تشيلسي هيث – باحثة دكتوراه في الأدب الإنجليزي المعاصر بجامعة أكسفورد
عرض وترجمة: أحمد بركات
من «إلياذة» هوميروس، و«ديكاميرون» جيوفاني بوكاشيو، إلى «منصة» ستيفن كينج، و«انفصال» لينج ما، وما بينهم من روايات وأعمال أدبية، شغلت قضايا الأوبئة والطواعين – على مدار تاريخ الأدب الغربي الممتد – اهتمام الأدباء، فانبروا في تصوير دواخل النفس البشرية في أوقات هذا النوع من الأزمات الذي يهدد جوهر وجودها، وعرضوا لآراء سياسية لما يجب أن تكون عليه السلطة الحاكمة في مواجهة ما قد يعتقده البعض في وقته نهاية العالم. ولا يزال الأدب يضطلع بدور محوري حيال الأزمة الراهنة الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد الذي سيحدث – بلا شك- هزة قوية في الأنظمة الاقتصادية والتفاعلات المؤسسية الراسخة، كما نشاهد الآن – على سبيل المثال – في انتقال الجامعات في أغلب أنحاء العالم إلى استراتيجيات التعلم عن بعد. وتمنحنا هذه النصوص الفرصة لإعادة التفكير من خلال أزمات مشابهة اجتاحت العالم في أوقات سابقة، وتطوير أفكار خاصة بإعادة هيكلة مجتمعاتنا على أسس أكثر مساواتية بعد انتهاء الأزمة.
حدث «الطاعون»
هنا تجدرالإشارة إلى بعض النصوص التي اشتبكت مع هذا النوع من الأزمات، والالتفات إليها بعمق حتى يتسنى لنا أن نفهم – على نحو أفضل – ردود أفعالنا، وأن نتخلص، أو نتخفف- على أقل تقدير- من حدة العنصرية والخوف المرضي من الأجانب (xenophobia) والتمييز ضد المعاقين (ableism) في السرديات التي تحيط حاليا بانتشار فيروس كورونا.
وبدءا من الكلاسيكيات، ووصولا إلى الروايات المعاصرة، تسعى هذه القائمة لبعض أعمال «أدب الأوبئة والطواعين» إلى توفير شعور «بالراحة الغامضة»، ورسم خارطة «لما سيحدث بعد».
يفتتح هوميروس «الإلياذة» (Iliad) – كما كتبت «ماري بيرد»، أستاذ الكلاسيكيات في جامعة كمبريدج – بحدث الطاعون الذي حل بمعسكر اليونانيين في طروادة عقابا لهم على جريرة استعباد أجاممنون لكريسيس. ويؤكد «دانيل بليكمان»، أستاذ الأدب المقارن بجامعة كاليفورنيا، أن صراع أجاممنون وأخيل «لا يجب أن يعمينا عن دور الطاعون في تحديد مسار الأحداث التالية، أو – وهو الأهم- في تقديم نمط أخلاقي لا ينفصل عن جوهر الأحداث». بعبارة أخرى، فإن «الإلياذة» تمثل آلية سردية لكارثة نجمت عن سلوك غير حكيم، وحاقت بجميع الشخصيات التي تورطت في هذا السلوك.
وتكشف رواية «ديكاميرون» (Decameron) (1353) للروائي الإيطالي جيوفاني بوكاشيو – التي تدور أحداثها خلال فترة طاعون «الموت الأسود» الذي اجتاح أوربا في الفترة بين عامي 1347 إلى 1352، وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة – عن الدور المحوري الذي يضطلع به السرد في أوقات الأوبئة والكوارث. تدور أحداث الرواية حول عشرة أفراد يعزلون أنفسهم ذاتيا في ’فيلا‘ خارج مدينة فلورنسا الإيطالية لمدة أسبوعين أثناء تفشي الطاعون. وفي أثناء فترة العزل، تتناوب شخصيات الرواية على سرد قصص عن الأخلاق والحب والسلطة والتجارة و الجنس.
في هذه المجموعة من القصص، يقدم السرد منهجية جديدة لمناقشة البنى والتفاعلات الاجتماعية في بدايات عصر النهضة. كما تقدم هذه القصص لكل من المستمعين داخل الرواية (والقراء خارجها) وسائل يمكنهم من خلالها إعادة هيكلة حيواتهم اليومية «النمطية» التي توقفت بسبب الوباء.
فشل السلطة
وتمثل نمطية الحياة اليومية الموضوع الأساس لرواية «الرجل الأخير» (The Last Man) (1826) للروائية الإنجليزية «ماري شيلي». حيث تنطلق أحداث الرواية في بريطانيا ’المستقبلية‘ في الفترة بين عامي 2070 إلى 2100، وتُفصِّل الرواية – التي تحولت إلى فيلم في عام 2008 – حياة ليونيل فيرني، الذي أصبح فعليا “الرجل الأخير” على هذا الكوكب في أعقاب تفشي طاعون عالمي مدمر.
تركز رواية شيلي على قيمة الصداقة، وتسدل أستارها على فيرني وهو يتجول برفقة كلب لتذكرنا بأن الحيوانات الأليفة يمكن أن تتحول إلى مصدر للراحة والاستقرار النفسي في أوقات الأزمات. تنطوي الرواية أيضا على نقد لاذع لقضية الاستجابة المؤسسية للطواعين، وتحمل بشدة على اليوتوبيا الثورية، والصراعات الداخلية التي تندلع بين المجموعات الناجية قبل أن تستسلم هي الأخرى للموت.
وترسم قصة «إدجار آلان بو» القصيرة «قناع الموت الأحمر» (The Masque of the Red Death) (1842) أيضا ملامح إخفاق رموز السلطة في الاستجابة بشكل ملائم وإنساني لهذا النوع من الكوارث. فالموت الأحمر يسبب نزيفا قاتلا من المسام. إزاء ذلك، يجمع الأمير بروسبيرو ألفاً من رجال الحاشية الملكية في دير منعزل بعد أن أمده بكل وسائل الرفاهية والأبهة، ويقيم لهم حفلة تنكرية بحجة أن «العالم الخارجي يمكنه أن يعتني بنفسه، كما أنه من الحماقة أن تحزن أو أن تفكر».
ويفصل بو الاحتفالات الباذخة التي تنتهي بحلول الموت الأحمر كضيف شبه بشري على الحفل الملكي. ويقبض الطاعون المجسد حياة الأمير، ثم أفراد حاشيته.
إبداعات حديثة ومعاصرة
في القرن العشرين، لفتت رواية ألبرت كامو «الطاعون» (The Plague) (1942)، ورواية ستيفن كينج «المنصة» (The Stand) (1978) أنظار القراء إلى التداعيات الاجتماعية للأوبئة، وبخاصة العزلة، وإخفاق الدول في احتواء الوباء أو حتى في التخفيف من حالة الذعر الناجمة عن انتشاره. وينجح العزل الذاتي في رواية كامو في خلق حالة من الوعي بقيمة التواصل البشري والعلاقات الإنسانية بين مواطني مدينة وهران الجزائرية التي ضربها الطاعون.
وفي رواية كينج تتسرب أنفلونزا حادة مهندَسة بيولوجيا تحمل اسم «بروجيكت بلو» من قاعدة عسكرية أمريكية، وتنجم عنها حالة من الفوضى العارمة. وقد ذكر كينج مؤخرا في تغريدة على موقع «تويتر» أن مرض «كوفيد – 19» الحالي ليس بدرجة خطورة الوباء الذي تخيله في روايته، وحث الناس على اتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة.
No, coronavirus is NOT like THE STAND. It’s not anywhere near as serious. It’s eminently survivable. Keep calm and take all reasonable precautions.
— Stephen King (@StephenKing) March 8, 2020
وبالمثل، يفصل الروائي الجنوب أفريقي ديون ماير في روايته «الحُمى» (Fever) (2016) التداعيات المروعة لفيروس مهندَس بيولوجيا يؤدي إلى جيوب من الناجين تحاصر بعضها البعض للاستيلاء على الموارد.
وفي رواية «الانفصال» (Severance) (2018)، تقدم الروائية الصينية الأمريكية، لينج ما، نظرة معاصرة لروايات الزومبي حيث تحول «حُمى شين» الناس إلى آليين تكراريين، ويظلون كذلك حتى الموت. وفي استعارة واضحة للرأسمالية التي تجعل من الإنسان مجرد ترس في آلة، تنتقل البطلة «كانديس» يوميا إلى مكان عملها في نيويورك المستقبلية التي تتداعى ببطء. وفي النهاية، تلتحق البطلة بمجموعة من الناجين، وتتشرب حتى النخاع توجهاتها العنيفة على المستويين الثقافي والأخلاقي تجاه الزومبي، «لتجسد حالة إنسان الرأسمالية المتأخرة في مجتمع تجرد من إنسانيته حتى النخاع»، كما كتبت «جيايانج فان».
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا