مختارات

«الممرضات».. أوصاف ملائكية وصور نمطية

تتوالى الآن في الكثير من البلدان وعلى وسائل التواصل الاجتماعي إشارات التشجيع والاحتفاء بالفرق الطبية التي تقف على خط النار في مواجهة وباء فيروس كورونا. ويبدو الأمر وكأننا نكتشف هذه الفئات ليس من منظور العلاج التقليدي، ولكن من منظور الخلاص من خطر داهم يهدد الجميع. وفي هذا السياق، لفت انتباهي بحث عن ثقافة التمريض في مصر للدكتور سيد محمد علي فارس بعنوان «ثقافة التمريض وممارسة القوة: بحث في الأنثروبولوجيا الطبية بمستشفى القصر العيني التعليمي الجديد». يتناول البحث جوانب متعددة من ثقافة التمريض. وبمما أننا نتوقع، أو نأمل، في أن يؤدي الوضع الحالي إلى إعادة التفكير في المؤسسات الصحية، فمن الأهمية بمكان إلقاء الدور على فئة التمريض بوصفها ركيزة أساسية في المجال الصحي. وأهمية الموضوع يعود إلى أننا ندرك، حتى لو تجاهلنا هذا الأمر، أن هناك نظرة سلبية ونمطية ضد الممرضات ومهنة التمريض، ولا يمكن التفكير في إصلاح النظم الصحية بدون النظر إلى دور التمريض ومشكلاته المهنية والثقافية والتعليمية.

يشير البحث المذكور إلى الإزدواجية في نظرة الممرضات لمهنتهن بين كونها مهنة سامية، وكونها مهنة لا تحظى بالاحترام بالمعنى الثقافي والمجتمعي، وهو ما تعبر عنه إحدى الممرضات بالقول: «مهنة التمريض راقية… لكن نظرة المجتمع لها سيئة.. ناس كثير مستهترون بالمهنة.. شايفين أن التمريض مش كويسين خلقيا وسلوكيا..». وبالطبع فإن الممرضات، بوصفهن نساء، عرضة لضغوط الأحكام الأخلاقية التي هي سمة الثقافة السائدة في مجتمعاتنا. وفي هذا يقول الباحث: «وتُرجع أخصائيات التمريض هذه النظرة إلى صورة نمطية للمرضة شكلتها الثقافة، تبدو فيه مستهترة دائمة السهر خارج المنزل أو العودة إليه في أوقات متأخرة…». ولا شك أن التنميط قد يطال مهن أخرى، ولكن للتمريض خصوصية، لأن أغلب العملات فيه من النساء، وإذا نظرنا مجموعة من العوامل المحيطة بهذه المهنة وهي: البقاء خارج المنزل، وصغر السن، والاستقلال المالي، فضلا عن الدراية بالجسد والصحية، فإن هذا قد يكون سببا للخوف من الممرضة والإحساس بأنها خارج السيطرة وفق شروط الثقافة التقليدية السائدة. وتعبر إحدى الممرضات عن هذه النظرة السلبية بالقول: «شايفين التمريض مش كويس.. زمان كانوا يمنعوا البنات من الالتحاق بالمهنة.. التفكير السائد إن لو واحدة دخلت بنتها تمريض تبقى عملت حاجة مش كويسة.. التمريض عيب فى نظر الناس.. أشعر بالإحراج والكسوف أن أقول إنى ممرضة..» ومع ذلك فهناك أراء ترى أن الوضع تحسن عن السابق، ولكن لازالت النظرة للممرضات سلبية.

ومن هذا المنطلق فإن أزمة ثقافة التمريض الأساسية تتمثل في غياب التقدير والإعتراف بالممرضات اجتماعيا وثقافيا ومهنيا. وهو ما يصاحبه الشعور بالاضطهاد وعدم التقدير من كافة الأطراف الإدارة والأطباء والمرضى وذويهم. فالمسألة لا تتعلق فقط بضغوط الصور النمطية، ولكن على الصعيد المهنى ثمة احساس بالاضهاد، فأي تقصير في الخدمة العلاجية تتحمله الممرضات، كما يتحملن نتائج العديد من السلوكيات المخالفة من جانب الأطباء، وعادة ما تنحاز الإدارة إلى الأطباء ضد التمريض. ومحاور التوتر والصراع متعددة، ما بين جماعة التمريض نفسها، وبينها وبين الأطباء.

فمن ناحية أولى، يستنتج البحث أن جماعة التمريض تفتقر للتماسك، فهى جماعة منقسمة إنطلاقا من المستوى التعليمى والخبرة ومواقع العمل. ويدعم الشعور بالاضطهاد وسلوكيات الجماعة هذا الانقسام وعدم التماسك. تقول إحدى الممرضات من خريجات التعليم الفنى المتوسط: «الدبلوم هى المغلوبة على أمرها عكس البكالوريوس.. الممرضة بتشيل زفت الناس.. دايما يعاملوا الممرضة كأنها شغالة عندهم..». ويبرز ذلك أيضا في الموقف من زي الممرضات، حيث تنظر خريجات كليات التمريض، إلى أهمية التمايز في الزي حتى يتضح الفرق بين الحاصلات على بكالوريوس والحاصلات على الدبلوم المتوسط، وهو ما تراه الأخيرات نوعا من التمييز ضدهن. ويولد هذا الوضع نوع من التوتر والحساسية بين فئات التمريض، وهو ما يؤثر بدوره على بيئة الممارسة وجودة الرعاية الصحية.

ومن ناحية أخرى، فإن العلاقة بين الأطباء والتمريض أيضا علاقة معقدة تحكمها ثنائية السيطرة/الخضوع، حيث يرى التمريض أن هناك نزوع لدى الأطباء نحو السيطرة، وإغفال أن العلاقة بين الطب والتمريض قائمة على التكامل وليس التبعية. وتتفاوت درجة نظرة العاملات بالتمريض للعلاقة بالأطباء حسب سنوات الخبرة والمستوى التعليمي وموقع العمل، فالعاملات في أقسام الرعاية المركزة وكذلك الممرضات الأكبر سنا أقل احساسا بالاضطهاد مقارنة بالممرضات الأصغر سنا، والحاصلات على مؤهل متوسط ممن يعتبرن أنفسهن مجرد أدوات لتنفيذ أوامر الطبيب. ويتطرق البحث كذلك إلى منظور النوع الاجتماعي لبحث علاقات القوة بين الأطباء والتمريض، فثقافة المؤسسة هي بدرجة أو بأخرى امتداد للثقافة المجتمعية في نظرتها للذكورة والأنوثة. تقول إحدى الممرضات «الدكتور جواه نظرة المجتمع للمرأة.. الرجل الشرقي هو هو حتى في مكان العمل». وعمليا فإن الممرضات ينفذن أوامر الأطباء، ولكن أحيانا يراوغن ولا ينفذنها إذا كانت خطأ في تصورهن. وهناك أيضا أساليب انتقامية يمكن أن تمارسها الممرضات ضد الأطباء، وكما جاء على لسان إحداهن: «لو الدكتور مدايقنا «يضايقنا» نثبته.. أقرفه.. في كل حاجة أستدعيه».

ولأن الافتقار إلى الإعتراف والتقدير يعد مشكلة أساسية في ثقافة التمريض، فإن الممرضات كثيرا ما يقاومن هذا الوضع بأساليب ظاهرة أو خفية، ويبحثن عما يحقق لهن المكانة والأمان. وفي هذا الصدد يشير البحث إلى وجود تفضيلات في العمل داخل أقسام المستشفى، فتحظى وحدتي الرعاية المركزة والطوارئ بالقيمة الأكبر لأنها تُشعر أخصائية التمريض بأهمية الدور الذى تؤديه. والمهم كذلك أن الرعاية المركزة مكان مغلق وبالتالي أكثر أمانا، تقول إحدى أخصائيات التمريض: «… أفضل الرعايات لعدم الاحتكاك بأهل المرضى اللى بيحملونا فوق طاقتنا في قسم العظام ممكن أهل المريض يصروا على أن نحمله دون مساعدة منهم وإذا اتأخر الدكتور يشتمونا». ومن التفضيلات كذلك، أقسام النساء والولادة لأن فيها أحداث مبهجة «الولادات»، فضلا عن أن التعامل يكون مع النساء بالأساس بعيدا عن الرجال.

وتخلص الدراسة إلى أن الاستفادة من طاقات الممرضات وقدراتهن يتطلب إصلاحات مؤسسية وثقافية داخل المؤسسات الصحية، لتحسين بيئة العمل وتغيير إحساس جماعة التمريض بأنهن جماعة مضطهدة، والحد من الصراعات الداخلية بين فئات التمريض وبين هذه الفئات والأطباء، وتغيير ثقافة التمريض من ثقافة تركز على الأدوار إلى ثقافة تركز على المهمة والهدف. ولا شك أنه يصعب تعميم نتائج البحث الذى أجرى فى مستشفى قصر العينى، والتي تختلف بالتأكيد عن الكثير من المستشفيات العامة والخاصة الأخرى، فالأمر يتطلب مزيدا من الاهتمام على مستوى الدراسات، ومن ثم السياسات.

نقلا عن: جريدة وطني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock