رؤى

أمة في خطر.. لماذا فشلت أمريكا ترامب في مواجهة كورونا؟(٢-٢)

إد يونغ كاتب علمي في مجلة The Atlantic الأمريكية

عرض وترجمة: أحمد بركات

لن تتمكن أفضل صور الاستجابة الحكومية والشعبية من القضاء على وباء كورونا. فطالما أن الفيروس موجود في مكان ما، فهناك احتمال أن يشعل مسافر مصاب شرارات جديدة في بلدان كانت قد أطفأت فعليا حرائق الوباء بها. يحدث هذا بالفعل في الصين وسنغافورة وغيرهما من دول آسيا التي بدت لفترة وجيزة وكأنها سيطرت على الفيروس. 

نهايات محتملة

في ظل هذه الأوضاع، تلوح في الأفق ثلاث نهايات محتملة، إحداها غير واردة بدرجة كبيرة، وثانيتها بالغة الخطورة، والثالثة تحتاج إلى فترة زمنية طويلة للغاية. 

تتمثل النهاية الأولى المحتملة أن تتمكن جميع الدول من القضاء على الفيروس في وقت واحد، مثلما حدث مع «سارس» «SARS» في عام 2003. لكن، إذا أخذنا في الاعتبار حجم انتشار وباء كورونا، والحالة التي هوت إليها العديد من البلدان، فإن احتمالات سيطرة عالمية متزامنة على الفيروس تبدو غير واقعية.  

فيروس السارس هو المسبب بمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة

والثانية هي أن يؤول كورونا نفس المآل الذي آلت إليه أوبئة الأنفلونزا السابقة عليه، فينتهي في جميع أنحاء العالم، مخلفا وراءه فيروسات محصنة تكافح حتى تجد في النهاية أجساما تحملها وتمنحها الحياة. يتسم سيناريو «مناعة القطيع» هذا بالسرعة، ومن ثم بالجاذبية. لكن تكلفته باهظة للغاية. ففيروس SARS-CoV-2 أكثر قابلية للانتقال وأشد فتكا من الأنفلونزا، وسيخلف على الأرجح عدة ملايين من الموتى والعديد من الأنظمة الصحية المتداعية. لقد بدت المملكة المتحدة في أول الأمر وكأنها تدرس استراتيجية «مناعة القطيع» هذه، قبل أن تتراجع بعدما كشفت النماذج عن عواقب وخيمة. ويبدو أن الولايات المتحدة تبحث الأمر ذاته الآن أيضا.  

أما السيناريو الثالث فهو أن يدخل العالم في لعبة «مناورة» طويلة الأمد مع الفيروس، وذلك بالقضاء على تفشياته هنا وهناك حتى يتم إنتاج لقاح. هذا هو الخيار الأفضل على الإطلاق، لكنه يستغرق وقتا طويلا فهو الأطول زمنا والأكثر تعقيدا. 

يعتمد هذا السيناريو ابتداء على إنتاج لقاح. ربما لو كان الأمر متعلقا بجائحة أنفلونزا، لسهل تنفيذه؛ فالعالم يمتلك خبرة واسعة في هذا المجال، ويقوم بذلك كل عام. لكن لا توجد لقاحات لفيروسات كورونا «حتى الآن بدا أن هذه الفيروسات تسبب أمراضا خفيفة أو نادرة» لذلك يتعين على الباحثين البداية من نقطة الصفر. كانت الخطوات الأولى سريعة إلى درجة تثير الإعجاب. ففي يوم الإثنين 23 مارس، خضع لقاح محتمل من إنتاج شركة «مودرنا» و«معاهد الصحة الوطنية» لاختبارات سريرية مبكرة، وهو ما يمثل فجوة تمتد إلى 63 يوما بين العلماء الذين أجروا تسلسلا لجينات الفيروس لأول مرة من جانب والأطباء الذين حقنوا اللقاح المحتمل في ذراع شخص من جانب آخر. «إنه رقم قياسي عالمي ساحق»، يقول أنتوني فوسي، مدير «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية».

