رؤى

إجراءات ماكرون الأخيرة.. هل توقف الإسلام السياسي أم تغذيه؟

لا يوجد إحصاء رسمي معتمد لعدد المسلمين في فرنسا، وهو ما يُرجعه البعض إلى الطبيعة العلمانية المتأصلة التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، والتي بموجبها لا يسمح القانون الفرنسي بإجراء احصاء للسكان على أساس المعتقد، وإن كانت هناك تقديرات مختلفة تشير إلى أن عددهم يتراوح بين 5 إلى 12 مليون نسمة من بين إجمالي سكان فرنسا المقدر بحوالي 67 مليون نسمة. وفي السنوات الأخيرة يبدو أن وجود المسلمين بدأ يتأزم بشكل ملحوظ وهو ما يرجعه كثيرون لفهم المسلمين المغلوط لبعض المفاهيم الاسلامية، فضلا عن نظر الآخرين أحيانا بشكل غير صحيح للاسلام والمسلمين.

في هذا السياق أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن عدد من الاجراءات تهدف لإحكام سيطرة الدولة على كامل ترابها مؤكدا أنها غير موجهة للمسلمين بصفة خاصة، بيد أن هذه الاجراءات تحمل دلالات عدة فيما يتعلق بتوقيت الإعلان عنها بالنسبة للحياة السياسية الفرنسية، كما أنها تعكس رؤية القيادة الفرنسية للمجتمع وأسس تماسكه وموقع المسلمين منه.

مانويل ماكرون

خطاب ماكرون.. وعلمنة الإسلام

بدأ حديث ماكرون حول هذه القضية يتزايد على نحو واضح في شهر أبريل من العام الماضي 2019 في إطار المراجعات المجتمعية التي بدأها للخروج من أزمة ذوي السترات الصفراء. ثم أكد في نوفمبر 2019، على أن بلاده ستُقدم على خطوات جديدة فيما يخص مكافحة «الإسلام السياسي». ثم تطرق إليها خلال زيارته لبلدية ميلوز في فبراير الماضي.

تنطلق أفكار ماكرون من التأكيد على أن التيار الإسلامي الأصولي يعمل في فرنسا على تطرف المسلمين وعزلهم عن المجتمع الوطني، كما اتهمه باختراع مفهوم الإسلاموفوبيا لخداع المسلمين وايهامهم بانهم ضحابا للعنصرية. وهو ما أدى – في رأى ماكرون – لانفصال المسلمين في فرنسا عن المجتمع. ووفق الرئيس الفرنسي ترسخ ذلك في بعض الأحيان لأن الجمهورية تخلت أو لم تف بوعودها تجاههم، ومن ثم ظهر مشروع الإسلام السياسي الذي يسعى إلى «انفصال» عن الجمهورية الفرنسية، كما خلق حالة من الطائفية في بعض أنحاء البلاد.

ولتجاوز تلك المشكلة تحدث ماكرون عن ضرورة علمنة الاسلام، انطلاقا من أن العلمانية هي التي تضمن حرية المعتقد وممارسة الشعائر والتعايش بين الجميع دون تفرقة. لاحقا ترجم ماكرون مقترحاته في برنامج له خطوات محددة، وأكد أن هذا البرنامج «ليس برنامجا ضد الإسلام» وانما يهدف لاسترجاع الدولة تحكمها في كامل تراب البلاد وفرض مبادئ وقوانين الجمهورية على كل المواطنين.

شملت الخطة التي أعلنها ماكرون الشهر الماضي عددا من النقاط الأساسية هي:

