رؤى

الركود الاجتماعي والوحدة والاكتئاب.. أخطار تهدد العالم بعد كورونا

روبن رايت – كاتبة في صحيفة The New Yorker

عرض وترجمة: أحمد بركات

في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض سأل بيتر الكسندر، مراسل شبكة NBC News التليفزيونية، الرئيس دونالد ترامب عن الأضرار النفسية الناجمة عن أزمة كوفيد – 19، قائلا: «المئات خسروا أرواحهم، وعشرات الآلاف أصيبوا بالمرض، والملايين يعيشون في جحيم الخوف.. ماذا تقول للأمريكيين الذين يشاهدونك الآن وهم مذعورون؟» (كان ذلك في بداية انتشار الوباء بالولايات المتحدة ولم يكن عدد الوفيات قد أصبح بالآلاف) أجابه ترامب غاضبا: «أقول أنك مراسل بشع.. هذا ما أقوله. أعتقد أن سؤالك خبيث للغاية، وينطوي على تلميح سئ للشعب الأمريكي».

 

على مدى أسابيع، بدا الرئيس الأمريكي غير واع لحجم التهديدات التي يفرضها فيروس كورونا المستجد، والآن يبدو غير مدرك لحالة القلق العارم التي تجتاح المجتمع الأمريكي، وجاهلا بفسيولوجيا الخوف في هذه الفترة غير المسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث أُغلقت معظم منافذ الحياة، وتوقف الاقتصاد، واضطر الملايين للبقاء في منازلهم، وبدا كل شيء مروعا ومخيفا.

أن تكون وحيدا

تحدثت إلى علماء الأعصاب والخبراء النفسيين عن تأثير تلك الضغوط المتنوعة الكبيرة التي تصاحب كورونا على الجسم البشري، لقد اجتاح فيروس كورونا المستجد العالم في وقت تتضاعف فيه أعداد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم عما كانت عليه من قبل على امتداد التاريخ البشري. برز هذا التوجه في بداية القرن العشرين في الدول الصناعية، وتسارعت وتيرته في ستينات القرن الماضي. وفي الولايات المتحدة، تضاعفت الأعداد على مدى النصف قرن الماضي، بحسب موقع Our World in Data البحثي.

ففي عام 2019، بلغت نسبة الأسر التي تتألف من شخص واحد من إجمالي الأسر في الولايات المتحدة 28%، بعد أن كانت هذه النسبة 23% فقط في عام 1980. وفي العالم الغربي أيضا تمثل ستكهولم عاصمة السويد ذروة هذا التوجه. ففي عام 2012، كانت 60% من الأسر التي تعيش في العاصمة السويدية تتألف من شخص واحد. ويُبرز علماء النفس الفارق الجوهري بين أن تعيش بمفردك من جانب، وأن تكون وحيدا من جانب آخر. فأنا أعيش بمفردي، وليس لدي عائلة، ولا أفكر عادة كثيرا في هذا الأمر. ولكن، بينما يجبرنا الفيروس المستجد على العزلة الاجتماعية، فقد بدأت أشعر بالوحدة، حيث أفتقد القدرة على رؤية الأصدقاء، أو التحاور معهم، أو معانقتهم، أو تمضية الوقت بصحبتهم. وتبدو الحياة الآن أكثر ضحالة، وأقرب إلى البقاء على قيد الحياة منها إلى الحياة ذاتها.

تناقص أعداد أفراد الأسرة أو المقيمين في السكن

محاكاة توم هانكس

لو كان بإمكاننا، للجأنا جميعا إلى محاكاة شخصية توم هانكس في فيلم Cast Away الذي بقي على قيد الحياة وحيدا لمدة أربع سنوات في جزيرة نائية لا تؤنسه وحشتها سوى كرة طائرة رسم عليها بدمه وجه إنسان ومنحها اسم ’ويلسون‘ (أصبحت نسخ «ويلسون» المقلدة شائعة للغاية – مثل دببة «تيدي» – إلى درجة أنها لا تزال معروضة للبيع على «موقع أمازون» وفي «محلات ويلسون للأدوات الرياضية». لكن العلم يبين لنا أن القلق والعزلة يُلحقان أضرارا مادية بالغة بالدوائر الكهربائية في الدماغ، ويزيدان من مخاطر الإصابة بالأمراض عن طريق التسبب في ارتفاع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب وإفراز هرمونات الإجهاد والالتهابات بين الأشخاص الذين قد لا يمرضون بدون ذلك. 

رسم وجه ويلسون على الكرة الطائرة من فيلم «Cast Away»

وتتجاوز آثار الوحدة لفترات ممتدة الصحة إلى الحياة ذاتها. ففي عام 2015، نشرت جوليان لونستاد، عالمة الأعصاب وخبيرة علم النفس في جامعة بريجهام يونج، تحليلا لسبعين دراسة شملت 3.4 مليون حالة لاختبار تأثير كل من العزلة الاجتماعية والوحدة والعيش منفردا. كانت النتائج مهمة في ضوء الجائحة التي يعاني منها العالم اليوم. فقد كشفت الدراسة عن أن الوحدة أدت إلى زيادة معدلات الموت المبكر بنسبة 26%، وأدت العزلة الاجتماعية إلى زيادة معدلات الوفاة بنسبة 29%، والعيش منفردا بنسبة 32%، بغض النظرعن عوامل السن والنوع والثقافة.

«لنأخذ في الاعتبار أن هذا يتعلق بالآثار المزمنة بمرور الوقت، أما ما يعيشه العالم الآن فهو تعطيل شبه كامل لنمط حياتنا المعتاد. نتمنى أن يكون هذا الوضع مؤقتا، وألا يتحول إلى حالة مزمنة»، كما أخبرتني لونستاد. لكنها حذرت بقوة من أن الخطر الحقيقي يكمن في أن يستمر الناس في عزلتهم حتى بعد زوال الخطر. ويستشهد عالم نفس آخر على هذا الخطر بالناجين من الهولوكوست، الذين انتهى بهم المطاف بالعيش في دول متقدمة والنجاح على المستوى المالي، لكنهم لا يزالون يعانون من عقدة تخزين كميات مهولة من الطعام. «عندما نهجر عادة، يكون من الصعب أن نعود إليها مجددا»، كما أوضحت لونستاد. وأضافت: «لذا فكما نشعر بالقلق البالغ حيال الركود الاقتصادي، يجب علينا أن نشعر بالقدر نفسه – أو يزيد – من القلق حيال الركود الاجتماعي، وهو نمط ممتد من الانعزال الاجتماعي يتجاوز مرحلة الوباء المباشر، ويخلف تأثيرات مجتمعية أوسع نطاقا، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يميلون بطبيعتهم إلى التأثر الشديد».

في هكذا حالات، يكون من المفيد أن نتعرف إلى ما يقوله العلم. إن الوحدة ليست مجرد شعور نفسي، وإنما هي تحذير بيولوجي للبحث عن أناس آخرين، تماما كما يمثل الجوع مؤشرا للبحث عن الطعام، والعطش لالتماس الماء، كما تخبرنا لونستاد. وعلى مدى التاريخ كان الارتباط بالآخرين ضرورة وجودية وفريضة حياتية. وفي وقت تفشي جائحة كورونا، فإن إشارة الوحدة قد تزداد بقوة لدى البعض دون توافر وسائل للتقليل من حدتها أو تسكين تأثيراتها.

خطر الإكتئاب

إن تشابك تحديات متعددة في فترة أزمة كوفيد – 19، سواء على مستوى الصحة، أو العمل، أو الحياة المنزلية، أو الحصول على الموارد قد أنتج تخمة من الظروف التي تضاعف خطر الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة المرتبطة بمناطق الحرب والعنف الجسدي. فحوالي نصف الاشخاص الذين تأثروا بإعصار كاترينا، الذي ضرب ولاية لويزيانا وساحل الخليج في الولايات المتحدة في عام 2005، قد عانوا من اضطرابات نفسية وصحية نجمت عن فقدهم منازلهم وأحبابهم، أو جراء عدم الشعور بالأمن المالي، كما أخبرتني د. سو فارما، المدير الطبي المؤسس لبرنامج مركز التجارة العالمي الصحي والنفسي. «ما يختلف اليوم عن وقت هجمات 11 سبتمبر أو إعصار كاترينا، أو تسونامي في اليابان هو أن هذه الأحداث كان لها نهايات محددة، أما في حالة فيروس كورونا فإننا لا نرى نهاية تلوح في الأفق، لذا فإن الأمر أقرب إلى الصدمة».

د. سو فارما، المدير الطبي المؤسس لبرنامج مركز التجارة العالمي الصحي والنفسي

لكن صدمة تفشي وباء كورونا تزداد تعقيدا لأن الناس فقدوا منافذهم المعتادة (الأشخاص الآخرون) – للذهاب إليها. «إن قوة اللمس تطلق «الأوكسيتوسين»، وهو هرمون عناق طبيعي يمكن أن نراه في تلك الحالة من الارتباط العاطفي بين الأم ورضيعها، أو عند النشوة الجنسية، وغيرها»، كما تضيف فارما. وفي الظرف الراهن، لا يحصل الناس على نفس المستوى من الأوكسيتوسين الناتج عن  التواصل البشري.

وتبين الدراسات أن النتائج الصحية للوحدة طويلة الأمد تعادل تدخين 15 سيجارة يوميا، كما تؤكد فارما. كما يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكتة الدماغية، والسمنة، والموت المبكر. وخلصت دراسة أجرتها كلية الطب بجامعة ولاية فلوريدا في عام 2018 إلى أن الوحدة ترتبط بزيادة الإصابة بالخرف بنبسة 40%. كما تزيد من مخاطر الإصابة بالاكتئاب السريري، الذي يمتلك سجلا مفزعا من المخاطر الإحصائية الخاصة به. فنوبة واحدة من الاضطراب الاكتئابي الرئيسي (أي أسبوعين أو أكثر من الحالة المزاجية المكتئبة، و خمسة من تسعة أعراض معروفة) تزيد من مخاطر الإصابة بنوبة ثانية بنسبة 50%. وتزيد نوبتان من الاكتئاب من احتمالات الإصابة بثالثة بنسبة 75%. ويصبح من الصعب كسر هذه المتوالية الاكتئابية، كما توضح فارما. وتشمل هذه الأعراض تدني الحالة المزاجية، وفقدان الاهتمام بالأنشطة التي تجلب المتعة، والشعور بالذنب، وانخفاض الطاقة، وضعف التركيز، ومشكلات الشهية وتغير الوزن، والأرق، والتباطؤ.

وتجبر الأوبئة الدماغ البشري على عمل عكس ما تعلمه عبر آلاف السنين للبقاء على قيد الحياة. في هذا السياق يخلص جيمس كون، عالم الأعصاب في جامعة فيرجينيا إلى أن الدماغ البشري له نطاق ترددي محدود لحل المشكلات وتنظيم العواطف؛ ومن ثم فإن تنشئتنا الاجتماعية المكثفة تؤدي غرضا آخر غاية في الأهمية، وهو توسيع ذلك النطاق؛ حيث يعالج الدماغ جميع أنواع المعلومات بشكل أكثر كفاءة في وجود أشخاص آخرين – حتى لو كانوا على مسافة ستة أقدام – مما يكون عليه في حالة الوحدة، أو في حالة تفاعله مع شخص من خلال شاشة أو عبر الهاتف: «إنه مبدأ بيولوجي يسمى بـ ’اقتصاد الفعل‘». كما يكشف «كون» عن أن تشبيك الأيدي مع الأشخاص الذين نحبهم يمكن أن يقلل من إحساسنا بالقلق، الذي يتسبب في زيادة الاستجابة للتوتر، كما يخفف من حدة النشاط في «إشارات الألم العصبي»، مما يؤدي إلى تأثير تسكيني للألم يماثل المسكنات الدوائية. ويهدئ التلامس أيضا من النشاط العاطفي للدماغ، لكن التواصل عبر الفيديو – على سبيل المثال – يحتاج إلى دائرة كهربائية دماغية إضافية للحصول على التأثير نفسه. «التواصل عبر الشاشات قد يساعد، لكنه يتطلب مجهودا أكبر من الدماغ من ذلك الذي تبذله في حالة الحضور المادي»، كما يبين كون.

جيمس كون، عالم الأعصاب في جامعة فيرجينيا

ربما يكون هناك نتيجة ثانوية إيجابية واحدة ووحيدة لهذا الوباء. «أعتقد أنها نعمة كبرى أن يضرب هذا المرض الإنسانية في العالم الغربي»، كما أكد لي أمي روكاتش، أستاذ علم النفس الإكلينيكي في جامعة يورك بكندا الذي قال إنه على مدى القرن الماضي، ركزت الحياة البشرية بصورة متزايدة على الأموال والممتلكات المادية، التي أدت – خاصة في ظل التقدم التكنولوجي المذهل – إلى إهمال العلاقات الإنسانية. والآن، ونحن عالقون في المنازل، يصبح التفاعل مع الآخرين بأي وسيلة متاحة هو أفضل طريقة للمحافظة على صحتنا النفسية والبيولوجية، كما يؤكد روكاتش. ويضيف: «الوحدة تجربة تٌفرض علينا دون اختيار منا، وهي دائما مؤلمة. وعندما نخرج من عزلتنا لا أعتقد أن المجتمع سيتغير. إن النوع الإنساني بوجه عام بطيء التعلم؛ فقط سنخرج من عزلتنا، ونصيح: ’يا إلهي، لقد فعلت كل الأشياء الجيدة‘. إن وجودنا معا ٍقد يعزز روابطنا الشخصية، ويؤكد أن التواصل البشري يمكن أن يساعد في حماية صحتنا والمحافظة على عقولنا».

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock