه الأعمال بأنَّ البشرية قد إنخطرت في حروب ضروسة ضد الوباء والأمراض المميتة ولكن كلما كسبت جولةً ولو بخسائر فادحة قد تمكنت من بناء الحضارة من جديد وبدأت دورة الحياة الطبيعية «كل شيءِ يحدثُ فقد كان يحدثُ هكذا فيما مضى وسيظلُ يحدثُ هكذا في المستقبل» هناك بون شاسع في الفهم بين العقل الذي لايرى أبعد من اللحظة الراهنة في تحليله للحدث والعقل الناضح بالوعي يحاول إدراك مايقع ضمن دورات الزمن الكبرى وما زاد من مناعة الإنسان في تحمل التقلبات البيئية هو القدرة على التأقلم مع الظروف وتمكنه من تحويل العوائق إلى أداة لإنجاز مزيدٍ من التطور «الضربة التي لاتموتني تقويني» فكان العامل الجغرافي يحول دون التواصل بين المجتمعات في السابق لكن نجح الإنسانُ من قهره من خلال وسائل النقل التي تطورت بالتدرج كما أنَّ كثيراً من الأوبئة والأمراض التي أعتبرت مصدر تهديد للحياة في العصور المنصرمة ماعادت تشكلُ تحدياً أو خطراً في زمننا إذاً فإنَّ مع كل إختبار صعبٍ يفتح أفق جديد للتطور.

طب العقول

يتابعُ المواطنون المعلومات التى تنشرُ بشأن تطورات مرض كورونا من على وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي ولاتكفُ الجهات المعنية من التأكد على ضرورة التمسك بالتعلميات الطبية ولكن هل يكفي التدججُ بالكمامات والسترات الطبية وإستخدام المعقم لمواجهة الفايروس نعم كل ذلك قد يحميك من الإصابة بالعدوى لكنَّ ماذا عن المخاوف التي تغزو الأعماق وتصعدُ من حدة الإنفعالات؟ «ليست الأشياء مايكربُ الناس ولكن أفكارهم عن الأشياء» كما يقول إبكتيتوس من هنا يبدأُ دور طب العقول أي الفلسفة فلاتنفعك الوصفات الطبيبة في معالجة الشعور بالسأم من الترقب وتكرار المشاهد علماً بأنَّ الإنسانَ هو الحيوان الوحيد الذي قد يشعرُ بالملل ولايريدُ أن يكونَ ماهو عليه حسب تعبير ألبر كامو. كيف يكونَ ردُ الفعلِ إذا تطلبَ الموقف أن تفرض حجراً صحياً على نفسك؟ طبعاً لاتوجدُ عقاقير للتخلص من الملل لذلك من الأفضل أن تتقبل قدرك يُشَبيهُ ماركوس أوريليوس الإنسان المتبرم بكل شيء والساخط من كل الوضع بخنزير الأضحية يرفس ويصرخ .ومن المناسب في هذا الصدد التذكر بقصة الفيلسوف الرواقي «إبكتيتوس» الذي كان عبداً لـ (إيافروديتوس) فالأخير نكل به وعذبه بطريقة غريبة حيث وضع رجل الفيلسوف في آلة التدوير مترقباً ردَّ فعله وما من صاحب المختصر إلا أن قال ستكسرها.

وفي ذلك صورة واضحة لتحمل الشدائد والتجلد فالحكمة برأي الرواقيين تكمنُ في قدرتك على أن تفرق بين الأشياء مايمكنُ تغيرهُ ومايقعُ خارج قدراتك فبالتأكيد أنَّ منع إنتشار الوباء أمر يفوق قدرة العلماء فما بالك بمن ليس له دراية بالطب.إذاً عليك أن تقتنعَ بمبدأ هيغل «كل مايحدثُ في الواقع فهو منطقي» عطفاً على ماسبق فإنَّ فهمك للحياة يتعمقُ كلما شعرت بأنك تعيشُ في الخطر يقولُ نيتشه «أنا أعرف الحياة معرفة جيدة لأني كنتُ على وشك فقدانها» فكان المرضُ أول شيء هداه سواء السبيل ويقاربُ نيتشه الأوبئة على نطاق أوسع لافتاً بأنَّ أوروبا يدين بعظمته لدائه الذي لايشفى وآلامه المتنوعة العديدة فإن هذه الآلام والأخطار المتجددة بنظر نيتشه هي بمثابة قابلة للأفكار نبقى مع فيلسوف الريبة إذ تؤكد سالومي بأنَّ المرض كان مصدر إبداعه وكل تعافٍ هو إحياء بهيج وتجديد لنشاطه العقلي ومن جانبه وصف نيتشه هذه الحالة بـ«تذوق جديد» ماذا بجعبة الفلاسفة عن الموت وقد عرف سقراط التفلسف بأنه إستعداد للموت مطالباً يأنَّ نواجه هذا المصير الحتمي مثلما نواجه الحياة ويرى «أنكسمندريس» أن كل ما ينشأُ يصيبه الفناء وكل مايولد جديرُ بالموت ولولا الخوف من الموت لما كانت فلسفة ولا دين على حد قول شوبنهاور إذاً فإنَّ دور الفلسفة يتمثلُ في تهدئة المشاعر السلبية ومنع تناسل الأهواء الحزينة وحمايتك من الوقوع في منزلق الخوف والهلوسات فالموت من منطلق الفلسفة دافعُ للتأمل والتفكير وإدراك الصراع بين الرغبة في البقاء والوعي بالنهاية وفي الأخير نقتبسُ من «لوكريتيوس» مبدأه لمعالجة الخوف من الموت «حيثُ يوجدُ الموت لا أوجد أنا وحيث أوجد أنا لايوجد الموتُ لم القلق؟».

رؤية جديدة

يستنكرُ فريدريك نيتشه مفهوم المعرفة من أجل المعرفة واصفاً إياه بآخر شركِ نصبته الأخلاق وبذلك يتقاطعُ مؤلف «مولد التراجيديا» مع منطق الرواقيين الذين حاولوا في مسعاهم المعرفي تحويل الفلسفة إلى أداة لتحسين نمط الحياة وإصلاح الفكر لأنَّ الإنسان كيفما تكنُ أفكاره المعتادة تكن طبيعة فكره وبالتالي يتشكلُ الإنطباعُ حول الأشياء بناءً على منهجك في التفكير والسلوك العقلاني لذا فإنَّ الفلسفة لدى «إبكتيتوس» هي الإشتغال على تحرر الذات من الإنفعال وإكتساب المناعة من المؤثرات الخارجية.

يقولُ ماركوس أورييليوس أن العقل الخالي من الإنفعالات هو قلعة ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه.ويسبقُ علاج الروح عند شيشرون عملية القضاء على أوصابنا الجسدية ولاينفعك على هذا الصعيد غير الفلسفة من هنا نفهم مغزى هذه العبارة «مدرسة الفيلسوف هي عيادة الطبيب» لكن مع الأسف تحولت الفلسفة في وسطنا الثقافي إلى مشجبٍ لمُصطلحات مسمومة بالكراهية ومخاصمات بين الطوائف المختلفة مثلما أن فهمنا للدين متزمت كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة وكلما يذكر لفظ الفلسفة يتبادرُ إلى الذهن الصراع الآيدولوجي والمماحكات بين الجبهات المُتنابذة بينما غاية النشاط الفلسفي برأي المفكر المغربي «سعيد ناشيد» هي تنمية القدرة على العيش في هذا العالم الذي مأوانا المؤقت.

صحيح أنَّ الفلسفة لاتغير الحياة أو كما يقول أتباع المدرسة الرواقية لاتمنع وقوع الأحداث ولاتأخذنا الأوهام بأنَّ الفلسفة تعجل بقيام الجنة على الأرض لكن تقدمُ فهماً تعود بعده أحداث الحياة مقبولة وممتعة لذا تصبح قراءة الفلسفة في المحن والأزمات ضرورة ملحة إذا كان الغرض من القراءة هو وضع الحدث في سياق دورات الزمن الكبرى إذاً فإنَّ الفلسفة ليست رديفاً للتعقيد والتجهم والتشدق بألفاظ غير مفهومة ولايمكنُ لنا أن نتفلسف وإلا نحن ضاحكين كما نقل عن أبيقور.وفي ذلك تجد فوائد الفلسفة للتأقلم مع زمن المصافحة بالكوع.

والأمر لايخلو من المنفعة سواء على المستوى الفردي أو على المستوى العالمي فربما تتراجع مخاطر نشوب الحرب وتتضافر الجهود لمحاربة العدو الذي وضع الجميع أمام سؤال المصير.كما يجب التعامل مع الحالة باعتبارها فرصة للتأمل وإعادة النظر بنمط عيشك لأن الحياة التي لاتخضع للنقد هي حياة لاتستحق أن تعاش.كما يقول سقراط أكثر من ذلك فإنَّ الطبيعة تتنفس صعداء عندما تخف الحركةُ.

نقلا عن: almadapaper.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock