نقلا عن: عربيةINDEPENTENT
تحدث نعوم تشومسكي المفكر وعالم الألسنية عما ينتظر البشرية أثناء وما بعد «الكورونا» في إطلالة استثنائية ضمن حلقة خاصة في DiEM25 TV وحذر من السباق إلى حافة الكارثة المرعبة التي يجري إليها العالم، والمضاعفات الاقتصادية والاجتماعية التي يتسبب بها الوباء على مستوى البشرية بأكملها. وما يتهدد البشر من خطرين وجوديين وشيكين، أولهما تزايد تهديدات الحرب النووية، وثانيها تزايد مخاطر الاحتباس الحراري الذي سيتسبب بكوارث بيئية على مستوى الكوكب.
تشومسكي الذي يعيش في عزلة ذاتية في منزله في توكسن بولاية أريزونا، شأنه شأن ملياري إنسان على الأقل، للاحتماء من عدوى «فيروس كورونا» والذي يبلغ الواحد والتسعين عاماً وينتمي إلى أكثر الفئات العمرية التي يتهددها الوباء الفتاك، لديه اليوم الوقت الكامل للتفكر والتأمل بما يحدث أو سيحدث مع هذه الجائحة التي أدت إلى إجراءات العزل المنزلي فضلاً عن الحجر الصحي ومنع التجول، ونزول الجيوش إلى الشوارع في العديد من بلدان العالم، وإغلاق الحدود بين مدن البلد الواحد وبين الكثير من دول العالم في أكثر عملية عزل قسري وحصار طوعي على مر التاريخ.
ولد تشومسكي عام 1928 نهاية الحرب العالمي الأولى وعايش الكثير من الأحداث التاريخية. ونجا من الحرب العالمية الثانية، كتب أول مقالة له في العاشرة من عمره عن الحرب الأهلية الإسبانية بعد سقوط برشلونة عام 1938، وتحدث فيها بشكل خاص حول ما يشهده الناس من انتشار لا يرحم ل«الطاعون الفاشي» في جميع أنحاء أوروبا محللاً إلى أين سيفضي هذا الوباء. يقول في معرض حديثه عن هذه المقالة: «اكتشفت لاحقاً، بعدما تم تحرير الوثائق الداخلية أن محلل حكومة الولايات المتحدة في ذلك الوقت توقع أن تنتهي الحرب بانقسام العالم إلى الهواء الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والمناطق التي تسيطر عليها، ومنطقة أخرى تسيطر عليها ألمانيا في أوروبا. وتبين لي أن مخاوف طفولتي كانت في محلها».
ويضيف:«هذه الذكريات تعود إلي الآن. أتذكر خطابات هتلر في الراديو، لم أستطع فهم الكلمات حينها، لكن كان من السهولة أن أفهم المزاج العام وأشعر بالتهديد الذي تحمله صدى الكلمات. وهنا يجب أن أقول إنني أشعر بالشيء ذاته عندما أستمع إلى خطابات ترمب اليوم، التي يتردد صداها في نفسي. ليس الأمر أنني أشعر بأنه فاشي، فهو ليس كذلك، فالفاشية لديها الكثير من الإيديولوجيا، لكني أرى فيه مجرد «معتل اجتماعي» مهرج لا يهتم سوى بنفسه، لكن المزاج والمخاوف التي تثيرها كلماته متشابهة مع أيام طفولتي. وفكرة أن مصير البلاد والعالم في أيدي مهرج ومعتل اجتماعي مثل دونالد ترمب هو شيء مروع.
حافة الكارثة
إن فيروس كورونا التاجي خطير بما فيه الكفاية، لكن من الجدير بالذكر أننا نقترب من الرعب الأعظم، وهو السباق إلى حافة الكارثة، وهو حدث أسوأ بكثير من أي شيء حدث للإنسان عبر التاريخ. ترمب وأتباعه هم في صدارة هذا السباق نحو الهاوية. الهاوية التي تتمثل في الواقع بتهديدين هائلين وجوديين. الأول، التهديد المتزايد لاندلاع حرب نووية، والآخر، هو التهديد المتزايد للاحتباس الحراري. يمكن التعامل مع التهديدين لكن لا يوجد الكثير من الوقت لتداركهما. الفيروس التاجي «كورونا» يمكن أن تكون له عواقب مرعبة. لا يمكن بعدها العودة إلى الوراء، حتى لو تم التعافي وحدث الانتعاش. هكذا تأتي ذكريات الطفولة لتعود وتطاردني، ولكن ببعد مختلف».
ويقول تشومسكي أنّ منذ انتخاب ترمب، يمكن رؤية ثلاثة أشياء: تهديد الحرب النووية، وتهديد الاحتباس الحراري، وتدهور الديمقراطية. ومع أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للتغلب على الأزمة إذا سعى الجمهور إلى السيطرة على مصيره، وإذا لم يحدث ذلك، وتركنا مصيرنا لهذا «المعتل الاجتماعي» سننتهي. هذا الخطر يقترب، وترمب هو الأسوأ بسبب قوة الولايات المتحدة الساحقة التي يترأسها. فهي الدولة الوحيدة القادرة على فرض عقوبات مدمرة والقتل وعلى الجميع أن يتبعوها. حتى أوروبا. قد لا تحب أوروبا في الواقع أعمال الكراهية وفرض العقوبات ضد إيران، لكن عليهم أن يتبعوا «المعلم»، ومن لا يمتثل له يطرد من النظام الدولي المالي والاقتصادي. هذا ليس قانون الطبيعة. بل هو قرار أوروبا أن تبقى تابعة ل«المعلم السيد» في واشنطن. هي وبلدان أخرى كثيرة. ليس لديها خيار حتى.
وبالعودة إلى فيروس كورونا التاجي يرى تشومسكي أنه أحد أشد الصدمات العصر. ومن الجوانب القاسية لأزمة كورونا مواصلة استخدام العقوبات لزيادة الألم بوعي تام، ولجعل المعاناة أشد مرارة.
كوبا تساعد أوروبا
ويرى أن «بلاداً مثل كوبا تعاني من العقوبات، منذ اللحظة التي اكتسبت فيها الاستقلال، من المذهل أنها نجت واستطاع الكوبيون البقاء أحياء. لكن واحداً من أكثر الأمور سخرية الآن هو أن كوبا عرضت المساعدة على أوروبا. هذا شيء صادم ومثير للدهشة. ففي حين أن ألمانيا تتمنع عن مساعدة اليونان، نجد كوبا تقدم المساعدة إلى أوروبا في محنتها لمواجهة الفيروس التاجي كورونا.
إذا توقفت عن التفكير ماذا يعني ذلك؟ لا توجد كلمات تصف ذلك. كما لا توجد كلمات تصف ما يحدث في الشرق الأوسط، حين ترى آلاف الأشخاص فارين من مناطق مدمرة، ويتم إرسالهم إلى الموت، عقوداً وراء عقود. الأزمة أزمة حضارية. الغرب في هذه المرحلة مدمر. تعيدني هذه الأحداث إلى ذكريات الطفولة والاستماع إلى هتلر عبر الراديو وهو يهتف في الحشود الصاخبة…».
وفي نظر تشومسكي أن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم، يضاف إليها انهيار الأسواق والنظام الاقتصادي العالمي، واستخدام ترمب خطاب «الحرب» وماكرون أيضاً والعديد من السياسيين الأوروبيين والدول والتحدث عن الأطباء بوصفهم جنود الجبهة الأمامية بمواجهة «العدو» غير المرئي «الفيروس». الخطاب ذاته يجري استخدامه في وسائل الإعلام كافة حول العالم، مما يطرح تساؤلاً عن أثر هذا الخطاب في فرض حالة من الاستبداد: هل يرى تشومسكي أن تقديم «الفيروس» كعدو هو فقط لإضفاء الشرعية على «حالة الاستثناء الجديدة» أم ثمة ما هو أعمق في هذا الخطاب؟
تعبئة حربية
يعتبر تشومسكي «أن التعامل مع أزمة الفيروس يتطلب التحرك بما يشبه التعبئة العامة في زمن الحرب. وهذا أمر غير مبالغ فيه. ففي بلد غني كالولايات المتحدة لديه الموارد للتغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الفورية التي يتسبب بها التعامل مع الفيروس، كما حدث في الحرب العالمية الثانية حين أعلنت الولايات المتحدة التعبئة العامة وقادت البلاد إلى دين كبير وأكبر مما هو متصور اليوم، لكنها كانت تعبئة ناجحة للغاية، عملياً تضاعف حينها التصنيع أربع مرات وتم إنهاض الكساد واستعادت البلاد القدرة على النمو.
اليوم نحتاج إلى أقل من ذلك للتعامل مع الوباء، نحتاج إلى عقلية الحركة الاجتماعية. عقلية الحركة الاجتماعية من أجل التغلب – وعلى المدى القصير- على أزمة شديدة تعّبر عن فشل ذريع للنيوليبرالية، واقتصاد السوق لا يكف عن التزايد. ويمكن هنا أن نتذكر كيف تم التعامل مع إنفلونزا الخنازير عام 2009، وتعافى مئات الآلاف من الناس من الأسوأ، وتم إيجاد لقاح للقضاء على الوباء حين تحركنا بسرعة».
ويضيف: «هذا لم يحدث اليوم، على الرغم من توفر المعلومات منذ ديسمبر 2019، عن أعراض وباء فتاك غير معروف مسبباته، والتي قدمتها الصين إلى منظمة الصحة العالمية حين تفشى الوباء في «ووهان» وتم تعميمها في العالم أجمع. كان تحرك ترمب وقادة أوروبا بطيئاً وغير مسؤول. ذلك لحسابات تجارية واقتصادية للنيوليبرالية التي تحكم العالم خشية الخسائر التي سيتسبب بها العزل الاجتماعي، وإغلاق المؤسسات والشركات وتعطيل الحياة العامة ولمنفعة هؤلاء الأثرياء. وبسبب عقلية اقتصاد السوق، فضلت شركات الأدوية تصنيع كريمات البشرة على إيجاد لقاح أو علاجات للأوبئة المحتملة لأنها أكثر ربحاً. هم كانوا يعرفون منذ تفشي فيروس السارس بوباء كورونا المحتمل. فقد تم القيام بأبحاث منذ فيروس السارس وتم تحديد التسلسل الجيني لسلالة سارس والتي ينتمي إليها فيروس كورونا كتطور جيني محتمل للسلالة تم التأكد منه. ماذا حدث؟ لم تعمد الحكومات وشركات الأدوية العملاقة على الانكباب لتصنيع العلاجات أو اللقاحات لحماية الناس».
شركات الادوية
«حين سلمنا مصيرنا للاستبداد الخاص لشركات الأدوية التي لا تخضع لمساءلة الجمهور، يقول تشومسكي، ولمصلحة نفعية للنيوليبرالية المتوحشة التي تتحكم باقتصاد السوق وفلسفة العرض والطلب على مستوى العالم وليس في الولايات المتحدة فقط، حيث الطاعون الجديد المتمثل في النيوليبرالية يقودنا إلى الهلاك. لقد تمت خيانتنا من النظم السياسية التي تتحكم بها النيوليبرالية ويديرها الأغنياء ولا خيار لنا سوى «الخروج من الطاعون النيوليبرالي» للتعامل مع الأخطار المقبلة التي تلوح في الأفق في العالم. فالهند مثلاً حيث يقبع أكثر من مليار في العزلة الاجتماعية، ماذا سيحدث للذين يعيشون كل يوم بيومه «من اليد إلى الفم»؟ سيتضورون جوعاً ويموت المعزول وحيداً».
ويضيف:«ماذا عن الاحتباس الحراري في جنوب آسيا، حين تواصل حرارة المناخ بالارتفاع، ومع ازدياد مخاطر الجفاف وشح المياه ونشوء نزاعات متعددة في العالم حول المياه، هناك بلدان مثل جنوب آسيا قد تصبح مناطق غير قابلة للعيش لعقود».
