حضرت فصائل الإسلام السياسي متأخرة ولكن بقوة في الموجة الأولي من الانتفاضات العربية، ومثّلت في المجمل عبئا كبيرا على نجاح هذه الإنتفاضات، خاصة بعد أن انتقلت من احتجاجات في الشارع إلى سلطة يفترض أنها تدير عملية انتقال ديمقراطي. والمؤكد أن وصول الإخوان المسلمين كجماعة دينية عقائدية للسلطة في مصر كان عاملا رئيسيا وراء فشل التجربة، كما مثلت تحديا كبيرا في تونس وكادت أن تعصف بالتجربة لولا ماجري في مصر من تحولات في أعقاب 30 يونيو وظهور طرف قوي في وجه تيارات الإسلام السياسي.
الموجة الأولى: عبء كبير
من المعروف أن جماعة الإخوان في مصر قد رفضت أن تحصل على شرعية وجود قانوني كجمعية أهلية تعمل كجماعة دعوية دينية مثل مئات غيرها في المجال العام ومنفصلة عن الحزب السياسي، وأصرت أن تبقي فوق قوانين الدولة حتى بعد وصولها للسلطة، ورفضت أن تحصل على شرعية قانونية، وأسست حزبا سياسيا كان مجرد ذراع للجماعة الدينية، والنتيجة كانت إقصاء القوى السياسية الأخرى وخروج احتجاجات شعبية واسعة أدت إلي تدخل الجيش وعزل محمد مرسي وإسقاط حكم الإخوان.
أما في تونس فقد حدث صدام بين حركة النهضة وباقي القوي السياسية عقب الثورة، ولكون النهضة حزبا سياسيا مدنيا غير مرتبط تنظيميا بجماعة دينية عقائدية توجه كل تحركاته مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فإن هذه الصيغة أعطته هامشا للمناورة والقبول بتقديم تنازلات وحلول وسط مع باقي أطياف المجتمع والقوي السياسية، وخاصة بعد إسقاط حكم «الجماعة الأم» في مصر.
أما في ليبيا وسوريا فقد مثل وجود التيارات الإسلامية سواء في صيغتها الإخوانية أو تنظيميْ القاعدة وداعش سببا رئيسيا في دعم تيار واسع من الشعب في كلا الدولتين للخيار العسكري سواء على يد خليفة حفتر في ليبيا أو النظام القائم في سوريا مما أنهي أي فرصة لعملية انتقال ديمقراطي، وأصبح الهدف هو وقف الحرب وإنهاء سفك الدماء وعودة النازحين.
الموجه الثانية: تراجع واضح
يمكن القول إن حضور الإسلام السياسي بصورته الدينية العقائدية في مصر، والمدنية في تونس قد تراجع في تجارب الموجه الثانية من الانتفاضات العربية أي في تجارب السودان والجزائر والعراق ولبنان.
يمكن تفسير هذا التراجع في الجزائر على خلفية ما ذاقه الشعب من ويلات «العشرية السوداء» التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأشخاص، وكان الإسلاميون أحد الأطراف الرئيسية المسئولة عن سفك الدماء طوال تلك الفترة.
والمؤكد أن حراك الجزائر طوال العام الماضي لم يشهد مظاهرة واحدة قادها الإسلاميون على طريقة «مليونيات قندهار» في مصر عقب ثورة يناير، ولم يضع حراك الجزائر الشريعة في مواجهة بناء الدولة المدنية الديمقراطية مثلما فعل بعض السلفيين في تونس عقب ثورتها أو كثير من الإسلاميين في مص (تحالف دعم الشريعة)، وأصبح بناء الدولة المدنية الديمقراطية هو هدف الجميع بما فيهم بعض التيارات المدنية ذات المرجعية الإسلامية التي شاركت في الحراك دون أن تقوده أو تكون طرفا رئيسيا فيه.
أما في السودان فقد واجه الشعب حكما ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الحكم الذي اعتبره البعض في العالم العربي حلما يسعون إليه، وأسموه بالحكم الإسلامي، وهو ما ثار ضده الشعب السوداني ونجح في إسقاطه.
خصوصية السودان
لعل معضلة السودان تكمن في أن التجربة الانتقالية ورثت من حكم البشير مؤسسات دولة ضعيفة نتيجة أخونة كثير منها وإضعاف البعض الآخر، ورغم أن الجيش السوداني طاله جانب من هذه السياسة إلا أنه نجح في الحفاظ على تماسكه رغم التحديات الكبيرة التي واجهها والخلافات التي جرت بين بعض قادته بل وحتى محاولات الانقلاب على المسار السياسي الجديد أكثر من مرة.
