الزمان: 20 مارس 1995.. المكان: نفق مترو العاصمة اليابانية طوكيو.. الحدث: جماعة إرهابية دينية تطلق غازًا ساما يؤدي إلى مقتل 13 شخصا وإصابة 5800 آخرين». نفذت تلك العملية الإرهابية جماعة «أوم شينريكيو» التي تم الحكم بالإعدام على قائدها «شوكو أساهارا» وأثنى عشر آخرين من أعضاء الجماعة. كان أساهارا مُعلِّمًا لليوجا، أسس طائفة «أوم شينريكو» وتعني «الحقيقة السامية» عام «1987»، وهى جماعة دينية تقوم على المزج بين الأفكار البوذية والهندوسية، وتؤمن بأن نهاية العالم وشيكة، وأن السبيل الوحيد للخلاص من الجحيم يتمثل في قتل البشر على يد أعضاء تلك الطائفة، فكأن قتل الناس لديهم بمثابة «محاولة مقدسة لتطهير أرواحهم الملعونة في هذا العالم» على حد وصف قائد الطائفة!
شوكو أساهارا
أثارت تلك الحادثة الكثير من الجدل وتساءل البعض هل هناك خلل ما تعاني منه منظومة التعليم الديني في اليابان؟ ودافع الآخرون عن منظومة التعليم الديني بوصفها جزءا لا يتجزء من المنظومة التعليمية اليابانية ككل، والتي وقفت كسند يعتد به خلال العبور من أزمة الحرب العالمية الثانية وحادثة «هيروشيما» وصولا لتحقيق تلك الطفرة الإنتاجية الهائلة التي وصلت لها اليابان.
هل اليابانيون لا يؤمنون بأي دين؟
بعد عام واحد من حادثة «نفق مترو طوكيو» أي عام «1996» صدر كتاب لعالم الأديان «أما توشيمارو» تحت عنوان «لماذا لا يؤمن اليابانيون بأي دين؟» والذي استعرضه موقع اليابان بالعربي وأثار الكثير من الجدل، ووفقا لمؤلف الكتاب فإن القول بأن اليابانيين «لا يؤمنون بدين» يرجع من وجهة نظره إلى مقارنة الديانات «غير السماوية» مثل «الشنتوية والهندوسية» التي تأثر بها اليابانيون، بالديانات السماوية مثل «الإسلام والمسيحية»
يشير «توشيمارو» إلى ذلك التأثير الكبير الذي مارسته «الديانة البوذية» على الديانات باليابان منذ دخولها بالقرن السادس، حيث ظلت «البوذية» الدين الأكثر تأثيراً حتى منتصف القرن التاسع عشر، ومازالت تظهر في جوانب عدة في الحياة اليومية اليابانية حيث يُقيم معظم اليابانيين شعائر جنائزهم على الطريقة البوذية والتي تظهر في طقوس أداء الصلوات أمام المقابر من كل عام.
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تأثرت الأديان اليابانية بالمسيحية، إلا أن عدد المسيحيين اليابانيين لم يتعد ١٪ فقط من جملة عدد السكان البالغ ١٢٨ مليون نسمة، كذلك الحال بالنسبة للمسلمين حيث تقل نسبتهم عن 1% من عدد السكان، ذلك أن العقائد في اليابان ترتكز على «الأديان الطبيعية»، فاليابانيون يؤمنون بآلهة الأرض وغيرها، دونما الحاجة لممارسة أي طقوس عبادة معينة، وهو ربما ما يفسر ردهم بأنهم «لا دين لهم» حين يطرح عليهم تساؤل خاص بالدين الذي ينتمون له.
الشنتوية والبوذية
الطقس الديني الذي يحرص كثير من اليابانيون عليه يتمثل في زيارة المعابد مع كل رأس سنة جديدة، حيث تؤمن تقاليد الديانة «الشنتوية» الشائعة باليابان بتحول الأرواح بعد موت أصحابها إلى آلهة، ومع مرور الوقت تفقد الأرواح شخصيتها، فتذهب لتعيش مع الآلهة وبوذا في أعالي الجبال، أو بوسط المحيطات، إلا أنها تعود إلى المعابد في بداية السنة الجديدة، ومن هنا يحرص اليابانيون على زيارتها، وهو ما يعده البعض إستمرارا لأثر التعاليم الثقافية القديمة بالمجتمع الياباني.
الطائفة الشنتوية
ظهرت الديانة «الشنتوية» في اليابان منذ عدة قرون وبدأت بعبادة الأرواح، ثم قوى الطبيعة، وامتد أثرها لاحترام الأجداد والزعماء والأبطال ومن ثم انتقل هذا الأثرإلى حد عبادة الإمبراطور «الميكادو» الذي يعدونه من نسل الآلهة، كما تشير الأساطير اليابانية.
مع بداية عهد «الميجي» عام «1868م» استيقظ الشعور القومي باليابان ونفر الشعب من كل ما هو أجنبي، ومنهم «بوذا» فأزيلت تماثيله من المعابد، وتوقف الكهنة البوذيون عن ممارسة وظائفهم، وعادت الشنتوية دينا قوميا، ومن ثم عمدت الحكومة اليابانية على توطيد الشنتوية في البلاد للإحتفاظ بعبادة الإمبراطور «الميكادو» حيث ارتبطت شخصية الإمراطور بذهنية اليابانيين بالوحدة الوطنية، وأدائه لخدمة تاريخية حالت دون سقوط اليابان بين مخالب الإمبريالية الغربية.
مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية في «1945 م» وبأمر من قوات التحالف نشرت وزارة التربية توجيهات خاصة بإرساء اليابان الجديد، ومن ثم اتخذت قرارًا بمنع الديانة الشنتوية، وعقب ذلك الإجراء في سنة «1946 م» جرت مراجعة نظام التعليم الثانوي ومن ثم تم عزل «110000» أستاذ، بسبب ميولهم الشنتوية.
اترك آسيا وادخل أوروبا
مع انتشار موجة العداء للثقافة الصينية التي إجتاحت اليابان ساد مبدأ «اترك آسيا وأدخل أوروبا» وذلك نتيجة إدراك النخب المحلية لحجم الجمود الذي كان يمكن لليابان أن تعيش فيه إذا ما اعتمدت هذا النمط الثقافي الصيني الوافد إليها، والذي يقوم على التراتبية الاجتماعية ويرى فيه البعض محاولة لإغتيال الإبداعات والمواهب والطاقات المتحفزة للتغيير وصناعة التنمية.
هنا وُضِعَ اليابانيون أمام اختيارين في بناء مدرستهم الوطنية، الإختيار الأول يقوم على مبدأ التخلي عن مضامين التعليم «الكونفوشيوسي» القديم ومن ثم إحداث حالة من القطيعة مع التقاليد التعليمية الصينية القديمة، في مقابل الخيار الثاني الذي دعا للتحلي بالأنماط العلمية والدراسية الوافدة من الغرب عبر نافذة الترجمة التي مثلت الوسيلة الأساسية التي استعانت بها النخب الجامعية اليابانية.
التقاليد الكونفوشيوسية
غير أن تجربة اليابان في تطوير منظومتها التعليمية، وفي القلب منها تطوير منظومة التعليم الديني قد استندت على مبدأ يقوم على أن مسار التحديث لا يعني بالضرورة اقتفاء آثار النموذج الغربي واتخاذه صنما لمواجهة التحديات والعقبات، حيث نجحت اليابان في التوفيق فيما بين الأصالة والمعاصرة.
وبعد أن تم منع الديانة الشنتوية، تغير الحال وبات الدستور الياباني ينص في مادته العشرين على «حق الشعب في حرية العقيدة والأديان على ألا تنحاز الدولة لدين أو مؤسسة دينية بعينها وألا يستعمل الدين في العمل السياسي وضمنت الفقرة الثانية من المادة أيضاً عدم إجبار أي شخص أو أي مؤسسة دينية على المشاركة في أي مناسبة أو احتفال يتعلق بالدين كما نصت الفقرة الثالثة، على عدم ممارسة مؤسسات الدولة أي نوع من التعليم الديني».
المادة «20» من الدستور الياباني انعكست بدورها على التعليم الديني الذي أصبح أكثر ميلا للتعامل مع الدين بوصفه مجموعة من المعاملات الأخلاقية التي يجب أن يتسم بها الفرد في تعاملاته، والمفارقة الغريبة التي يقف أمامها المتتبع لعلاقة الشعب الياباني بالدين تتمثل في كونهم وعلى الرغم من عدم ألفتهم واهتمامهم بالأديان «الرسمية» على وجه الخصوص إلا أن للدين علاقة وطيدة ببنية المجتمع الياباني الذي يحرص غالبيته على زيارة المعابد على وجه التحديد حتى باتت تلك الزيارات تبدو وكأنها تعد طقسا إجتماعيا مقدسا أكثر منه كطقس ديني.
المصادر:
- يحيى بولحية، «أصول التعليم الديني في اليابان»، في كتاب «تجديد التعليم الديني.. سؤال الرؤية والمنهاج»، سلسلة المشاريع البحثية، مؤمنون بلا حدود، للدراسات والأبحاث، 2016.