  • تحرير المساجد والمدارس من التأثيرات الأجنبية: وشمل ذلك عددا من الاجراءات منها الانهاء التدريحي لنظام ابتعاث أئمة من الجزائر والمغرب وتركيا إلى المساجد الفرنسية، وإيجاد بديل للنظام الذي كان يسمح بإرسال 300 إمام إلى فرنسا سنوياً من هذه الدول، بهدف كبح النفوذ الأجنبي في المجال الديني. كما منع برنامج اللغات الأجنبية التابع للقنصليات ابتداء من سبتمبر القادم. وأوضح ماكرون أن عددا من المدرسين لا يجيدون اللغة الفرنسية وأن الدولة ليس لها رقابة على محتوى التدريس وعلى المدرسين. ويشمل هذا الإجراء كل المدارس التابعة للجزائر وكرواتيا وتونس واسبانيا و إيطاليا والمغرب والبرتغال وصربيا وتركيا. وقد عمد ماكرون على أن تكون البلدان «الإسلامية» ضمن قائمة تشمل بلدانا أوروبية «مسيحية» حتى لايُعتقد أن الإجراء يستهدف بالأساس الإسلام.والمسلمين فضلا عن تحقيق الشفافية فيما يتعلق بتمويل دور العبادة والمؤسسات الدينية الأخرى.
  • مكافحة المحاولات الانفصالية للمسلمين عن المجتمع الفرنسي والتي تأخذ أشكالاً مختلفة مثل أوقات الاستحمام المنفصلة في حمامات السباحة العامة وساعات الصلاة في النوادي الرياضية وانتهاكات قانون المساواة بين الفتيات والفتيان. إلى جانب معالجة إشكالية افتقار الكثير من الأحياء في فرنسا إلى عروض اجتماعية ورياضية وثقافية. وفي هذا السياق دعا الرئيس الفرنسي إلى «عودة» العروض العامة في مجالات الثقافة والرعاية الصحية والتعليم والتدريب في المناطق السكنية المهملة في السابق.
  • دعوة ممثلي مسلمي فرنسا إلى التنسيق بشكل أفضل فيما بينهم، وركز ماكرون في هذا السياق على ضرورة  رفع عدد الأئمة المدَرَّبين في فرنسا.، إلى جانب منع تسلل التحالفات أو القوائم الطائفية» التي تتخذها بعض الرموز الإسلامية من المشاركة في الانتخابات البلدية للتسلل في البلديات قصد فرض «قوانين خارجة عن المبادئ الجمهورية».

اتهامات «التوظيف السياسي»

وفق بعض منافسي ماكرون، فإن توقيت تطرقه إلى قضية التطرف الإسلامي و«الطائفية» في الوقت الحالي لا يخلو من التوظيف السياسي لاسيما فيما يخص الانتخابات البلدية المقبلة المزمع عقدها بنهاية مارس الحالي (ما لم يتم إرجاؤها بسبب فيروس كورونا). حيث تحتل هذه الانتخابات أهمية كبيرة لدى ماكرون الذي يسعى للحصول على دعم اليمين الجمهوري والجالية الإسلامية في فرنسا في إطار برنامج إعادة ترشحه لولاية ثانية عام 2022. وهو الهدف الذي ربما لا يتمكن ماكرون من تحقيقه في حال أحكمت جماعات الإسلام السياسي قبضتها على الناخبين المسلمين، حيث تسعى هذه الجماعات لاستغلال أصوات المسلمين فيى الانتخابات المحلية للدفع بمرشحين لواجهة المشهد السياسي المحلي. رغم ذلك أكد ماكرون على معارضته لمنع الأشخاص الحاملين لفكر الإسلام السياسي، من المشاركة في الانتخابات المحلية في العام 2020، متابعاً أن هذه المشكلة لن يتم حلها عبر منع المشاركة في الانتخابات، لكنه شدد على أهمية مكافحة الإسلام السياسي في البلاد.

وبعيدا عن الانتخابات، لا يمكن اغفال حقيقة التوتر الذي يشهده المجتمع الفرنسي بشكل شبه متواصل بسبب الحضور الاسلامي، خاصة أن فرنسا تواجه منذ 2015 تحديات أمنية كبيرة بسبب التعرض لهجمات المتطرفين. وهناك – من ناحية أخرى – التجاذبات المجتمعية على خلفية قضايا كالحجاب والنقاب ومساحات للنساء في المسابح أو التشكيك في بعض البرامج المدرسية.. وغيرها. وتجدر الاشارة إلى أن فرنسا تشهد منذ نوفمبر 2018 اجراء مشاورات بين الحكومة وممثلي الديانات لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع لإصلاح قانون 1905 (الذي يقر الفصل بين الدولة والكنيسة) بهدف زيادة الشفافية في تمويل أماكن العبادة وضمان احترام القانون والنظام.

من ناحية أخرى من الضروري توجيه النظر أمام الضغوط التي ربما يكون ماكرون تعرض اليها في هذا السياق لاسيما مع الضجة التي أثارها كتاب صدر حديثا في فرنسا بعنوان «أوراق قطرية» يتحدث عن الدعم السخي الذي تقدمه قطر لتنظيمات وشخصيات تروج أفكارا متطرفة تحت غطاء أكاديمي وخيري في عدد من دول أوروبا ومنها فرنسا. وهناك كذلك الضغوط المرتبطة بالتوتر في علاقة ماكرون بنظيره التركي أردوغان بسبب ملفات عدة منها اللاجئون والعلاقات في إطار الناتو.. وغيرها.

 إجراءات ماكرون: انتقادات وتوقعات

يعكس نهج ماكرون في التعامل مع  الاسلام  والمسلمين في فرنسا عددا من الدلالات المهمة ترتبط أساسا بالأسس القيمية التي يستند إلها المجتمع الفرنسي لاسيما العلمانية التي تعد حجر الزاوية للجمهورية الفرنسية الحالية، وهذا ما اتضح من االاجراءات التي اتخذها ماكرون وكذلك مفردات اللغة التي استخدمها، فحديثه عن الانعزال أو الانفصال الاسلامي يوضح أن مشكلته ليست في وجود المسلمين في فرنسا وانما في ممارسات تيار الاسلام السياسي، ومن ثم حرص ماكرون على ألا يخلط بين ما يعتبره حقا دستوريا، وهو أن يعتنق المواطن أي ديانة وبين امارسات سياسية تحت غطاء ديني لا تتماشى وقوانين البلاد.

ورغم ذلك تباينت توقعات المراقبين للنتائج المتوقع أن تترتب على البرنامج الذي اقترحه ماكرون، فمن ناحية أولى يبدو أن هناك عددا من الانتقادات التي يوجهها البعض لخطة ماكرون انصبت على أن البرنامج المقترح لا يقدم معالجة لأسباب الأزمة، فمع الاعتراف بوجود أحياء في الضواحي الفرنسية تعيش نوعا من الانغلاق إلا أن أسباب تحوّل هذه الأحياء إلى «جيتوهات» ليس دينيا، وليست لها علاقة بالإسلام، ولكن بسبب تهميش سكان هذه المناطق والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعانونها، وهو ما تجاهله برنامج ماكرون الذي جاء خاليا من أى اجراءات اقتصادية- اجتماعية لإنهاء هذا التهميش.

فيما حذر آخرون من أن محاربة الإسلام السياسي/الحركي المعتدل – مهما كان عيوبه وحتى لو كانت له توجهات قومية وأهداف سياسية- لن يكون مردوده في الصالح الفرنسي بل بالعكس فإن الشعور بالاغتراب وفقدان الهوية الذي سيخلقه هذا الإسلام الفرانكفوني لن يؤدي إلا لانجراف الشباب إلى التطرف في ظل غياب نموذج الإسلام السياسي الأقرب لهم.

 على الجانب الآخر، يرى كثيرون أن اجراءات ماكرون تعطي بصيص امل في امكانية ايجاد حلول تعالج انعزال المسلمين في فرنسا عن المجتمع، فيما يمكن اعتباره برنامجا لإعادة هيكلة الإسلام في فرنسا، ومن ثم يثمنون أهمية وجود مرجعية دينية فرنسية تعمل على الاهتمام بالشأن الاسلامي في فرنسا، وعليه فإن إنشاء جامعة دينية معترف بها من الدولة سيساعد الدولة في التخلص تدريجيا من الائمة الداعين للتطرف ونشر المفاهيم المغلوطة التي تضر بنسيج المجتمع، ويحد من الخلط بين المسلمين والإسلاميين وبين الإسلام والإسلام السياسي.

 

مروة نظير

‎المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock