«طعم النوم» نسخة مصرية لفتح نافذة بوح للأنثى في مجتمعات منغلقة
لا فكرة تموت، لا نص جيد يُدفن مع صاحبه، تتجدد المعاني، وتتمدد الكتابة شرقا وغربا، وتنتقل كسحاب حُر يُطوّف أرجاء المعمورة مُتخطيا حواجز اللغة، حدود الجغرافيا، وطبائع المجتمعات. مَن قال إن لكل نص زمانه؟ من ظن أن لكل كاتب وقته؟ إن الأدب يُكرر أفكاره بأنماط مختلفة وعناوين مستحدثة، ودوما يمكن استنساخ نصوص عالمية وإعادة تقديمها بشكل آخر ونمط جديد. وتبقى المعارضة الأدبية فناً بكراً يكاد يغرس أوتاده في رمال الأدب العربي، فمع الوقت تطفو على الساحة أصوات جديدة أكثر جرأة، أكبر قدرة على المخاطرة،و أشد غراما بالتجريب لتتكأ على نصوص عالمية مُعدِلة ومُعارضِة دون وجل أو تردد.
وجهة نظر عكسية
طارق إمام، الروائي المصري المُنتمي لجيل الوسط كان أحد هؤلاء، إذ قدم مؤخرا روايته الجديدة «طعم النوم» ليُعارض بها روايتي ياسوناري كواباتا «1899 ـ 1972» «منزل الجميلات النائمات»، وغابريال غارسيا ماركيز «1927 ـ 2014» «ذاكرة غانياتي الحزينات»، لكن بمعارضة انطلقت من وجهة النظر العكسية ليجعل الفتاة النائمة هي مَن يحكي، وليس الرجال العجائز كما هو في النصين العالميين.
في لقائه مع «أصوات أون لاين» قال طارق إمام إن فن المعارضة الأدبية قائم على تقديم جديد، وهو فن معمول به في العالم وليس عيبا أو استسهالا كما يتصور البعض، فهناك خلط لدى البعض في ساحة الثقافة العربية بين المعارضة والمحاكاة، لكن فلسفة المعارضة تقوم على كيفية الاستفادة من نص سابق لصناعة نص جديد.
طارق إمام في لقائه مع «أصوات أون لاين»
ولفت إلى أن أبسط دليل على ذلك أنه لا يطلب من قارئه أن يطلع على الروايتين السابقتين، وإن لم يفهم القارىء روايته ويهضمها دون قراءة الروايتين السابقتين فمعنى ذلك أن المعارضة فاشلة.
وطارق إمام أحد أبرز الروائيين من جيل الوسط في مصر، إذ ولد سنة 1977 بمدينة دمنهور شمال القاهرة، وعمل بالصحافة، وقدم عشر كتب بين روايات ومجموعات قصصية من أبرزها رواية «هدوء القتلة»، «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، و«الأرملة تكتب الخطابات سرا»، وفاز بعدة جوائز في الكتابة من بينها جائزة سعاد الصباح، وجائزة الدولة التشجيعية، فضلا عن جائزة ساويرس لدورتين مختلفتين.
وفي تصوره فإن المعارضة الأدبية هي فعل استعاري، لكن المحاكاة فعل كنائي بمعنى أن يقلد، وبتوضيح أكثر يمكن القول أنه في المعارضة فإن النص السابق هو الواقع الخارجي للرواية وبناء عليه يتم اعادة تشكيله مجددا.
وقال إمام إننا تربينا على أن الأدب الجيد هو الذي نعيد انتاجه من خلال القراءة بعد زمن ما، وأنا أسأل لماذا لا يمتد ذلك إلى الكتابة. «من ُهنا فكرت في انطاق الفتاة النائمة في الروايتين العالميتين» على حسب قوله. وكشف أن روايته «طعم النوم» عمرها الفعلي يمتد لنحو 25 سنة.
وحكى لنا أنه قرأ سنة 1994 رواية كاواباتا «بيت الجميلات النائمات» مترجمة ولم يكن يكتب روايات وإنما قصصا صغيرة، وأعجب بالحكاية واللغة الشعرية، لكن السؤال ولد وقتها «لماذا لم تتكلم النائمات؟»
وتابع قائلا «بعد عشرة سنوات أخرى وكنت أصدرت روايتي الأولى «شريعة القط» قرأت آخر روايات ماركيز والتي تعارض رواية كاواباتا، وتوقعت أن يُنطق الفتيات النائمات لكنه لم يفعل، ورأيت أن هذا ندائي. إن الباب مازال مفتوحا لأدلف إلى هذا العالم».
مغامرة خطرة
وكشف الروائي المصري تفاصيل مغامرته حيث بدأ كتابة «طعم النوم» سنة 2015 مترددا، ثُم توقف، وشعر بخوف، ثم عاد مرة أخرى بعد أن شعر أن المرأة بشكل عام في مجتمعاتنا تعاني دوما، وأنها لا تجد مَن يرفع صوتها عاليا.
وكان قد كتب في 2009 رواية قصيرة بعنوان «الأرملة تكتب الخطابات سرا» فتحت له بابا ليدلف إلى عالم النساء، لذا فإن إصراره أن يُنطق الفتيات النائمات تواصل واكتمل. وقال «في رواية الأرملة كنت أكتب بالضمير الغائب «الراوي العليم» لكن في رواية «طعم النوم» أصبحت المرأة هي الراوي». إن البعض استغرب أن يكتب روائي رجل بصوت أنثوي، لكن مَن قال إن الروائي عندما يكتب على لسان قاتل، فإنه بالضرورة قاتل.
لهذا السبب يقول الروائي: إن هذه الرواية هي أصعب رواية كتبتها، وجزء من صعوبتها ضمير الأنثى المتكلمة. لم تكن المشكلة هي المرأة فقط لكنها أيضا تنتمي إلى مرحلة عمرية مختلفة لا أنتمي إليها.
لقد رأى المشروع برمته يحمل مخاطر عديدة مثل أن يقارنك البعض بكاواباتا وماركيز، وأن تعارض روايتين بديعتين، وأن تتحدث بصوت فتاة. لكن يمكن القول أن أهم ما ساعده على إتمام تجربته أن أفكار الفتاة المبثوثة في الرواية تحمل جانبا كبيرا من أفكاره الحقيقية حول العالم والوجود والشيخوخة.كذلك فقد كتب روايته بمنطق أن القارىء يفهم أنها رواية لأنه يخبره بذلك في البداية، معلقا «أنا والقارىء نلعب معا».
ماركيز
وحول مرحلة البحث السابقة على الرواية قال طارق إمام إن كل روائي يقضى فترة بحث قبل الكتابة، وكل نص وله بحثه. إنه يُسمي ذلك بـمرحلة الكتابة المختزنة، وهي كتابة ليست على الورق.
ولفت إلى أنه اعتنى بالمكان معيدا استكشاف الإسكندرية المدينة الكوزومبوليتانية في فترتين متباينتين، الأولى بعد هزيمة يونيو 1967، والثانية وقت حظر التجوال في سنة 2013 ، وكانت أحد الأسئلة المهمة هي كيف تغيرت المدينة بشرا وحجرا، وكيف يمكن لبيت الجميلات أن يكون فيها.
وقال إنه كان يحاول أن يربط المدينة بالبيت، مثلما نجد البطلة نائمة لأننا جميعا نائمون. إن اليقظة في تصوره هي يقظة اجتماعية، سياسية، ثقافية وهي غائبة عن عالمنا لذا فإننا جميعا نائمون.
وإذا كان البعض يتهمون الأدباء الذين يقومون بمعارضة أعمال عالمية بالسرقة أو قلة الحيلة، فإن الروائي المصري يراها فنا معترفا به في العالم، لكنه مازال يؤسس جماعته في الساحة العربية. وقال إن الفكرة كما ذكرت هي كيف تعمل على نصوص موجودة لتخرج نصا جديدا.
الأمثلة على ذلك متعددة منها مثلا رواية «حارس سطح العالم» للروائية الكويتية بثينة العيسى والتي عارض كل فصل فيها رواية عالمية، حيث قدمت رؤى جديدة اعتمدت على روايات عالمية مثل«1984»، «بينوكيو»، «154فهرنهايت»، و«أليس في بلاد العجائب».
كذلك فعل الروائي الجزائري كمال داوود، والذي يكتب بالفرنسية عندما كتب معارضا رواية ألبير كامو الشهيرة «الغريب» مقدما نصا جديدا بعنوان «ميرسو. تحقيق مضاد». ربما لا يعجب ذلك بعض النقاد، حتى أن أحدهم كتب عن «طعم النوم» متسائلا كيف يكتب طارق إمام مشاعر العجز وهو لم يمر بها؟
لكن بالطبع هذا غريب لأن كثيرا من الروائيين كتبوا مشاعرهم تجاه الموت، وهم لم يختبروه. وهناك مَن يرى أن المعارضة بالأسلوب الذي لجأ إليه طارق إمام نوع من الكتابة النرجسية. ويرد طارق إمام قائلا «اعتقد أن الحركة النقدية ليست متعالية كما يظن البعض لكنها قاصرة وأدواتها في حاجة إلى تجديد».
إنه لا يستغرب أن يكتشف أن كتابا في الهند أو اليابان أو اوروبا يفكرون بالمنطق ذاته. ويرى أن هناك أواني مستطرقة في العالم الإبداعي، فأحيانا نكتشف أن مجموعة من الكتاب في العالم يفكرون بطريقة متشابهة دون أن يعرف بعضهم الآخر.
وحول عنوان الرواية قال إنه ينتمي للكتاب الذين يأتيهم العنوان في النهاية. وأوضح أنه كان يبحث عن عنوان رابط بين الروايتين اللتين يعارضهما ويكون مقبولا في البيئة العربية، ووجد أن كلمة طعم النوم بمعنى مذاقه هي الأنسب.
ظلال المعنى
ويرى كثير من النقاد أن إحدى السمات المميزة لكتابات طارق إمام امتلاكه للغة شعرية آسرة، حتى أن بعض العبارات يُمكن اقتباسها وتحويلها لمقاطع شعرية منفصلة. واتفق طارق إمام مع ذلك مؤكدا أن أجمل الأعمال السردية هي التي تحظى بآفاق شعرية.
وأوضح أن الأفق الشعري هو ظلال المعنى، وهو الذي يمنح القارىء فرصة حقيقية لمشاركته. إن الأدب عنده هو طريقة لاستحضار عدد من الأسئلة الكبرى ولا يمكن أن يستبعد اللغة باعتبارها شيئا غير مركزي، فكل الأدباء العظام لديه عظام لأنهم قدموا لغة بديعة.
ورأى أن اللغة هي جزء أصيل من مشروعه الأدبي، فالمعنى لا يأتي إلا ملتبسا بلغته. والفكرة هنا تولد مندمجة مع لغتها، لأن الفصل بين العناصر الابداعية يمكن أن يكون فصل إجرائي لكنه يستحيل عمليا. إنه يرى أن إحساس الكاتب باللغة موهبة وهي موهبة توجد أو لا توجد ولا يمكن افتعالها أو اصطناعها.
وفي رأيه، فإذا كان بعض الكتاب يحاولون اصطناع لغة شعرية، فإنه مالم تكن نظراتهم للعالم شعرية فمن المستحيل أن ينتجوا لغة شعرية. وأوضح تصوره قائلا إن رحلة الموت هي رحلة سردية، لكن الأثر الذي تتركه أثر شعري، وكذلك الولادة فهي لحظة سردية لكن آثارها شعرية بحتة.
إن مهمة الروائي في نظره هي كيف يحكي حكاية باحثا داخل سردها عن أثرها الشعري الذي يجعلها أكبر من مجرد حكاية. من هُنا فإنه مسكون بقراءة الشعر لدرجة حفظ قصائد للشاعر الإنجليزي تيد هيوز، ويحب لوركا، فيليب مارتن، قسطنطين كفافيس. وعلى المستوى العربي ينحاز بقوة لقصيدة النثر الحديثة مثل أمجد ناصر، زياد الرحبي، نوري الجراح، سعدي يوسف، وديع سعادة، وحتى سوزان علوان، وأحمد يماني، وعماد أبو صالح، وخالد بن صلاح.
أما أساتذته في الرواية فهم نجيب محفوظ، ليو تولستوي، كازنتزاكس، كاواباتا، ماركيز، وجميع كتاب أميركا اللاتينية، وما تلاهم من أجيال حاولت التجديد في الرواية.
نجيب محفوظ
إنه يرى أن فن الرواية فن عظيم جدا لأنه قضى على المركزية الغربية، وسمح للأطراف ان تعلو وتمحو فكرة أفضلية الأوروبي الأسطوري، وليس أدل على ذلك من ظهور ماركيز من أمريكا اللاتينية، وسلمان رشدي من الهند، وموراكامي من اليابان، وميلان كونديرا من التشيك.. بالإضافة بالطبع إلى نجيب محفوظ
وقال إننا يجب أن نحب الرواية لأنها حققت هذا الانتصار الذي لم يحققه أي مجال آخر آخر ضد الإمبريالية العالمية.
وتابع قائلا: إن الجغرافيا لم تعد هي الحاكمة حتى لو استمرت جائزة نوبل تركز على الثقافة الأوروبية وحدها وتقوم كل عامين أو ثلاثة على استحياء بالنظر للمبدعين العظام خارج أوروبا.