والحقيقة أن أي حديث عن ان الحركة الإسلامية التي رتبت لانقلاب 1989 في السودان ووضعت البشير على رأس الحكم لاتنتمي تنظيميا إلى حركة الإخوان المسلمين هو حق يراد به باطل فالحركة هي صناعة إخوانية بامتياز وكثير من قادتها كانوا جزءا من تنظيم الجماعة وإن كل ما طبقته في السودان كان منهجا إخوانيا بامتياز. فلم يعترف البشير ونظامه بحياد مؤسسات الدولة وبوجود سلطة قضائية وجيش وشرطة وجهاز إداري مستقل عن الحزب الإسلامي الحاكم وعن باقي الأحزاب السياسية إنما أجري عملية تجريف وأخونة لكثير من هذه المؤسسات بضم عناصر إخوانية (كيزان بالتعبير المستخدم في السودان) لهذه المؤسسات بغرض السيطرة عليها وتوجيهها وفق خط النظام الحاكم.
والمؤكد أن مهمة رئيس الوزراء السوداني والمجلس السيادي ليست فقط مواجهة المشاكل الاقتصادية والسياسية المتراكمة إنما أيضا التأسيس لمرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة وضمان حيادها تجاه الحزب أو النظام الحاكم.
ويمكن القول إن فرص نجاح أي مرحلة انتقالية لشعب ثار على نظام حكم إخواني أكبر بكثير من أي مرحلة انتقالية يدعي الإخوان أنهم جزء من قوي التغيير فيها، فهنا ستكون فرص الفشل في التجربة الثانية أكبر بكثير من التجربة الأولي، فقد أسقط السودانيون حكما اعتبره البعض في العالم العربي حلما (وهو في الحقيقة وهم) يسعون إليه، وأسموه بالحكم الإسلامي وثبت بالدليل العملي أنه أسوأ من باقي النظم الاستبدادية.
ورغم صعوبة المرحلة الانتقالية وطولها والتحديات التي تطرحها إلا أن فرص نجاحها في السودان لازالت واردة رغم الظروف الاقتصادية الصعبة والانقسامات الداخلية
فيتو الأحزاب الدينية
على الرغم من الفروق الواضحة بين الإسلام السياسي الشيعي والسني، يمكن القول إن الأحزاب والتنظيمات الدينية الشيعية قد وقفت في معظمها في مواجهة الحراك الشعبي في العراق ولبنان، ففي الأولي خرجت المظاهرات متبنية خطابا مدنيا وغير مذهبي وبمشاركة واسعة من الشيعة في مواجهة الأحزاب الدينية الشيعية التي تحكم العراق منذ الغزو الأمريكي في 2003.
أما في لبنان فقد وقف التنظيم العقائدي/ السياسي الأكبر ممثلا في حزب الله كحجر عثرة أمام الحراك الشعبي في البلاد ودخل في سجال قوي مع قياداته حتى وصل لاتهامهم بالعمالة لسفارات أجنبية على خلفية الزعم بأن هذا الحراك تم توضيفه في المواجهة الاقليمية الدولية بين ايران وحزب الله والنظام السوري من جهة وأمريكا واسرائيل من جهة اخري.
ولأن التركيبة السياسية في لبنان لازالت معتمدة على جوانب طائفية فإن هذا يعني أن طرفا أساسيا في المعادلة الثلاثية بين السنة والشيعة والمسيحيين قد وقف في النهاية ضد الحراك وحشد أنصاره من أجل مواجهته بالقول أو باليد وهو ما جعل هناك استحالة في أن يُحدث الحراك في لبنان تغييرا جذريا في البلاد في ظل سيطرة حزب الله.
المؤكد أن سقف الانتفاضة الشعبية في العراق ولبنان هو سقف إصلاحي بمعني أنه لا يمكن إسقاط المنظومة الطائفية في كلا البلدين «بكبسة زر» وعبر الشارع والاحتجاجات، فهذا النظام -على عيوبه الجسيمة – متجذر مجتمعيا وخاصة في لبنان كما أنه كان مصدرا للاستقرار والسلم الأهلي في هذا البلد الصغير رغم أنه وصل إلى طريق مسدود بسبب الفساد والمحاصصة وسوء الأداءـ وبالتالي وجب تغييره بتجديده بشكل تدريجي وليس الإسقاط لأنه سيعني الفوضى العارمة والانهيار الكامل.