منوعات

بين خيارين.. الإسلاميون بين فصل الدين عن السياسة أو استمرار العنف المجتمعي

 خلصت ندوة مهمة عقدت في تونس إلى أن الإسلاميين قد وصلوا إلى مفترق طرق حاسم، إذ أصبح يتوجب عليهم الاختيار ما بين استمرار آلية العنف التي ستؤدى إلى فناء تيارهم السياسي لا محالة عاجلا أو آجلا، أو اتباع نهج يقوم على فصل الدين عن الدولة، بطريقة تحرر كل من السياسة والدين من تبعية آحدهما للآخر، وهو ما سينجم عنه تحرر المواطن العربي كبداية لمرحلة جديدة من الحداثة المجتمعية. 

اندلعت الثورات العربية في عام «2011» وشاع معها الحديث عن شكل الدولة الديمقراطية والعلاقة ما بين الديني والسياسي، وطُرِحَت في هذا السياق العديد من الرؤى الإسلامية والعلمانية المتعلقة بشكل الدولة الجديدة والإطار الدستوري الحاكم لها وما يرتبط بها من قضايا تتعلق بالهوية والمواطنة.

 في هذا السياق عقدت مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في إطار مشروعها الثقافي التنويري، في تونس ندوة «الديني والسياسي.. وإشكالية الدولة الحديثة» وشارك في أعمال الندوة عدد من الباحثين التونسيين الذين حرصوا على تناول العلاقة بين الديني السياسي مرتكزين على التجربة التونسية، فيما بعد ثورات العالم العربي مباشرة.

رؤية العالم كمحدد للدين والسياسة

الدكتور «محمد الخراط» أستاذ العلوم الإنسانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، تناول في ورقته «الدين والسياسة بين الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية للعالم» طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي والإسلامي، بالإعتماد على مفهوم «رؤية العالم» بوصفه مفهوما يمكن له أن يمد جسور التواصل بين أصحاب الرؤية الإسلامية  وأصحاب الرؤية العلمانية للعالم.

نوه دكتور الخراط في بداية تناوله لمفهوم السياسة على أن هذا المفهوم قد اختلف من زمن لآخر، ومن مجتمع إلى آخر، فأهل اليونان كانوا يرون أن السياسة هى نظام الدولة الخاص بنظام المدينة، ومن ثم فإن الرهان لديهم انعقد على المواطن وحريته، والرومان كانت السياسة لديهم تتضمن شكل التنظيم الإمبراطوري بالإعتماد على القانون، أما العرب قبل الإسلام فكانوا يعتمدون على العصبية القبلية، التي تقوم على روابط الدم والقرابة، فلما جاء الإسلام، استحدث مفهوما جديدا للوجود السياسي يعتمد على مفهوم الوحدة في إطار العقيدة، وهو مفهوم ذو دلالة كونية لكون الإسلام إنما جاء للبشر كافة.

د. محمد الخراط

تطورت الدولة عبر التاريخ الإسلامي منتقلة من التشريع الديني إلى التشريع الدنيوي، وما بين مد الجهاد وجزر الدفاع صاغ الفقهاء المسلمون نظريتهم السياسية في الحكم وعمادها ضرورة الإنصياع والطاعة للحاكم مهما كان ظالما، من أجل الذود عن الدولة الإسلامية وحمى الأوطان.

ذهب البعض إلى أن الفقهاء لم يكونوا يدعون إلى طاعة الحاكم «عادلا كان أم جائرا» لكونهم أتباعا له، بقدر إدراكهم لتلك الضرورات والظروف التاريخية التي فُرِضَت عليهم، فالفقهاء لم يهتموا بشكل الدولة السياسي بقدر إهتمامهم بوجودها والخوف من الفتنة، حتى أن بعض الحكام العرب مازالوا يُرهبون شعوبهم بفزاعة الفراغ السياسي والفتنة.

الشعور العربي الإسلامي عبر التاريخ كان يتحرك وفقا لمفهوم «الأمة» وهو مفهوم يفترض الوحدة، غير أن تلك الوحدة لم تتحقق، لذا ظل هاجس الفتنة ماثلا أمام الجميع، وهو ما أعاق التفكير الحقيقي في شكل الدولة، حيث كان الفقهاء والمنظرون السياسيون عبر التاريخ الإسلامي منجذبين لنموذج التجربة النبوية في المدينة، وتجربة الخلافة الراشدة «الأولى والثانية» على وجه التحديد، مع مراعاة مفهوم الأمة واستقرار الجماعة، واستمرار الوحدة، مهما كانت طبيعة الحاكم، وشكل الحكم، لذا فقد غلبت على كتاباتهم الصياغات التبريرية والحديث عما يجب ان يكون عليه الحال، دون نقد ما هو كائن.

يتناول دكتور خراط الرؤية الإسلامية للدولة فيشير إلى أنها «ترعى أو تدعي أنها ترعى مصالح العباد في المعاش والمعاد، وإن مهامها الرئيسة هى جلب المنافع الدنيوية، ودفع المكاره، والسهر على تطبيق احكام الشرع، وإنفاذ كلمة الله، ونشر دعوته» غير أن تلك الرؤية باتت تخضع للنص والفهم الحرفي له، دون أي مراعاة للسياق التاريخي الذي جاء فيه هذا النص، فيصبح الحديث دارجا عن تطبيق الشريعة والجهاد وإقامة الحدود ودار الكفر ودار الإسلام .. إلخ من معالم تلك الرؤية التقليدية التي تعمق الفجوة بين البشر.

 

الرؤية العلمانية للعالم

في مقابل تلك الرؤية التقليدية للعالم، ظهرت الرؤية العلمانية التي انطلقت مع الكشوف العلمية التي شهدها المجتمع الإنساني منذ بداية القرن السادس عشر، والعلمانية تعني فصل مؤسسة السياسة عن مؤسسة الدين، كما تعني عدم إجبار أحد على الإعتقاد بمذهب، أو الإيمان بدين معين.

سعت الرؤية الفلسفية العلمانية التي غطت مساحات واسعة من العالم إلى تحرير الإنسان من كل هيمنة، ومن كل سلطة، سواء كانت سلطة رجل السياسة أو سلطة رجل الدين، العلمانية إذن منهج في التفكير يهدف إلى تكريس حقوق الإنسان في الحرية والكرامة والإستقلال بالرأي، دون أي وصاية أو إقصاء.

يلفت الخراط النظر إلى أن واقع العالم العربي فيما بعد الثورات العربية، إنما يعد واقعا مزدوجا يتأرجح ما بين التصور الديني والتصور العلماني، غير أن الرؤية العلمانية التي لا تقوم على محاربة الدين تعد الحل الأمثل لمواجهة الواقع الراهن، فالرؤية العلمانية المنشودة – من وجهة نظره – تستهدف الفصل بين الدين والسياسة، في إطار التأكيد على ما للدين من رسالة إيمانية خالصة، تبتعد عن أي توظيف سياسي أو إكراه في الدعوة، وهو هنا لا يدعو إلى تلك العلمانية التي وصفها «بالفجة» التي تحارب الدين وترفض تدريسه، وإنما هو يدعو إلى علمانية سياسية تفصل المؤسسة السياسية عن الدين، لتتحرر الدولة من سطوة رجل الدين، ويتحرر رجل الدين من توظيف رجل الدولة له.

الإسلام السياسي وقضية الديمقراطية

فرضت ثورات الربيع العربي على الساحة العربية أزمة العلاقة بين الديمقراطية وتيار الإسلام السياسي الذي سعى لإستغلال الثورات لتولي الحكم، الدكتور «مصطفى بن تمسك» في ورقته «الديني والسياسي وإشكالية الحرية .. قراءة في تحولات الإسلام السياسي الراهن» يتناول التجربة التونسية في أعقاب إندلاع الثورة مباشرة، في محاولة منه لطرح أزمة العلاقة بين الديمقراطية وتيار الإسلام السياسي.

الدكتور مصطفى بن تمسك

يلفت دكتور مصطفى النظر لما شهدته تونس من تدفق للعديد من مشايخ العالم الإسلامي، للإضطلاع بمهام ما أطلقوا عليه «إعادة نشر الدعوة الإسلامية في الديار التونسية» وما اتسم به خطاب هؤلاء الدعاة من ترويج لفكرة الهوية المُهَددة بالذوبان من قبل العدو الغربي، إلى جانب الترويج لرؤية لا أخلاقية ولا واقعية عن حياة الغربيين، التي تتسم من وجهة نظرهم بكونها ابتعدت عن الدين وباتت أكثر حيوانية، وأكثر تكالبا على المادة، وبأن مصيرهم إلى جهنم لكونهم ديار كفر.

من جانب آخر وصف هؤلاء الدعاة العلمانيين التوانسة بكونهم دعاة كفر ومن ثم أباحوا دماءهم وأطلقوا عليهم لقب «حثالة الفرانكفونية»، وفي هذا السياق تم تجنيد فرق شبابية متطرفة دينيا لتجييش المشاعر الدينية داخل المساجد، وتعنيف المتظاهرين، من قوى اليسار، وترهيبهم ورميهم بالفسوق والشذوذ، مثلما حدث في «يوم 9 إبريل عام 2012» من أحداث دامية.

 

يفسر دكتور مصطفي تلك الأحداث بأن التيارات الدينية ذات القواعد الجاهزة في تونس في أعقاب الثورة لم يكن لديها برنامج إنتقال ديمقراطي، ذلك أنها «لا تعنيها قضايا الحرية والمساواة، بقدر ما يعنيها القضايا الدعوية، ذلك أنها في الأصل حركات دينية أصولية مهمتها تجنيد الأتباع دينيا استعدادا للإنقضاض على السلطة».

تيار الإسلام السياسي وفقا لدكتور مصطفى يقوم على أن الديني والسياسي متداخلان بالطبيعة وبالماهية، فالشان السياسي لديه مجرد حلقة من حلقات وجود الإنسان المتدين، فدولة الخلافة أو الدولة الإسلامية لدى منظري الإسلام السياسي تعتمد على مرجعية تقوم على «الحاكمية لله، وحاكمية الشريعة الإسلامية، وطاعة أولي الأمر». غير أن الواقع الجديد الذي فرضته الثورات العربية جعل الحركات الإسلامية مضطرة للإنخراط  في ذلك الحراك الديمقراطي الحتمي، لذا سعى البعض منها لتأسيس الأحزاب السياسية، وفقا لرؤية تتقاطع مع استراتجية تتوافق مع الجانب السياسي والإقتصادي العام.

لقد وصل الإسلاميون إلى مفترق طرق حاسم، إذ أصبح يتوجب عليهم الاختيار ما بين استمرار آلية العنف التي ستؤدى إلى فناء تيارهم السياسي لا محالة عاجلا أو آجلا، أو اتباع نهج يقوم على فصل الدين عن الدولة، بطريقة تحرر كل من السياسة والدين من تبعية آحدهما للآخر، وهو ما سينجم عنه تحرر المواطن العربي كبداية لمرحلة جديدة من الحداثة المجتمعية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock