قبل عشرين سنة من سنتنا هذه كان أحد الكُتّاب يملأ الدنيا ويشغل الناس، بكلماته ومواقفه الصادمة، ومن ذلك إصراره على أن اليسار السياسي أفضل من اليمين، لا لشيء إلا لأن اليسار مذكور في القرآن، وقد استشهد بالآية الكريمة التي تقول: «سنيسره لليسرى» فاليسرى عنده هى اليسار!
رأيت أنا أن أحاور الرجل وجهًا لوجه لأعرف منه سر هذا التخبط الذي يتخبطه، أصرت زميلة صحفية على مصاحبتي، وهى لم تكن مشغولة لا بالرجل ولا بكلامه، رفضت في البداية ثم لنت أمام إصرارها.
جلسنا أمام الرجل الذي كان مثل الثعلب، تذهب للقبض عليه يسارًا فيفلت منك يمينًا، والأدهى أنه كان يغلق جهاز الكاسيت مع كل سؤال يراه خطيرًا، فيجيب كما شاء، لأنه يضمن أنني لن أنشر، فلا تسجيل هناك.
عندما بلغ يأسي من الرجل منتهاه تخلت زميلتي عن صمتها الذي كنت قد فرضته عليها، وسألتْ الرجل سؤالًا خارج الحوار تمامًا، كان سؤالًا رأيته أنا تافهًا، ولا يليق طرحه على رجل يتحدث في الخطير من أمور الدنيا والدين!
حدقت صديقتي لحظة في أصبع الرجل الوسطى وقالت له: ما هذا الخاتم؟
كدت أنفجر في وجهها غاضبًا ولكن العجيب أن الرجل أجابها مبتسمًا قائلًا: هذا الخاتم هو خرطوش فرعوني، يدل على هويتي ومعتقدي، فأنا أرى أن مصر كانت إمبراطورية عظمى حتى دخلتها المسيحية فذهب ثلثها، وعندما دخلها الإسلام قضى على ثلثيها!
الصندوق والشبكة
يا الله! السؤال الذي ظننته تافهًا كشف الرجل تمامًا، فعرفت من إجابته مَا فشلت في معرفته بأسئلة حواري التي كنت أحسبها قوية متينة.
بعد تلك الواقعة بسنوات قصصت أحداثها، على صديقي الكاتب والمترجم الدكتور أسامة القفاش فأهداني مقالًا مترجمًا يحتوى على فروق جوهرية تفصل بين طبيعة عمل مخ الرجل وطبيعة عمل مخ المرأة، وبالتالي تفصل بين نوعية أسئلتهما.
يقول ملخص المقال: شبَّه أحد الباحثين النفسيين عقل الرجل بصناديق مُحكمة الإغلاق ومنفصلة عن بعضها البعض، فهناك صندوق السيارة وصندوق البيت وصندوق الأهل وصندوق الأولاد.. إلخ.
إذا أراد الرجل شيئًا، فإنه يذهب إلى هذا الصندوق ويفتحه ويركز فيه، وعندما يكون داخل هذا الصندوق فإنه لا يرى شيئًا خارجه ، وهذا ما يفسر أن الرجل عندما يكون في عمله، فإنه لا ينشغل كثيرًا بما تقوله زوجته عما حدث من الأولاد.
أما عقل المرأة فشيء آخر، إنه مجموعة من النقاط الشبكية المتقاطعة والمتصلة جميعًا في نفس الوقت والنشطة دائمًا، كل نقطة متصلة بجميع النقاط الأخرى، وعلى ذلك فهي يمكن أن تطبخ وتُرْضِع صغيرها وتتحدث في التليفون وتشاهد مسلسلًا في وقت واحد، ويستحيل على الرجل أن يفعل ذلك. كما أنها يمكن أن تنتقل من حالة إلى حالة بسرعة ودقة ودون خسائر كبيرة.
انتهى اقتباسي من المقال الذي تعلمت منه عدم الاستهانة بأسئلة النساء، بل تعلمت منه الحذر من أسئلتهن، فهى أسئلة تبدو بريئة بل وساذجة ولكنها تغوص في الأعماق بهدوء لتكشف حقيقتها!
سؤال كريمة الخالد
كان بيت الشيخ الأستاذ محمود شاكر يرحب بأي ضيف، ولكن صاحب البيت كان له مهابة الأسد، ومجلسه كان مجلس علم من الوزن الثقيل، فماذا سيصنع قليل البضاعة مع ناس أبسطهم علمًا يحمل الدكتوراه وله عدة مؤلفات؟
الكاتبة الكبيرة الراحلة الأستاذة عايدة الشريف كانت تعرف جيدًا حجم ووزن الأستاذ شاكر، ومع ذلك رأت أن تأخذ معها صديقتها الممثلة الراحلة كريمة مختار لتزور معها مجلس الشيخ شاكر!
هذه كريمة وهذا شاكر الأسد المهيب، فكيف سيكون اللقاء؟.
الفنانة كريمة مختار، والشيخ محمود شاكر
أسفر اللقاء الذي أظنه الأول والأخير عن سؤال ألقته كريمة فدخل سجلات الأدب العربي ولم يغادرها بل لن يغادرها.
حكت عايدة الشريف رحمها الله في كتابها «قصة قلم» تفاصيل السؤال وسجلت الإجابة فقالت: «في يوم ميلاد الأستاذ محمود شاكر سنة 1983م الذي كان يوافق يوم عاشوراء، اصطحبت معي صديقتي الأثيرة كريمة مختار، وقد أخذتها الدهشة مما رأت في المجلس الحافل بمريديه الكثر، هذا يلقي قصيدة والآخر كلمة، والثالث ذكرى من مناقب محمود شاكر وشمائله، وكان الأستاذ عامر العقاد يقرر المتحدثين، وفجأة سمعته يعلن رغبة الفنانة كريمة مختار في الكلام، وأُسقِط في يدي».
الأستاذة عايدة محقة جدًا في خوفها من عاقبة الكلام الذي ستقوله صديقتها كريمة، فماذا ستقول كريمة بين هذا الحشد من العلماء؟
وكأني بعايدة كانت تهمس: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.
نعود لكتاب عايدة التي تقول: «بغتة سمعت كريمة تقول: إنني لم أقضِ مثلَ هذه اللحظات الجميلة في حياتي، ولم أرَ مِثلَ ذلك الحب المتدفق من المريدين لشيخهم، وقد دار في ذهني الآن سؤال: كيف يختار العلماء الأجلاء زوجاتهم؟».
الدخول إلى هذه المنطقة شديدة الخصوصية مع واحد مثل الشيخ شاكر، أمر محفوف بالمخاطر، فشاكر الذي يتزعم جبهة عريضة تدافع عن التراث العربي، لا يمكن أن يتوقع أحد منه إجابة عن سؤال كسؤال كريمة مختار.
ولكن حدثت المعجزة، لقد تدفق الرجل في الإجابة بل راح يبكي شاكرًا لزوجته أفضالها عليه، وقد قطعت دموعه العزيزة الغالية ألسنة سبق لها وأن خاضت في أمر زواج الشيخ زاعمة تواضع الأصل العائلي لزوجته.
محمود شاكر مع العائلة، وإلى يسار الصورة الأديب يحيى حقي
نعود إلى عايدة الشريف التي تقول: «ران الصمتُ عميقًا فوق هامات المريدين، وكأن على رؤوسهم الطير، وبغتة أتانا صوت محمود شاكر بسماحته المعهودة مع الضيوف الجدد على مجلسه، قائلًا: أنا ممن لا يجيدون الكلام؛ لأن صنعتي الكتابة، ولزواجي بأم فهر قصة عجيبة.
ذلك أنني عندما تركت الجامعة هاجرت إلى السعودية، وبقيت عامين – ولم يكن البترول قد ظهر فيها، ومن ثم لم تكن ذات ثراء- هناك كان لي صديق من أسرة كريمة، وهو الأستاذ حسين نصيف، وكان بيني وبين أسرته مودة، فحملوني إلى الزواج، وتحقق ذلك بخطبتي عام 1929م، بعدها ألمَّت بأهلي في مصر ملمة، وبدأت أتلقى رجاء الأهل، والأساتذة للعودة، ورجعت إلى مصر في العام الذي وُلِدَتْ فيه أم فهر.
ومرت الأيام وتوالت السنون، ويشاء الله أن تتعرف أختي عزيزة بإحدى حفيدات الشيخ حسن الكفراوي شارح الأجرومية، وأعلمتني أختي عمن قابلت، مُرْدِفَة بأن هذه الحفيدة قد هاجرت بها والدتها مع إخوتها من كفر الشيخ، وحثثتُ أختي بأن تصطحبها إلى بيتنا، وحين رأيتها أُعجِبتُ بدماثة خلقها وحيائها، ومن حماسي لهذه الفتاة النيرة ذهبت أقابل والدتها، وأشاورها في أن أتبنى هذه الفتاة، وعندما لفتت حماستي نظرَ من حولي، نبهوني أنه ليس في الإسلام تبنٍّ، قلت وأنا أكثر حماسة، وغير متراجع: ستكون ربيبتي حفيدة الرجل الصالح ذي المقام المهيب».
نقف قليلًا هنا لتوضيح بعض المعلومات التي أوردها الأستاذ شاكر، فهو قد هجر الجامعة ودراسته بكلية الآداب بعد خلافه الشهير مع أستاذه الدكتور طه حسين، فطه كان يقول إن الشعر الجاهلي مصنوع في العصر الإسلامي، بينما شاكر كان يرى أن الشعر الجاهلي صحيح النسب وينتمي إلى أصحابه من أهل الجاهلية، هذا إضافة إلى أن شاكر كان يتهم طه بأن ما يقوله منسوخ عن رأي المستشرق مارجليوث.
تسجل عايدة كلام الشيخ الذي واصل قائلًا: «هذه هي أم فهر، التي بقيت معنا أنا وأختي عزيزة من سنة 1945م طفلة إلى أن بلغت الشباب، حيث أخذ يتوافد عليها الخُطَّاب، وكلما جاء أحدهم بنية انتزاعها من بيتي اشتد إحساسي بأنني سأفقد شيئا عزيزا على نفسي، حتى خلت أنني لن أحيا بفقدها أبدا، فاقترح أحدهم عليَّ الزواج بها، فكان، والفضل كله يرجع إلى الأستاذ أحمد المانع.
وهكذا كان هذا الزواج على خلاف الأشياء، ذلك أنه في سنة 29 عندما خطبت في السعودية، كانت أم فهر نطفةً في بطن أمها، وكان القدر يرسم لي ولها مسارا غير متوقع، أي خلاف الأشياء».
ثم خنقت الدموع صوت الشيخ وهو يقول: «هي إذن رعتني قبل أن تكون زوجتي، وأكرمتني وحفظتني، وأكثر من ذلك أنها تحملتني، أكثر الله من خيرها ومن أمثالها، تحمَّلَتِ الوحدةَ مع وليدها سنوات سجني مرتين، وتحملتني خارجًا منه مريضًا نافدَ الصبر».
وهكذا كان لسؤال الفنانة كريمة مختار الفضل في أن نعرف قصة زواج عَلَم العربية الشيخ الأستاذ محمود شاكر، ذلك الزواج الذي مكَّنه من التفرغ للعلم تحت رعاية زوجة محبة مخلصة.
https://www.facebook.com/Abou.Fihr/videos/10154691338149897/?t=35