  أنتوني فوسي مدير «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية»

لكنها تظل أسرع خطوة، خاصة إذا ما قورنت بالعديد من الخطوات البطيئة اللاحقة. فالتجربة الأولى ستخبر الباحثين ببساطة إذا كان اللقاح يبدو آمنا، وإذا كان قادرا على تحفيز الجهاز المناعي. عندئذ سيحتاج الباحثون إلى التحقق من أن اللقاح يمنع فعليا الإصابة بفيروس «SARS –CoV-2». كما سيحتاجون إلى إجراء اختبارات وتجارب على الحيوانات على نطاق واسع للتأكد من أن اللقاح لا يسبب آثارا جانبية حادة. وسيحتاجون أيضا إلى تحديد الجرعة المطلوبة، وعدد الجرعات اللازم توافرها إذا نجح اللقاح مع كبار السن، أو إذا كان يحتاج إلى مواد كيميائية أخرى لتعزيز فعاليته.   

«وحتى في حالة نجاح اللقاح، فلن يكون الطريق معبدا لتصنيعه على نطاق واسع»، كما يقول سيث بيركلي، رئيس «التحالف العالمي للقاحات والتحصين» «Gavi». يرجع هذا إلى أن شركة «مودرنا» تستخدم حاليا طريقة جديدة للتلقيح. فاللقاحات الموجودة تعمل من خلال إمداد الجسم بفيروسات خاملة أو على دفعات، بما يسمح للجهاز المناعي بإعداد دفاعاته في وقت مبكر. وعلى النقيض، يشتمل لقاح «مودرنا» على عينة من المادة الوراثية لفيروس «SARS-CoV-2»، وهي الحمض النووي الريبي الخاص بالفيروس. تقوم الفكرة على أن الجسم يمكنه استخدام هذه العينة لبناء عيناته الفيروسية الخاصة، التي ستشكل بعد ذلك الأساس الذي تنبني عليه استعدادات الجهاز المناعي. أثبتت هذه الفكرة نجاحا في الحيوانات، لكنها غير مثبتة في البشر. وعلى النقيض، يحاول العلماء الفرنسيون حاليا تعديل لقاح الحصبة الموجود باستخدام عينات من فيروس كورونا المستجد. «ميزة ذلك هي أننا إذا وجدنا أنفسنا غدا بحاجة إلى مئات الجرعات، فإن كثيرا من المصانع في العالم تعرف كيف تقوم بذلك»، بحسب بيركلي. وبغض النظر عن الاستراتيجية الأسرع، فإن بيركلي وآخرين يُقدرون أن الأمر سيستغرق 12 إلى 18 شهرا لتطوير لقاح مثبت، ثم وقتا أطول لتصنيعه، وشحنه، وأخيرا حقنه في أذرع البشر.

من المرجح إذا أن يستمر فيروس كورونا المستجد في الحياة الأمريكية لمدة عام على الأقل، أو ربما أكثر بكثير. وإذا نجحت الجولة الحالية من تدابير الإبعاد الاجتماعي، فإن الوباء قد ينحسر بما يكفي لعودة الأشياء إلى ما يشبه الحياة الطبيعية؛ فتضج المكاتب والمدارس والأسواق بصخب الحياة، ويصل الأصدقاء ما انقطع. لكن، في الوقت الذي تعود فيه الحياة الطبيعية، سيعود الفيروس أيضا. لا يعني ذلك وجوب استمرار الإبعاد الاجتماعي حتى عام 2022. ولكن «نحن بحاجة إلى أن نكون مؤهلين لتطبيق فترات متعددة من الإبعاد الاجتماعي»، كما يقول ستيفن كيسلر، من جامعة هارفارد. 

