نقلا عن: الجديد
سلافوي جيجك وآلان باديو وغيرهما من الفلاسفة الأوروبيين المعاصرين قدموا أطروحات مختلفة لقراءة المشهد العالمي الراهن في ظل الوباء، محاولين استشراف عالم ما بعده. من يقرأ أطروحات هذه الأسماء الكبيرة وغيرها من وجوه الفلسفة الأوروبية المعاصرة قد ينتابه شعور بأن فلاسفة اللحظة الراهنة مازالوا عالقين في أوروبا ما بعد الحربين العالميتين، وأنهم عاجزون عن مغازلة مستقبل قريب تلعب فيه البيانات الضخمة والخوارزميات الدور الذي لعبته دائما الكلمات ونظريات تأويلها، مستقبل قد تستعيد فيه مؤسسة الدولة نفوذها لكنها لن تتمكّن من ذلك دون توظيف تكنولوجيا قد تتآكل معها بالضرورة حريات الأفراد والمجتمعات وحقوقهم.
يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني الأشهر وأهم رموز مدرسة فرانكفورت النقدية يتحدث عن وباء الفايروس التاجي، وتحدياته الفلسفية والأخلاقية والسياسية، كما يحاول أن يستشرف مستقبل الاتحاد الأوروبي في عالم ما بعد الوباء. فهل يسقط في نفس الفخ أم يفتح لنا الباب أمام أسئلة جديدة؟
يورغن هابرماس، ما الذي تكشف عنه هذه الأزمة الصحية العالمية، من وجهة نظر أخلاقية وفلسفية وسياسية؟
هابرماس: من وجهة نظر فلسفية، يذهلني أن الوباء يجبر الجميع اليوم على تأمل أمور لم يكن يهتم بها في السابق سوى الخبراء والمتخصصون. اليوم، يعي جميع المواطنين ما يجب على حكوماتهم اتخاذه من قرارات، وهم مدركون تماما لحدود معرفة مستشاريهم من علماء الفايروسات. من النادر أن يكون فضاء الفعل في شرط من اللايقين بهذا الوضوح والحيوية. لذلك ربما ستترك تلك الخبرة غير العادية أثرا لا يمحى في وعي المجال العام.
التنازل عن مبدا المساواة
فماذا عن التحديات الأخلاقية؟
هابرماس: أرى حالتين، على وجه الخصوص، من المحتمل أن يُنتهك فيهما مبدأ «عدم المساس بالكرامة الإنسانية»، الذي يضمنه الدستور الألماني في ديباجته، وينص عليه في مادته الثانية، حيث يعلن أن «لكل شخص الحق في الحياة والسلامة البدنية». الحالة الأولى تتعلق بما يدعونه «الفرز»، أما الحالة الثانية فترتبط باختيار اللحظة المناسبة لإنهاء التباعد الاجتماعي.
خطر الحمل الزائد على وحدات العناية المركزة في المستشفيات، والذي اصطلت به إيطاليا بالفعل، ويُخشى أنه يتهدّد بلادنا الآن، يذكّرنا بسيناريوهات طبّ الكوارث التي لا يتم اختبارها عادة إلا في أوقات الحروب. إذا تجاوز عدد المرضى في المستشفيات عدد مرافق الرعاية المتاحة في وحدات العناية المركزة فلا مفر أمام الأطباء حينها من اتخاذ قرارات مأساوية؛ مأساوية لأنها ستكون، في كل الأحوال وبالضرورة، قرارات غير أخلاقية. سيغري ذلك بالتنازل عن مبدأ «المساواة» في المعاملة بين المواطنين، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي، وأصولهم، وأعمارهم.. إلخ، وفي حالتنا على وجه الخصوص سيتم تفضيل الشباب على المسنين الذين قد يرغبون هم أنفسهم في ذلك، في نوع من الإيثار المثير للإعجاب أخلاقيا. ولكن أي طبيب هذا الذي يستطيع أن يزن «قيمة» إنسان في مقابل «قيمة» إنسان آخر، لينصّب نفسه بذلك سيدا على الحياة والموت؟ اللغة الاصطلاحية لـ«القيمة» التي ننصت إليها في الاقتصاد تقودنا إلى «التجسيد الكمي» الذي قد يكون مناسبا لمنظور المراقب الإداري، لكنه لا يمكن أن يكون الطريق التي نسلكها للتعاطي مع الوجود المستقل للأفراد: فعندما أتوجه إلى آخر (أنت – أنتم)، فإن إرادته في تعريف ذاته وحقه في تقرير مصيره لا يمكنني إلا أن أقبلها أو أرفضها، أن أعترف بها أو أتجاهلها، ليست هناك حلول وسط. الأخلاقيات المهنية للطب، فيما يتعلق بذلك، تتوافق مع الدستور وتتبع المبدأ الذي بموجبه لا يمكن أن توضع حياة إنسانية في تعارض مع حياة أخرى للاختيار بينهما، بل إنها تنص على أنه في المواقف التي لا مفر فيها من اتخاذ قرارات مأساوية فإن على الطبيب أن يسترشد حصريا بالإجراءات الصحية التي ترفع نسبيا من إمكانات نجاح العلاج.
الربح والخسارة والاخلاق
والحالة الثانية؟
هابرماس: إن قرار اللحظة المناسبة لإنهاء الإغلاق – وهو إجراء مطلوب أخلاقيا وقانونيا لحماية الحياة – يمكن أن يتعارض، على سبيل المثال، مع حسابات الربح والخسارة. يجب على السياسيين أن يقاوموا “الإغراءات النفعية” للموازنة بين حجم الأضرار الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والوفيات التي يمكن تجنّبها من جهة أخرى. هل من الضروري قبول مخاطر انهيار النظام الصحي، وبالتالي، دفع ضريبة زيادة معدل الوفيات من أجل إعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح، وتقليل البؤس الاجتماعي الناجم عن الأزمة الاقتصادية؟ حول هذه النقطة بالذات، جاءت التوصيات الخاصة بالمجلس الألماني للأخلاقيات غامضة بشكل قاتل، حيث تمنع الحقوق الأساسية للمواطنين مؤسسات الدولة من اتخاذ أيّ قرار قد يؤدي إلى احتمالية القبول بإمكانية وفاة فرد واحد.
الديمقراطية مهددة
أليس هناك خطر أن حالة الطوارئ الاستثنائية قد تتحول إلى قاعدة «ديمقراطية» مستقرة؟
هابرماس: بالطبع، إن الحد من عدد كبير من الحريات الأساسية يجب أن يكون استثناءً لا يسمح باستمراره بشكل قاطع، لكن الاستثناء في حد ذاته، كما أشرت من قبل، يتطلبه الحق الأساسي في حماية الحياة والسلامة البدنية. في فرنسا وألمانيا لا يوجد سبب للشك في التزام الحكومة بالدستور. إذا انتهز فيكتور أوربان – الرئيس المجري- أزمة كوفيد – 19 كفرصة لتكميم أفواه المعارضين بشكل نهائي، فإن هذا يجب تفسيره بالتاريخ الاستبدادي الطويل للنظام السياسي المجري، الذي واجهه المجلس الأوروبي، وقبله، الديمقراطيون المسيحيون الأوروبيون بشيء من التسامح.
ما فائدة الاتحاد الأوروبي إذا لم يظهر، في زمن وباء الفايروس التاجي، أن الأوروبيين متحدون ويناضلون من أجل مستقبل مشترك؟ هكذا كتبتم في نداء جماعي بمجلة «Die Zeit» في الثاني من شهر أبريل الجاري.
هابرماس: لقد طرحنا، أنا وأصدقائي، هذا السؤال على حكومتنا: طرحناه على المستشارة ميركل ووزير المالية الذي ينتمي للحزب الديمقراطي الاجتماعي. وقد تركني كلاهما مندهشا. فقد استمرّا بعناد في التمسك بالتعاطي مع الأزمة وإدارتها لصالح ألمانيا ودول الشمال فقط، دون الالتفات إلى انتقادات دول الجنوب المتوسطية. تخشى الغالبية العظمى من السياسيين الألمان ردود الفعل الغاضبة لناخبيهم في حالة التراجع، خاصة وأنهم هم الذين قاموا بدغدغة تلك النزعة القومية الاقتصادية وإثارتها؛ ذات المرجعية الذاتية، والاحتفاء الذاتي بالصادرات الألمانية كبطل للعالم، وبالطبع لم يحدث كل هذا دون رضاء الصحافة. هناك بيانات تجريبية مقارنة توضح كيف أن حكومتنا، بهذه الصيغة القومية البديلة، «طلبت القليل جدًا» من شعبها. إذا كان ماكرون قد ارتكب خطأً في علاقاته مع ألمانيا، فهو تقليله، منذ البداية، من ضيق الأفق القومي لأنجيلا ميركل (يشير هنا هابرماس إلى إحياء النزعة القومية على صعيد اقتصادي بلا من عرقي).
كانت الصين بؤرة الوباء والآن يبدو أن هذا الوباء يعطيها أفضلية وسلطة في مواجهة أوروبا والعالم. هل نحن أمام نقطة تحول جيوسياسية؟ هل يمكن القول إن الصين تعلن عن تفوقها السياسي والاقتصادي؟
هابرماس: هذا الاتجاه مستمر منذ بعض الوقت وينتج عنه تسارع انقسام الغرب الذي بدأ على أبعد تقدير مع «رئيس الحرب» جورج دبليو بوش. لذلك من الأهمية بمكان أن ترى أوروبا في صدمة الفايروس التاجي فرصة أخيرة لتحتشد للعمل معا بشكل تضامني.
كيف تعيش هذه العزلة؟ كيف هي الحياة عندما تكون مغلقة ومحدودة؟
هابرماس: الكسور العشرية البرلمانية للإنسانويين – الذين «يجلسون» أمام أجهزة الكمبيوتر في منازلهم على أي حال – يعانون أقل.
مواجهة العرقية الاقتصادية
هل من المرجح أن تؤدي هذه الأزمة الصحية العالمية إلى زيادة تأثير القوى القومية الشعبوية التي تهدد أوروبا بالفعل؟ كيف يمكننا أن نقاوم هذه القوى؟
هابرماس: هذا السؤال بغض النظر عن حالة الطوارئ الراهنة يجب أن يجد إجابة مختلفة في كل بلد. في ألمانيا، حصَّننا الماضي النازي بمزيد من القوة في مواجهة عودة الفكر اليميني المتطرف. لهذا السبب، يمكن للأحزاب والحكومات أن تتحمل، تحت حالة معاداة الشيوعية المهيمنة، أن تغض الطرف عن اليمين. منذ وقت كورناد أدناور- ومنذ عودة الوحدة مع ألمانيا الشرقية – سمحت لهم هذه الواجهة المعادية للشيوعية بإخفاء المكوّنات القاتلة لماضيهم السياسي. في فرنسا، على العكس من ذلك، كان التطرف اليميني قد تم تنظيمه بالفعل قبل ذلك بوقت طويل، ولكن جذوره الأيديولوجية مختلفة عن جذور اليمين الألماني، فهي ليست عرقية قومية ولكنها دولاتية، الآن حتى بعض قطاعات اليسار الفرنسي ذات الخلفية الأممية تغرق هي أيضا في كراهية الاتحاد الأوروبي.
ما السردية الجديدة التي يمكن أن يخترعها الأوروبيون لإنعاش الزخم، وتجديد الانطلاقة نحو اتحاد أوروبي غير هذا الاتحاد غير المرغوب فيه والذي يعاني من ضعف التنسيق؟
هابرماس: في مواجهة الاستياء العام الحجج والكلمات المعسولة ليست صالحة. لن تسعفنا إلا قدرة النواة القوية لأوروبا (ألمانيا وفرنسا) على مواجهة المشكلات وحلها. فقط على «الحلبة» من هذا النوع سيصبح من الواقعي مصارعة قمع سياسة عالمية تهيمن عليها النيوليبرالية. وها نحن اليوم نرى أنه عندما تكون الحاجة حقا ملحة، الدولة وحدها هي التي يمكنها مساعدتنا.
أجرى الحوار نيكولا ترونغ ونشر في صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية في الـ12 من أبريل الجاري 2020.
الترجمة عن الإيطالية: وائل فاروق (باحث وأكاديمي مصري).