«نَسَخَ المخطوط فوق ورقة بديعة، بحروف من ذهب وخط رائع، وقد يباعد بين كل كلمة وأخرى، كي تصبح القراءة سهلة وممتعة. أنجز هذا العمل في تسعة أيام كاملة، لم يركن فيها للراحة إلا لحظات قليلة، يغلق فيها عينيه أو يأكل ثمرة بلح، وفي اليوم العاشر وضع المخطوط في صندوق من ذهب وخرج لمقابلة الملك».. من حكايات ألف ليلة وليلة.
رسمة لشهرزاد وشهريار من حكايات ألف ليلة وليلة
المعروف عن الحكايات الشعبية في كل مكان بالعالم أنها تعود لثلاث مرجعيات أساسية: «دينية أو أسطورية أو تراثية» أما الجديد الذي ابتدعه كُتَاب إيطاليا مؤخرا فقد تمثل في مساعدة شعبهم على عبور أزمة تفشي فيروس كورونا، عبر تدوين ما يستطيعون جمعه من قصص إنسانية، في محاولة منهم لتكوين أرشيف وثائقي ذي طابع أدبي عن إيطاليا خلال أزمة كورونا.
تُرى هل ستتحول تلك القصص الإنسانية يوما ما إلى ما يمكن أن نطلق عليه حكايات شعبية؟ وهل ستلتقي هذه القصص مع تلك الحكايات الشعبية الإيطالية القديمة؟ على أي حال فإن أبرز ما يميز الحكاية الشعبية أنها تُروى ولا تؤلف، وأنها تعبر عن الخيال الشعبي أكثر مما تعبر عن الواقع المعاش، ولعل الشعب الإيطالي في مواجهة أزمة كورونا الآن لهو في أمس الحاجة إلى العودة إلى تراثه الشعبي القديم كي ينهل منه ويضيف إليه.
حكايات إيتالو كالفينو
«الآن، انتهت الرحلة بين الحكايات وأتممت كتابة العمل والآن أكتب مقدمته ولكن هل سأنجح في وضع قدمي فوق الأرض».. بتلك الكلمات بدأ الكاتب الإيطالي «إيتالو كالفينو» مقدمة كتابه «حكايات شعبية إيطالية»الذي ترجمته إلى العربية «نجلاء والي» وصدر في جزئين.
كتب «كالفينو» مقدمة كتابه بين صيف وخريف عام «1956» بعد رحلة استغرقت أكثر قليلا من عامين قضاها داخل عالم الحكايات الشعبية الإيطالية وهو يطوف بمختلف ربوع إيطاليا بحثا عن كل ما يتعلق بالحكايات الشعبية، مستعينا بمناهج «علم الفلكلور».
رقصة من فن الفلكلور الإيطالي
يصف «كالفينو» منهجه في جمع تلك الحكايات الشعبية لناشر كتابه خلال رحلة عمله: «أسجل عن كل حكاية أقرأُها ملاحظة سريعة، ثم أصنفها طبقا للأنواع التي قمت بترقيمها حسب ما تراءى لي وأضيف إليها كل نوع جديد أجده. وكل صنف من الحكايات له بطاقة خاصة به، أسجل فيها عنوان الحكاية، وعما قليل عندما أبدا في صياغة كل صنف من الحكايات وكل فرع سأختار أفضلها وأكمل بها الأخريات».
يحتوي الكتاب على قصص دينية وحكايات عن الحيوانات وقصص تاريخية وبعض الأساطير المحلية التي تعبر عن أقدم الحكايات بكل المدن الإيطالية، وفي هذا السياق يطرح «كالفينو» إمكانية إستخدام الحكاية الشعبية كوثيقة تاريخية، ذلك أنه يرى أن دراسة الحكاية تساعد على إظهار كم المتغيرات الجغرافية والتاريخية التي تغلف هيكل الحكاية وتحدد بشكل قاطع الوظيفة الروائية وراء تلك الحكاية، والأشياء التي تنتمي للواقع الاجتماعي، والأدوات والنباتات والحيوانات التي تنتمي لحقبة تاريخية بعينها.
إيطاليا وعالم الحكاية الشعبية
«يحكى يا سادة عن حلاق، هذا الحلاق كانت لديه ساعة تعمل منذ قرون وقرون بدون أن يملأها أحد ولا تتوقف أبدا، لا تمل من العمل ولا تؤخر ولا دقيقة وقد ملأها الحلاق مرة واحدة وبعد ذلك ظلت تعمل تيك، تاك!، تيك، تاك!» من حكاية «ساعة الحلاق».
مع مطلع القرن التاسع عشر انتشرت بأوروبا تلك الحكايات الشعبية التي جمعها «الأخوان جريم» من أفواه الناس، كفرع أدبي ينتمي لعالم الرومانسية الألمانية، وكانت في مجملها مجموعة حكايات شعبية قديمة بلا مؤلف أو هوية محددة، تحمل طابعا يرجع للعصور الوسطى دون تحديد إطار زمني محدد لها، وتبعها إنتشار ظاهرة البحث في الأدب الشعبي كتعبير عن حب الوطن لدى الأدباء الأوربيين، وتلاها محاولات جمع الحكايات الشعبية الشفاهية التي كانت ترويها الجدات، ثم جاء دارسو الأدب الشعبي ليكملوا الرحلة.
الأخوان جريم «فيلهلم غريم» و«يعقوب غريم»
يلفت «كالفينو» النظر إلى أن بعض الحكايات الشعبية قد تتشابه مع بعضها البعض في البلدان المختلفة، غير أنه يمكن القول بأن تلك الحكاية الشعبية إيطالية لكونها تمت روايتها بشكل شفاهي من قبل الشعب الإيطالي ولأنها تأخذ من المكان الذي تُروى فيه «منظرا طبيعيا، تقليدا اجتماعيا، حكمة أخلاقية أو لكنة لغوية أو بعضا من روح البلدة».
تأثرت الحكايات الشعبية الإيطالية في مجملها – وفقا لكالفينو – بالأدب الشعبي الفرنسي الذي مثل تيارا سائدا بالعديد من المناطق الإيطالية، والأدب الشعبي الألماني كما في «حكايات الأخوين جريم» بمناطق شمال إيطاليا على وجه الخصوص، كما يمكن أن نجد أثرا للتأثير العربي الشرقي بمناطق الجنوب الإيطالي.
غير أن أكبر صعوبة واجهت «كالفينو» خلال عمله الموسوعي قد تمثلت في كيفية التعامل مع اللهجات المحلية الدارجة، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بنقل الأغاني الشعبية التي قد تتضمنها حكاية شعبية ما من اللهجة الدارجة إلى اللغة المقروءة.
خصائص الحكاية الشعبية الإيطالية
يُجمل «كالفينو» خصائص الحكاية الشعبية الإيطالية مشيرا إلى أنها لا تتحدث أبدا عن قلعة وإنما عن قصر، ولا تتحدث عن أمير وأميرة، وإنما ابن الملك وابنة الملك، وأن تسمية الكائنات غير الطبيعية مثل الغيلان والساحرات تستند إلى مرجعية وثنية قديمة مرتبطة بمكان وبلد الحكاية، وقد تلاءمت تلك الخلفية المرتبطة بالأساطير الوثنية مع القواعد الأخلاقية وزمن الفروسية والإقطاع وبعض العناصر الدينية المسيحية والوثنية.
ينوه «كالفينو» إلى وجود بعض الحكايات الشعبية الإيطالية التي تروي عن عالم البحار والبحارة وينقسم فيها العالم إلى «مسلمين ومسيحيين» حيث حل ذلك التقسيم محل التوزيع الجغرافي الذي يفصل ما بين إيطاليا والشرقيين وخاصة الأتراك، على أن الحكايات الشعبية الإيطالية – والغربية بشكل عام في مجملها – قد وقفت عند حدود العصر الإقطاعي.
تعتبر حكاية «حب الثلاث برتقالات» واحدة من الحكايات الشعبية النادرة التي يؤكد جامعو التراث على أنها من أصل إيطالي، وهى تمثل نبعا لا ينضب من أشكال تحول الأشخاص وتغيرهم، وتبرز فيها أهم خاصية تتمتع بها الحكاية الشعبية الإيطالية وهى المرح إضافة للحرص على الحس الجمالي.
من جانب آخر فإن الوحشية المعتادة في الحكايات الشعبية تخضع في الحكاية الإيطالية لقاعدة التوازن والتناغم، فلا نجد الدماء المسفوكة باستمرار، حيث أنه من النادر أن تتضمن الحكاية عناصر من القسوة والوحشية، وإذا تضمنت بعض مظاهر القسوة والظلم الشديد، فسرعان ما تنتهي الحكاية بالقضاء على هذه المظاهر.
الحكايات الشعبية الإيطالية مسكونة بقصص الحب المضطرب الذي يعاني من الكثير من المشاكل، وهى في الغالب تنتقل بين عالمين: «عالم الملوك وعالم الفلاحين» إلى جانب النزعة إلى الخيال والعجائب، والحكمة في الحكاية غير مباشرة، وملخصة دائما في إنتصار الخير على الشر، وغالبا ما تخلو الحكاية من الأحكام الأخلاقية التربوية المباشرة.
الواقع المعاش في إيطاليا في مواجهة أزمة فيروس كورونا بات يحمل تفاصيل إنسانية ربما أكثر تعقيدا مما قد حملته بعض الحكايات الشعبية الإيطالية، وليس على الكتاب الإيطاليين في اللحظة الراهنة سوى إلتقاط تلك التفاصيل الإنسانية ومحاولة سردها ممزوجة بروح الشعب الإيطالي المبدع، الذي طالما صمد في مواجهة الأزمات مستندا إلى تراث إيطاليا المبدعة.