سوف تكون هناك أشياء كثيرة بشأن السنوات القادمة، بما في ذلك تواتر حدوث الاضطرابات الاجتماعية، واستمرارها وتوقيتها يعتمد على خاصيتين أساسيتين في الفيروس، وكلتاهما غير معروفتين حتى الآن. أولى هاتين الخاصيتين هي الموسمية. ففيروسات كورونا تميل إلى أن تكون عدوى شتوية تتراجع أو تختفي في الصيف. قد ينطبق هذا أيضا على فيروس SARS -CoV-2، لكن الاختلافات الموسمية قد لا تكون مؤثرة في الحد من سرعة انتشار الفيروس على نحو كاف في ظل توافر أجسام ضعيفة مناعيا، ومن ثم مهيأة لاستقباله. «كثيرون في العالم يترقبون بقلق ليروا ماذا يمكن أن يفعل الصيف – إذا كان له أن يفعل شيئا – حيال انتقال الفيروس في النصف الشمالي من الكرة الأرضية»، كما تقول مايا ماجومدر، التي تعمل في كلية الطب بجامعة هارفارد ومستشفى بوسطن للأطفال.

أما الخاصية الثانية فتتعلق باستمرار المناعة. عندما يصاب الأفراد بفيروسات كورونا البشرية الأكثر اعتدالا والتي تسبب أعراضا تشبه أعراض البرد، فإنهم يظلون محصنين لأقل من عام. وعلى النقيض، تظل الأقلية التي أصيبت بفيروس SARS الأصلي الأكثر حدة محصنة لمدة أطول. وعلى افتراض أن فيروس SARS-CoV-2 يكمن في مكان ما بين الفيروسين السابقين، فإن الأفراد الذين تعافوا من إصاباتهم ربما يبقون محصنين لمدة عامين. وللتحقق من ذلك، سيحتاج العلماء إلى تطوير اختبارات مصلية دقيقة تبحث عن الأجسام المضادة التي تمنح المناعة. كما سيحتاجون أيضا إلى التأكد من أن هذه الأجسام توقف فعليا التقاط الأفراد للفيروس أو نشره. وإذا سارت الأمور على هذا النحو سيصبح بمقدور المواطنين الذين يتمتعون بمناعة قوية العودة إلى أعمالهم، وتوفير الرعاية للفئات الأكثر عرضة للمرض، وتعزيز الاقتصاد أثناء نوبات الإبعاد الاجتماعي. 

ويستطيع العلماء استغلال الفترات بين هذه النوبات لتطوير عقاقير مضادة للفيروسات، رغم أن هذه العقاقير قلما تكون علاجا ناجعا، وعادة ما تنطوي على آثار جانبية محتملة ومخاطر المقاومة. كما تستطيع المستشفيات تخزين المستلزمات الضرورية. ويمكن أيضا توزيع أطقم الاختبار على نطاق واسع حتى تكون جاهزة للاستخدام لدى عودة الفيروس. ولا يوجد سبب يدعو الولايات المتحدة إلى السماح لفيروس SARS-CoV-2 للتفشي مرة أخرى على هذا النحو، ومن ثم تتلاشى أسباب نشر إجراءات الإبعاد الاجتماعي على نطاق واسع وبقوة كما هو الحال الآن. وكما كتب آرون كارول وأشيش جها مؤخرا: «يمكننا الإبقاء على المدارس وأماكن العمل مفتوحة لأطول فترة ممكنة، ثم نبادر إلى إغلاقها سريعا عندما تفشل تدابير مواجهة الوباء، ثم نعيد فتحها مجددا بمجرد تحديد المصابين وعزلهم. وبدلا من الاكتفاء بدور المدافع، يمكننا الانتقال إلى دور المهاجم على نحو أكبر».  

آرون كارول وأشيش جها

وسواء من خلال تراكم مناعة القطيع، أو إنتاج لقاح طال انتظاره، فإن انتشار الفيروس على هذا النحو المريع سيكون أكثر صعوبة. في الوقت نفسه، يظل من غير المرجح اختفاء الفيروس بالكلية، وقد يحتاج العلماء إلى تحديث اللقاح لمواكبة تحوراته، كما قد يحتاج الناس إلى تكرار الحقن بصورة دورية كما يحدث الآن بشأن الأنفلونزا. وتشير بعض النماذج إلى أن الفيروس قد يتفشى في جميع أنحاء العالم، مما سيؤدي إلى انتشار الأوبئة كل بضع سنوات. «لكنني آمل، وأتوقع أن تتراجع حدته، وأن تقل الاضطرابات المجتمعية»، كما يقول كيسلر. في هذا المستقبل، قد يصبح «كوفيد – 19» مثل الأنفلونزا اليوم، آفة شتوية متكررة. وربما يصبح في النهاية أمرا عاديا إلى درجة أن قطاعات كبيرة من الجيل C ستتقاعس عن شراء اللقاح برغم توافره، وستتناسى كيف تشكل عالمها بغياب هذا اللقاح.

تغييرات جوهرية

ستكون تكلفة بلوغ هذه المرحلة بأقل قدر ممكن من حالات الوفاة باهظة الثمن. في هذا السياق، كتبت زميلتي آني لوري أن الاقتصاد يعاني من صدمة «أكثر مباغتة وحدة من جميع الصدمات التي شهدناها جميعا في حياتنا». فقد فقد حوالي فرد من كل خمسة أفراد في الولايات المتحدة وظائفهم، أو – على أقل تقدير – جزءا كبيرا من ساعات عملهم، وفرغت الفنادق من نزلائها، وألغيت الرحلات الجوية، وأغلقت المطاعم والمشروعات الصغرى الأخرى. وستتسع فجوة عدم المساواة، حيث سيتضرر الأفراد محدودو الدخل أكثر من غيرهم بسياسات الإبعاد الاجتماعي، وعلى الأرجح سيصابون بالحالات المرضية المزمنة التي تزيد من مخاطر الإصابة بعدوى حادة. 

لقد أدت الأمراض إلى زعزعة الاستقرار في المدن والمجتمعات أكثر من مرة، «لكن هذا لم يحدث في الولايات المتحدة منذ زمن بعيد، أو – على أقل تقدير – إلى الحد الذي نشهده الآن»، كما تؤكد إيلينا كونيس، مؤرخة الطب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وتضيف: «إننا حضريون بدرجة تفوق غيرنا بكثير، ولدينا عدد أكبر من الأفراد الذين يسافرون لمسافات أطول ويعيشون بعيدا عن أسرهم وأعمالهم». 

وبعد أن تبدأ العدوى في الانحسار، فسيتبعها وباء ثانوي يتعلق بالصحة النفسية. ففي لحظات الخوف العميق والاضطرابات العنيفة ينقطع الناس عن عمليات التواصل البشري المهدئة والمريحة. فالعناق والتصافح وغيرهما من الطقوس الاجتماعية صارت الآن محفوفة بالمخاطر. وتزداد في هذه الآونة معاناة أولئك المصابين بالقلق أو الوسواس القهري، كما تتعمق عزلة كبار السن الذين تم إقصاؤهم فعليا عن الحياة العامة. ويواجه الأسيويون حاليا في الولايات المتحدة هجمات عنصرية شرسة يؤججها رئيس يصر على تسمية فيروس كورونا المستجد بـ «الفيروس الصيني» «Chinese virus». ومن المرجح أن تتضاعف حوادث العنف المنزلي والإساءة إلى الأطفال، حيث يضطر الناس إلى البقاء في منازل غير آمنة. وقد يعاني الأطفال الذين ينفذ الفيروس إلى أجسادهم في أغلب الأحوال من صدمات نفسية ستستمر معهم حتى في مرحلة البلوغ.

وبعد الوباء، قد يعمد البعض إلى تجنب الأفراد الذين تعافوا من «كوفيد – 19»، وربما إلى وصمهم بالعار، مثلما حدث مع الناجين من أمراض إيبولا وسارس ونقص المناعة البشرية. وسيستغرق العاملون في مجال الصحة العامة وقتا طويلا للشفاء. فبعد عام أو عامين من اجتياح سارس لمدينة تورنتو في كندا، كان الأفراد الذين تعاملوا مع الوباء لا يزالون أقل إنتاجية وأكثر عرضة للإصابة بالإرهاق وتوتر ما بعد الصدمة. كما سيحمل الأفراد الذين مروا بفترات احتجاز طويلة في الحجر الصحي ندوب هذه التجرية. «لقد لاحظ زملائي في ووهان أن بعض الناس هناك يرفضون الآن مغادرة منازلهم، وصاروا يعانون من الاجورافوبيا «الخوف المرضي من الأماكن المفتوحة»»، كما يقول ستيفن تايلور، من جامعة كولومبيا البريطانية، ومؤلف كتاب «سيكولوجيا الأوبئة» «Psychology of pandemics». 

لكن، «توجد ايضا إمكانية لعالم أفضل بعد اجتياز هذه الصدمة»، كما يقول ريتشارد دانزيج، من مركز الأمن الأمريكي الجديد. فالمجتمعات لا تفتأ تجد سبلا جديدة للتقارب حتى في الوقت الذي يجب عليها فيه أن تبقى بمنأى عن بعضها البعض. كما يمكن أن تتغير السلوكيات الصحية نحو الأفضل. فقد أدى ظهور فيروس نقص المناعة البشرية إلى «تغيير السلوك الجنسي تماما بين الشباب الذين بلغوا مرحلة النضج الجنسي في ذروة الوباء»، كما يقول كونيس. «وصار استخدام الواقي الذكري أمرا طبيعيا، كما شاعت اختبارات الأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي «STDs» بدرجة كبيرة. وبالمثل، فإن غسل اليدين لمدة 20 ثانية، وهي عادة صحية كان من الصعب تكريسها على مر التاريخ حتى في المستشفيات، «قد تصبح أحد السلوكيات التي نستمسك بها حتى بعد أن تنقشع غمامة الجائحة»»، بحسب كونيس. 

ريتشارد دانزيج

يمكن للأوبئة أيضا أن تحفز التغير الاجتماعي. فقد سارع الأفراد والشركات والمؤسسات بشكل لافت إلى تبني، والدعوة إلى، ممارسات كانوا لا يلتفتون إليها من قبل، مثل العمل من المنزل، والدعوة إلى المؤتمرات لاستيعاب الأشخاص ذوي الإعاقة، ومنح أجازات مرضية مناسبة، ووضع ترتيبات مرنة لرعاية الأطفال. هذه هي المرة الأولى في حياتي التي سمعت فيها شخصا يقول: «أوه، إذا كنت مريضا، ابق في المنزل»، كما ذكرت أديا بينتون، باحثة الأنثروبولوجيا في جامعة نورث ويسترن. ربما سنتعلم أن الاستعدادات لا تتعلق فقط بأقنعة الوقاية، أو اللقاحات، أو الاختبارات، وإنما أيضا بالسياسات العمالية المنصفة، وأنظمة الرعاية الصحية المستقرة والعادلة. وربما سنتعلم أن العاملين في مجال الرعاية الصحية، والمتخصصين في مجال الصحة العامة يشكلون جهاز المناعة الاجتماعية للولايات المتحدة، وأن هذا الجهاز قد تعرض كثيرا للقمع.

أديا بينتون باحثة الأنثروبولوجيا في جامعة نورث ويسترن

ربما تحتاج بعض أوجه الهوية الأمريكية إلى مراجعة في أعقاب «كوفيد – 19». ففي أثناء الوباء، بدا أن كثيرا من قيم البلاد تعمل على خط مستقيم ضد مصالحها، أو ربما جوهر وجودها. فالنزعة الفردية «Individualism» والنزعة الاستثنائية «Exceptionalism» والميل إلى مساواة حرية الفرد المطلقة في أن يفعل ما يشاء بفعل المقاومة، وغير ذلك من القيم الأمريكية الراسخة، قد دفعت بالبعض إلى التوافد على البارات والنوادي في الوقت الذي كان يتعين عليهم فيه البقاء في منازلهم إنقاذا لأرواحهم وأرواح الآخرين. بعد استيعاب رسائل مكافحة الإرهاب التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، قرر الأمريكيون نبذ الخوف وإقصاءه عن مسار حيواتهم. لكن فيروس SARS-CoV-2 ليس له علاقة بالإرهاب، وإنما بخلايا أجسامهم.

في السياق ذاته، ألقت سنوات الخطاب الانعزالي بظلالها الكثيفة على الواقع الأمريكي. فقد فشل المواطنون، الذين نظروا إلى الصين على أنها بلد بعيد يأكل أهله الخفافيش ويقبلون بالسلطوية، في إدراك أنهم «المحطة التالية» لقطار الجائحة المميت، وأنهم غير مهيئين لاستقباله. ربما تنطوي استجابة الصين للأزمة على بعض المشكلات، لكن سيكون لهذا الحدث حديثه. «لقد اعتقد الناس أن الخطاب الإقصائي سينجح»، كما قالت ويندي بارمت، التي تدرس القانون والصحة العامة في جامعة نورث إيسترن. وأضافت: «سندعهم في الخارج، وسنكون على ما يرام.. عندما يكون لديك نظام سياسي يؤمن بهذه الأفكار الانعزالية والعرقية، فأنت ضعيف بشكل خاص عندما يضرب الوباء».

ويندي بارمت

ولطالما حذر مقاتلو الأوبئة السابقة من أن المجتمع الأمريكي عالق في دائرة الذعر والإهمال. ففي أعقاب كل أزمة «مثل الجمرة الخبيثة، وسارس، والأنفلونزا، وإيبولا» يتضاعف الاهتمام وتنطلق الاستثمارات. لكن بمجرد انقشاعها، تتلاشى الذكريات وتتراجع الميزانيات. يتجاوز هذا التوجه الإدارات الجمهورية والديمقراطية. وعندما يبدأ الوضع الطبيعي الجديد، يصبح الوضع غير الطبيعي السابق أمرا غير متصور. لكن هذه المرة، لدينا أسباب كافية تجعلنا نعتقد أن فيروس «كوفيد – 19» ربما يمثل كارثة لها ما بعدها، وأنه سيقود إلى تغيرات أكثر راديكالية وديمومية.

ففي العقود الأخيرة، اختلف وقع الأوبئة الكبرى ما بين مجموعة أثرت بالكاد على الولايات المتحدة، مثل سارس وميرس وإيبولا، وأخرى كانت أخف من المتوقع، مثل إنفلونزا H1N1 «انفلونزا الخنازير» في عام 2009، وثالثة كانت محصورة في فئات معينة من الناس، مثل زيكا وفيروس نقص المناعة البشرية. ولكن على النقيض مما سبق، يؤثر «كوفيد – 19» في جميع الأفراد بصورة مباشرة، ويغير طبيعة حيواتهم اليومية، وهو ما يميزه، ليس فقط عن الأمراض الأخرى، وإنما أيضا عن سائر تحديات العصر؛ فعندما تراوغ إدارة من الإدارات المتعاقبة على حكم الولايات المتحدة في موضوع التغيرات المناخية، فإن آثار ذلك لن تكون واضحة لسنوات، وحتى عندئذ سيكون من الصعب تحليلها. لكن الأمر يختلف عندما يعلن الرئيس أن بإمكان الجميع الخضوع لاختبارات، ثم يعلن العكس بعد ذلك بيوم واحد فقط. كما أن الأوبئة تمثل تجارب ديمقراطية في ذاتها. فالأشخاص الذين تحميهم سلطاتهم وامتيازاتهم من بعض الأزمات يخضعون الآن للحجر الصحي، وتثبت التحاليل إصابتهم بالمرض، ويفقدون أحباءهم. ولم تعد تداعيات نقص تمويل هيئات الصحة العامة، وفقد الخبرات، وتكديس المرضى في المستشفيات مجرد مقالات رأي غاضبة، وإنما رئات متداعية.

مكافحة الوباء قبل مكافحة الإرهاب

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انصرف تركيز العالم إلى مكافحة الإرهاب. وبعد «كوفيد – 19» ربما ينتقل هذا التركيز إلى الصحة العامة. ونتوقع أن نرى طفرة في تمويل علم الفيروسات وعلم اللقاحات، وطفرة أخرى في عدد الطلاب المتقدمين لبرامج الصحة العامة، وثالثة في الإنتاج المحلي للمستلزمات الطبية. ونتوقع أن تتصدر الأوبئة جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما غدا اسم «أنتوني فوسي»، مدير «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية»، مألوفا. وكما تقول مونيكا سكوتش، عالمة الأنثروبولوجيا الطبية في مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي: «أخيرا، أصبح الأشخاص العاديون الذين يعرفون ما يفعله الشرطي أو رجل الأطفاء يعرفون أيضا ما يفعله أخصائي الأوبئة». 

أنتوني فوسي مدير «المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية»

هذه التغيرات في ذاتها قد تحمي العالم من المرض الحتمي القادم. في هذا السياق يقول رون كلاين، المشرف السابق على جهود مكافحة إيبولا: «كانت البلدان التي عانت من محنة سارس في السابق مدركة لحالة الوعي العام لدى جماهيرها، وهو ما سمح لها بقطع وثبات كبرى على طريق العمل». ويضيف: «إن أكثر الجمل شيوعا الآن في الولايات المتحدة هي «لم أر شيئا كهذا من قبل»، بينما في هونج كونج فلا تكاد تسمع أحدا يتفوه بهذه الجملة. أما الآن فقد بات واضحا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإلى العالم أجمع ما يمكن أن يفعله الوباء». 

من الصعب التنبؤ بالدروس التي يمكن أن تستخلصها الولايات المتحدة من هذه التجربة، خاصة في الوقت الذي لا تقدم فيه الخوارزميات على الإنترنت والمذيعون الحزبيون سوى الأخبار التي تتوافق مع التصورات المسبقة لجماهيرهم. ستكون مثل هذه الديناميات محورية في الشهور المقبلة، كما يقول إيلان جولدنبرج، خبير السياسة الخارجية في مركز الأمن الأمريكي الجديد. «لم تكن التحولات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية أو أحداث الحادي عشر من سبتمبر تمثل مجموعة من الأفكار الجديدة… الأفكار موجودة الآن، لكن الجدل سيكون أكثر حدة خلال الشهور القليلة القادمة بسبب سيولة اللحظة ورغبة الشعب الأمريكي في قبول التغيرات الكبرى والجذرية».

إيلان جولدنبرج خبير السياسة الخارجية في مركز الأمن الأمريكي الجديد

يمكن للمرء بسهولة أن يتصور عالما تعتقد فيه معظم الدول أن الولايات المتحدة قد نجحت في التغلب على «كوفيد – 19»، خاصة أنه برغم العديد من هفوات ترمب، إلا أن شعبيته قد شهدت ارتفاعا لافتا. تخيل لو نجح الرئيس الأمريكي في تحويل سهام اللائمة في هذه الأزمة صوب عنق الصين، وتصويرها على أنها «الشرير» الذي يواجهه «البطل» الأمريكي. وفي أثناء ولايته الثانية تنكفئ الولايات المتحدة على الداخل وتنسحب من حلف الناتو وغيره من التحالفات الدولية، وتعكف على إقامة أسوار فعلية ورمزية، وتسحب استثماراتها في الدول الأخرى. وفي الوقت الذي يكبر فيه أبناء الجيل C تحل الطواعين الخارجية محل الشيوعيين والإرهابيين كخطر أكبر يتهدد الجيل الجديد. 

ويمكن للمرء أيضا أن يتصور مستقبلا تتعلم فيه الولايات المتحدة درسا مختلفا، حيث توجه الروح الجماعية التي وُلدت – على سبيل المفارقة – من رحم التباعد الاجتماعي الناس نحو الخارج، نحو الجيران سواء الأجانب أو المحليين. وتتحول انتخابات نوفمبر 2020 إلى حملة رفض لسياسات «أمريكا أولا». وتدور أمتنا – مثلما فعلت بعد الحرب العالمية الثانية – بين الانعزالية والتعاون الدولي. ومن خلال الدعم بالاستثمارات الثابتة وتدفق العقول الأكثر سطوعا، تحقق القوة العاملة في مجال الرعاية الصحية طفرة كبرى. ويكتب أطفال الجيل C مقالات مدرسية عن أحلامهم في أن يصبحوا علماء وبائيات حالما يكبرون. وتتحول الصحة العامة إلى مركز اهتمام السياسة الخارجية. وتقود الولايات المتحدة شراكة عالمية جديدة تركز على تجاوز التحديات الجسام مثل الأوبئة والتغيرات المناخية. 

وفي عام 2030، يخرج فيروس «SARS-CoV-3» من العدم ليعود إلى حيث جاء.. إلى عدمه في غضون شهر من الزمان. 

هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock