عزيزى القارىء..
مابين يديك الآن قراءة لأحد خطابين طويلين خطهما كامل التلمسانى ليعبر فيهما عن أسباب عشقه للفن الذى ملأ عليه حياته، وهو فن السينما. وفيهما كشف عما يؤمن به من دور يخص هذا الفن. وهو الإيمان الذى حرضه على أن يختار موضوعين قد يبدوان للوهلة الأولى أنهما منفصلان، إلا أنك وبقليل من تأمل ستكتشف -عزيزى القارىء – أنهما مرتبطان بخيط ذلك الإيمان والفهم لطبيعة الفن ودوره اللذين حكما مسيرة «كامل» طوال حياته. الأول أصدره عام 1957 و عنونه بـ«سفير أمريكا بالألوان الطبيعية». والثانى أصدره عام 1958 وعنونه بـ«عزيزى شارلى».
لكن وقبل أن أخوض معك فى تفسير الخطاب الأول، اسمح لى -عزيزى القارىء- فى البداية، أن أستعيد معك من هو كامل التلمسانى الذى أثق أنك تعرفه ربما أكثر منى. لكنى سأحدثك رغم ذلك عنه، لا لأذكرك بما تعرف، ولكن لأرضى رغبة شخصية تتمثل فى الحديث عمن أحب.
كامل التلمساني
صاحب «السوق السوداء»
هو كامل التلمسانى، القاهرى حتى النخاع، والذى رغم مولده فى إحدى قرى محافظة القليوبية المتاخمة للعاصمة، إلا أن جل حياته قضاها فى القاهرة معشوقته الأولى، باستثناء فترة قصيرة قضاها فى الشقيقة لبنان لظروف إضطرارية لن أخوض معك فيها احتراما لرغبته فى عدم الحديث عنها.
هو كامل التلمسانى.. قصير العمر، ولد فى الخامس عشر من مايو عام 1915 ورحل عن عالمنا فى الثالث من مارس عام 1972. ومع هذا العمر القصير احتشدت أيامه بأفعال وقراءات وابداعات ومغامرات ربما كانت تحتاج عند غيره قرنا من الزمان.
هو كامل التلمسانى.. المغامر الأكبر الذى ترك دراسة الطب البيطرى فى سنته الأخيرة ليلبى نداء نداهته الخاصة المرتدية عباءة الفن التشكيلى، فرسم وصور وعرض وصرخ بشعار «الفن.. حرية».
هو كامل التلمسانى.. ابن «الناس اللى تحت» الذى حين اكتشف أن صوره ورسوماته لا يراها من ينتمي إليهم، وأن من يقتنيها هم أولئك الذين يحاربهم ليزينوا بها قصورهم المشيدة على جثث الفقراء، قرر أن يكف عن الرسم الذى برع فيه، وتحول إلى فن آخر رآه وسيلة أكثر سهولة فى الوصول إلى الناس.
هو كامل التلمسانى.. الذى منح السينما المصرية عشرة أفلام كمخرج.. وهو من أخرج بالاشتراك مع صديقه أحمد سالم فيلم الماضى المجهول لكنه قدم صديقه على نفسه وترك له وحده الإستئثار بوصف المخرج يوضع بالخط العريض على الأفيشات وعلى الشاشة.
أحمد سالم وليلى مراد – الماضي المجهول
هو كامل التلمساني.. الذى شارك الرحبانية فى لبنان كتابة وإعادة صياغة مشروعاتهم المسرحية
هو كامل التلمساني.. الذى أصبح علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية. والذى أجبر مؤرخى السينما على أن يقيسوا تطورها بمسطرة «السوق السوداء» (فيلمه العلامة) لتصبح السينما المصرية عندهم سينما ما قبل (السوق السوداء) وسينما ما بعد (السوق السوداء).
ذلك هو بعض من كامل التلمسانى الذى أحببت أن اتذكره معك عزيزى القارىء قبيل الدخول فى قراءة خطابه (كتابه) اللذي سيضيف لنا – معا – بعدا جديدا من ملامح سيرته.
لقطة من فيلم السوق السوداء
سلاح هوليوود «السام»
«سفير أمريكا بالألوان الطبيعية»، هو الكتاب – الخطاب – الذي نحن بصدده الآن الذى خطه كامل التلمسانى موجها إياه إلى سفيرنا فى أمريكا .. فها هو يناديه فى بداية الفصل الأول «سيادة السفير».. وهو هنا لا يقصد سفيرا بعينه، بل هو لا يقصد السفير مطلقا، بقدر ما يقصد القارىء – المشاهد، وما عبارة «سيادة السفير» إلا تكئة يعتمد عليها التلمسانى فى صياغة أرادها أقرب إلى الحديث الشخصى… إلى البوح… إلى حوار هو أقرب لـ (الدردشة) التى تدور بين الأصدقاء.
لكن وقبل أن نقرأ معا الخطاب لابد وأن نذكر عام كتابته، إنه عام 1957.. العام الدلالة، فمصر خرجت منذ شهور قليلة منتصرة من حرب دفاعية ضد ثلاثة دول (فرنسا – إنجلترا – إسرائيل) انهالوا عليها ليس فقط عقابا على قرار رئيسها جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ولكن لإيقاف قطار التنمية الذى بدأ فور قيام ثورة يوليو وتمثل فى حزمة قرارات وضعت مصر ومن بعدها العرب فى قلب اهتمام العالم.
كذلك كان العام 57 هو عام إعادة تشغيل القناة بعد توسيعها وتطهيرها وكان ذلك فى شهر أبريل، أى بعد أيام من كتابة التلمسانى لخطابه الذى تمت طباعته فى مارس من نفس العام، وهو ما يعنى أن كامل التلمسانى كان فى قمة نشوته الوطنية وإحساسه بقيمة وقامة وطنه الساعى نحو القمة بعد أن شارك فى فصائل المقاومة بمدينة بورسعيد. وها هو يقول نصا محدثا قارئه: «أتدرى يا صديقى أنى تركت كتبى وقصصى التى أفكر فى إعدادها لإخراجها يوما، تركت أسطوانات الموسيقى وقصائد الشعر والصور الفنية… لأذهب مع أخوة لى لنتدرب على حمل السلاح أيام بورسعيد»
وهو ما يجعل من الكتاب الخطاب، جهاداً من نوع آخر وبدرجة أخرى وفى مجال آخر، رأى التلمسانى أن يواجه به خطرا يتمثل فى تغييب العقول عبر أشد الأسلحة فتكا بما يتميز به من سحر ونعومة وهو سلاح السينما الأمريكية.
هدف الكتاب – كما سنعرف بعد قليل – هو التحذير من السينما الأمريكية الهوليودية، وتبيان سمها المغطى بعسل الصور الجميلة والحبكة المحكمة والتقنية الفائقة والمطعمة بنجوم ونجمات صنعوا خصيصا من أجل أن يكونوا أياد ناعمة تقبض بها أمريكا على القلوب والعقول. ليس هذا فقط بل ان الكتاب بكشفه للأساليب الهوليودية الخادعة يحذر أيضا من (هلودة) السينما العربية. أو كما يقول التلمسانى تصريحا لا تلميحا فى ختام كتابه:
«.. أن (هلودة) الفيلم العربى هى مأساته. وسفير أمريكا بالألوان الطبيعية هو السبب الرئيسى لهذه (الهلودة) فى الحياة وفى الفن وفى الفكر…»
فى بداية كتابه ومنذ السطر الأول فى فصله الأول المعنون بـ«تعريف بأفلام هوليود وصناعتها وموقف الاقتصاد والسياسة الأمريكية الحاضرة» يؤسس كامل التلمسانى لفكرته عن طبيعة ودور الأفلام الأمريكية الهوليودية التى يراها سلاحا مضافا إلى أسلحة أمريكا فى تحقيق السيطرة على العالم. وها هو يقول عنها: «إن الفن معركة اجتماعية… وأعداؤنا يوجهون كل قواهم لتمهيد الطريق أمام استعمارهم.. وهو استعمار من لون مغاير.. استعمار فى ثوب طراز 1957.. فلنواجه أفلامهم كما نواجه مدافعهم.. صفا واحدا»
بل إن التلمسانى يدلل على فكرته تلك – فكرة أن الأفلام الأمريكية بما تحمله من أفكار هى أسلحة فتاكة – بالاستشهاد بما قاله ساسة أمريكا الكبار أنفسهم. فريتشارد نيكسون – نائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك يقولها صراحة فى أحد الاجتماعات العامة أن «الأفكار لا المدافع والطيارات هى التى أصبحت السلاح الرئيسى فى الحالة الحاضرة»
ولا يفوت التلمسانى أن يلفت النظر إلى أن (الهندى الأحمر) فى أفلام أمريكا هو أنا وأنت وكل إنسان فى إفريقيا وآسيا وبقية الأرض التى داهمها ويداهمها الاستعمار… فنحن هؤلاء الهنود الحمر فى أفلام هوليوود. وأن الرجل الأبيض فى هذه الأفلام هو الإنجليزى فى مصر وهو الفرنسى فى شمال إفريقيا.. وهو البلجيكى فى الكونجو .. وهو الأمريكى فى كل مكان من شرقنا العربى من المحيط إلى الخليج.
ومن الهنود الحمر إلى الزنوج يكشف التلمسانى كيف لعبت الأفلام الأمريكية اللعبة نفسها -وإن بأدوار معكوسة – فأمريكا تحاول طوال الوقت أن تنفى عن نفسها – عبر أفلامها – تهمة التفرقة العنصرية، وتجتهد عبر أكاذيب راقصة وملونة أن تقنع جمهورالمشاهدين في كل أنحاء العالم أن (الزنوج) سعداء فى أرض الأحلام, لهم ما للبيض من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات.
ولا ينسى التلمسانى أن يؤكد أن هذه الجرائم الهوليودية المثيرة تشغلنا عن الاهتمام بأمورنا القومية فى الشرق العربى. بل هاهو يلقى فى وجه قارئه بالسؤال المحرج:
«.. أنت قطعا تعرف كلارك جيبل وجلين فورد وجريجورى بيك ومارلون براندو… أنت تعرفهم جيدا ولا شك، وتعرف الكثير عنهم… هل تعرف مناحم بيجين؟.. إذا كنت لا تعرفه، أو لا تعرفه جيدا أو لا تعرف شيئا عنه إطلاقا.. فهذا عيب يا صديقى.. عيب كبير.. هذا الرجل قد قتل صديقا أو قريبا أو أخا لك.. وقد يقتلك أنت لو أعطته جمهورية مصر الفرصة لقتلك».
كلارك جيبل، ومارلون براندو
وإذا كان هذا السؤال محرجا فى وقته – عام 1957 – فهو بالتأكيد الآن جارح ومميت، إذ أننا جميعا نعرف مناحم بيجين ونحفظ وجهه عن ظهر قلب، فهو الرجل الذى صافحه السادات يوم أن وقع معه اتفاقية كامل ديفيد ١٩٧٨. وربما يكون ذلك هو السبب الوحيد الذى يجعلنا نرى فى موت كامل التلمسانى قبل خمس سنوات من هذه راحة من شر حذر منه.
والآن.. فلنسأل أنفسنا : هل لاقت دعوة التلمسانى أى استجابة من أى نوع ؟… مرة أخرى نقول «.. وكان الموت راحة من كل شر »…. رحم الله كامل التلمسانى.. وللسينما العربية العزاء.