وإذ يتساءل حول مصير البشرية بعد كورونا، يعتبر تشومسكي أن الفيروس التاجي حمل معه أشياء إيجابية هي إشارات تحذيرية لنا من الخطر الداهم الذي يلوح في المستقبل القريب ليحثنا على التحرك والاستعداد. بخاصة أن الديمقراطية في خطر بسبب حالة الاستثناء التي يتحكم فيها «قلة قليلة هم أسياد النيوليبرالية». وسيواصلون التحكم برأيه إن لم تتم الإجابة عن سؤال وجودي يطرحه تشومسكي بإلحاح الآن تحت السحابة السوداء لهذه الأزمة وهو: أي عالم نريد أن نعيش فيه؟
يرى تشومسكي «أن أمامنا خيارات عديدة تتراوح «بين تركيب استبدادي للغاية» في العالم تتحول فيه الدول إلى أكثر وحشية، أو خيار الراديكالية وإعادة إعمار المجتمع، أو خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية، التي سيسعدها التضخم الهائل لعنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا، لا سيما إن طالت الأزمة.
«إن الاستماع إلى ما سمّوه «الصوت الاقتصادي لليبرالية الجديدة في عشرينيات القرن الماضي، يقول تشومسكي، أسعد الفاشية البدائية في فيينا وقامت الدولة النمساوية بتحطيم النقابات العمالية وحطمت الديمقراطية. وهو ما حدث في تشيلي على يد بينوشيه الذي قام بتركيب قاتل لديكتاتورية وحشية بحجة حماية الاقتصاد». لذا من المتوقع- باعتقاده – أن يتصرف النظام النيوليبرالي العالمي بهمجية مفرطة عبر دول قوية عنيفة استبدادية.
كابوس رهيب
أزمة كورونا، باعتقاد تشومسكي، هي مجرد جزء واحد من كابوس رهيب مقبل، وإن لم يشرع الناس على الفور في تنظيم أنفسهم ويتضامنوا في ما بينهم لتحقيق عالم أفضل بكثير من العالم الذي يعيشون فيه، فهم سيواجهون مصاعب هائلة لطالما أعاقت طريق الحق والعدالة، كما الاستعداد للتعامل مع الخطرين الوجوديين للحرب النووية والتغيرات المناخية والكوارث التي سيتسبب بها الاحتباس الحراري، والتي «لن نتعافى منها ما لم نكن حازمين في مواجهتها حين نصل إلى تلك المرحلة، وهي باتت وشيكة الحدوث».
يشدد تشومسكي على لحظة تاريخية حاسمة للإنسان. ليس فقط بسبب فيروس كورونا بل لأن الفيروس يحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية. «فالعالم معيب وليس قوياً بما فيه الكفاية للتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله، واستبداله بنظام عالمي إنساني كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء».
ويعتقد تشومسكي أن فيروس كورونا «علامة تحذير ودرس للبشرية، وعلينا أن نبحث في الجذور التي تؤدي إلى الأزمات، التي ربما تكون أسوأ مما نواجهه اليوم، والتحضير لكيفية «التعامل معها ومنعها من الانفجار»!
ويسأل تشومسكي: «في الوقت الذي تزداد فيه المسافة الاجتماعية في إجراءات العزل المنزلي والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي بين ملايين البشر في البلد الواحد، أو بين مليارات الأشخاص عبر العالم، كيف يمكن الحديث عن خلق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ما هو مقبل وقريب جداً من تهديدات وجودية؟ قد يبدو هذا الحديث غير واقعي، وقد يتصور البعض أن عصر الإنترنت كفيل بتسهيل الأمور، بل قد يرى أن العزلة الاجتماعية بدأت قبل كورونا بكثير وقد تسبب بها الاستخدام المفرط للهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وكل تكنولوجيا المعلومات لا سيما بين أوساط الشباب، لكنها قد تكون هي المخرج والوسيلة إذا أحسن استخدامها لتنظيم الصفوف والتضامن الاجتماعي لخلق حركة اجتماعية واسعة النطاق، إن تمكن الناس من استخدام هذه التقنيات استخداماً جيداً في زمن العزل المنزلي والتباعد الاجتماعي، للانضمام والاستقطاب والتعاون والتنسيق والتشاور المتعمد، على الرغم من العوائق التي سيتسبب بها توقف الإنترنت لفترة من الوقت.
لكن تشومسكي يؤمن أن الناس سيجدون طريقهم وسيعثرون على وسائل أخرى للاستمرار وتوسيع الأنشطة وتعميقها وترميم انكساراتها ولملمة جروحها، ليبنوا عالماً جديداً قابلاً للعيش فيه. يكفي أن نمتلك الإرادة والعزم والتصميم! يكفي ألا نفقد الأمل».