وصف الناقد الكبير د.شكرى عياد الروائى بأنه «نصف عالم اجتماع»، والحق أنه في الكثير من الأحيان يكون الروائي الحقيقي هو الأقدر على وصف النوازل التي تعصف بالبشر بل واستشرافها قبل حدوثها. وفي إبداعنا المعاصر تعرضت العديد من الأعمال الروائية لأوبئة مختلفة مرت على مصر في تاريخها الحديث، مثل «الأيام» لطه حسين و«الحرافيش» لنجيب محفوظ و«وقائع حارة الزعفرانى» لجمال الغيطانى التى تعرض فيها للعجز الجنسى الجماعى واتخد منه رمزا للعقم السياسى والاجتماعى – وهى الرمزية التي وظفها وحيد حامد وشريف عرفة وجسدها عادل إمام في فيلم «النوم في العسل» – أما العمل الروائي الأهم في تصوير الوباء وكيف يغير الحياة الاجتماعية للبشر فيتمثل في رواية «السائرون نياما» لسعد مكاوى التى رجع فيها إلى العصر المملوكى فى فترة لاتتجاوز ثلاثين عاما من عمر هذه السلطنة (1468- 1499م).
تتكون الرواية من ثلاثة أقسام هى على التوالى: الطاووس – الطاعون – الطاحون، ومن الواضح أنها تتعرض فى القسم الثانى للطاعون الذى حدث فى هذه الفترة المملوكية، واللافت أن ابن حجر العسقلانى قد كتب «بذل الماعون فى فضل الطاعون» فى زمن هذا الوباء معتمدا على رؤية لاهوتية ترى الوباء راجعا إلى غضب الله وأنه – أى الطاعون – حكمة إلهية محكومة بمبدأ الثواب والعقاب، غير أن سعد مكاوى يقدم رؤية مختلفة تقوم على أن هذا الوباء راجع – أولا وآخرا – إلى طاعون من نوع آخر هو طاعون «المماليك» و«الملتزمين» الذين ينهبون أقوات الفلاحين ويهتكون أعراضهم الأمر الذى أدى إلى ثورة المصريين فى «ميت جهينة» على الملتزم وقتله وإخراج مافى صومعته من غلال.
جعل سعد مكاوى من الفصل الأول تمهيدا اجتماعيا وسياسيا لما سوف يتعرض له فى الفصل الثانى من انتشار وباء الطاعون حيث صور فى البداية شهوة القتل وشهوة الطعام اللتين كانتا مسيطرتين على أمراء المماليك. يقول «عتلم» – الجاشنكير الذى يأكل من كل أنواع الطعام التى تقدم إلى السلطان خوفا من أن يكون السم قد دس فى أحدها – لبظلم – والى القاهرة – إن «المطبخ السلطانى كله يقوم على معدتى.. تأمل يازميل.. كل هذا الوارد الهائل من اللحوم والخضر والحلوى والسمن والتوابل.. يطبخون هنا فى اليوم الواحد عشرة آلاف رطل من اللحم ويذبحون ألف دجاجة» هذا الشره السلطانى للطعام يقابله فقر الفلاحين وعيشهم على الكفاف. وإذا كان كل ماسبق هو وباء السلطان وولاته وطاعونهم الذى أفضى إلى زوال دولتهم فإن طاعون الفقراء قد تمثل فى مظاهر أخرى…
ماقبل الطاعون.. ظلام الحارة العطن
م يكن وصف المكان فى الرواية الحديثة محايدا فهو مجاز مرسل للدلالة على حالة أصحابه ومن هنا كان اهتمام مكاوى بوصفه الدقيق للبيوت «المتلاصقة فى الظلام كالأقزام المتساندة».. «إن وصف البيوت بأنها متلاصقة ومتساندة وشبيهة بالأقزام يوحى بالحالة الاجتماعية التى يرزح أصحابها تحت ثقلها، كما أن وصف أكوام القذارة بالأزلية يمهد لانتشار الفئران حاملة وباء الطاعون الذى سوف يسيطر على أجواء الفصل الثانى ولاشك أن هذه الحالة التى وصل إليها العامة كانت بسبب غارات المماليك على البيوت والدكاكين لنهب أرزاق الناس وأعراضهم حتى أصبحوا جياعا عرايا».
الفئران.. نذر الطاعون الأولى
فى أثناء سؤال ابن الملتزم أحد المجاذيب عن وجود غرباء فى الدائرة يمرق فجأة «من بين الأرجل فأر كبير ويتوارى فى لمحة وراء الحجر الكبير» فيضحك الشاب المجذوب قائلا: «ما أكثرها هنا ..أكثر من طوب الحيطان» ويشير الكاتب إلى أنها «تتزايد بسرعة مخيفة»، ويلح الكاتب على ذكر الفئران إلى الدرجة التى تجعل منها رمزا للفلاحين أنفسم عندما يرصد فأرا يرقص فى «تجويف جذر ضخم من جذور التوتة المعمرة.. فأرا كبيرا مبتل الفروة يحاول أن يجرى فتضطرب أرجله القصيرة ويتداعى للسقوط على جنبه» إن هذه الفئران المحاصرة فى تجاويف الأشجار والطاحونة والسراديب حتى الموت أشبه بحياة الفلاحين المحاصرة بالجوع وسياط المماليك إضافة إلى أنها – كما ذكرت – كانت نذر الطاعون الذى أهلك أعدادا غفيرة من الفلاحين.
أثناء الطاعون
يبدأ ظهور أول حالة إصابة مع «خميس» الذى ظل «يتململ متوجعا فى جلسته وظلت رقبته مائلة برأسه نحو كتفه والدموع تنحدر على وجهه الضامر المروع» وكما هى عادة المصريين «احتضنه اهتمامهم وأحاطوه بقلوبهم وعرفوا منه مواجعه» دون نفور أو خوف من العدوى، وهو ما يظهر إحدى سمات الشخصية القومية المصرية وهى التضامن وقت الخطر والالتفاف حول المصاب، دون مراعاة للضوابط الصحية الكفيلة بتفادي العدوى.
لم يتوقف الأمر عند خميس فقد «بدأ البلاء بالفئران ثم اندلع فى جنس البنى آدم وكاد يكنسه من الأرض» فها هو «سليمان أبو طاسة» يشعر بالنار فى رأسه وأحشائه، ويظهر رجوع الجميع إلى الله والجوء إليه ليكشف الغمة حيث يوصى الشيخ مرعوش الجميع بالدعاء حتى يرفع الله البلاء ويهمس خالد بالتوسل بالست «زليخة» المباركة صاحبة النبوءات الصادقة وفى هذه الابتلاءات تكثر عيادات الجيران لأهل المصاب ويظهر تجلد المصريين وصبرهم وعدم التفكير فى الخلاص بالنفس بل الخلاص الجماعى الذى تأكد على مستوى آخر فى ثورتهم على الملتزم فى ميت جهينة.