مع مطلع إبريل من عام 1517م دارت معركة حامية الوطيس بين الغازي العثماني سليم الأول وسلطان مصر طومان باي استمرت يومين وانتهت بهزيمة طومان باي وفراره إلى البحيرة حيث لجأ إلى أحد العربان الذي أقسم له على الولاء، ثم سرعان ما وشى به إلى سلطان العثمانيين.
النهاية الحزينة
كان السلطان العثماني سليم الأول الشهير بسليم السفاح، يعلم أنه لن يقر له حكم في مصر ما لم يتمكن من القبض على طومان باي الذي أقسم أن يعود للقتال ذات يوم، بعد القبض عليه سيق طومان باي إلى معسكر السلطان سليم بإمبابة، ودار بينهما حوار اتسم بالشجاعة والإصرار على المقاومة من جانب طومان باي كما ذكر المؤرخ ابن زنبل.
وبحسب ابن زنبل، فإن الأميريْن خاير بك وجان بردي الغزالي خشيا على نفسيهما من بقاء طومان باي حيا، فألحا على السلطان سليم بقتله لأن حكم العثمانيين في هذه البلاد سيظل محفوفا بالمخاطر ما عاش طومان باي، وفي يوم الاثنين 21 ربيع الأول سنة 923 هـ الموافق 15 أبريل 1517 م أمر السلطان سليم بأن يعبروا بطومان باي إلى القاهرة، «جاؤوا بالبغلة وأركبوه علیها وقیدوه»، حتى وصلوا إلى باب زويلة، وهو أحد أبواب القاهرة الرئيسية المحاطة بالأسوار، هناك أخذه جلادوه ليشنقوه أمام الجموع المذعورة.
صورة متخيلة لموكب طومان باي
لكن الحبل الذي كان سيُشنق به طومان باي انقطع، قيل انه انقطع مرتين وقد ارتأتها جموع الجماهير لونا من ألوان الكرامة للسلطان المجاهد، كأنما تعزف السماء عن قبول قتل السلطان.
يقول بن إياس «كان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر.. وتطلع طومان باي إلى «قبو البوابة» فرأى حبلاً يتدلى، فأدرك أن نهايته قد حانت.. فترجل.. وتقدم نحو الباب بخطى ثابتة.. ثم توقف وتلفت إلى الناس الذين احتشدوا من حول باب زويلة.. وطلب منهم أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأها معهم وقال للجلاد: «اعمل شغلك». وشنقوه بعد أن انقطع حبل مشنقته مرتين»
مشهد إعدام طومان باي من مسلسل ممالك النار
ويواصل ابن إياس وصفه المؤثر لهذا المشهد بقوله «فلما شنق وطلعت روحه صرخ عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف»، أما ابن زنبل الرمال فيصف الواقعة بقوله: «كان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام وبكت عليه الأرامل والأيتام»
مشهد ما بعد إعدام طومان باي من مسلسل ممالك النار
ويقول بن إياس فى بدائع الزهور .. أن المصريين ظلوا فى حداد على الأشرف طومان باى لــ40 يومًا مما أثار غيظ سليم الأول ودفعه إلى إباحة المحروسة لجنوده لمدة 21 يوما تنكيلًا بالشعب على وفائه لـ طومان باى الذي بقيت جثته معلقة لثلاثة أيام.
رسم لإعدام طومان باي
خيال الظل يعرض «شنق طومان باي»
لكن الطريف أن واقعة الإعدام التي لحقت بسلطان مصر – على وحشيتها – صارت عرضا من عروض فن «خيال الظل» وهو فن يقوم على تحريك دمى تصنع من الجلود المجففة متباينة الألوان، تكون في أطوال متفاوتة قد تصل إلى نصف متر، ويتم تحريكها باستخدام عصيّ من وراء ستار يكون من القماش الأبيض، ولأن الضوء يسلط على العرائس فإن ما يراه المتفرج هو ظل هذه الدمى.
فن «خيال الظل»
أما محرك الخيالات فيكون شخصاً مختصاً في هذا المجال يطلق عليه «مخايلي» أو «محرك الشخوص»، وقد شكل خيال الظل في العصر المملوكي أبرز وجوه الترفيه في الحياة لعامة الناس والسلاطين أيضاً، وكانت له مسارح مختصة كما كان بعرض في المقاهي والأماكن العامة وحفلات الزواج والختان.
وقد شاع هذا الفن في البلدان العربية ووصل مصر بعد سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، عقب الغزو المغولي، حيث تشير المصادر إلى أن من نقله إلى مصر هو طبيب العيون «ابن دانيال الموصلي»، وهو طبيب وفنان عاش في العصر المملوكي بالقاهرة، اشتهر ببراعته في تأليف تمثيليات خيال الظل وتصوير حياة الصناع والعمال وعامة الناس باللهجات الخاصة بهم.
عمل من اعمال ابن دانيال الموصلي
انتشر هذا الفن في مصر انتشارا واسعا، ووصل المصريون في مهارة لعب «خيال الظل» حدا غير مسبوق، وقد تغزل أحد لاعبي خيال الظل المصريين في القرن الثالث عشر الميلادي في فتاة حسناء بقوله
أرتنا خيال الظل والستر دونها
فأبدت خيال الشمس خلف غمام
تلاعب للأشخاص من خلف سترها
كما لعبت أفعالها بأنام
خيال الظل المصري.. في اسطنبول
ويبدو أن تشخيص المصريين لواقعة إعدام سلطانهم طومان باي قد نما إلى علم سلطان العثمانيين سليم الأول، أو أن أحد اللاعبين قد قرر مداعبة الخيال المريض والرغبة في التفشي لسلطان العثمانيين، فقبل رحيل سليم عن القاهرة، طلب أن يشاهد عرضا من عروض خيال الظل المصرية الشهيرة. فكان مشهد شنق طومان باي موضوع العرض، وحين انقطع الحبل أكثر من مرة في العرض الذي حاك الواقعة الحقيقية، كانت ضحكات السلطان العثماني تتعالى، ويطلب من مقدم العرض التكرار حتى منحه مائتي دينار وكساه عباءة مخملية تشريفا له، وقال له «عندما نرتحل إلى اسطنبول، ارحل معنا حتى يشاهد ابني هذا العرض»، كان ابنه سليمان سيخلفه على العرش وسيرث كل ما انتزعه سليم من المماليك.
سليمان سليم الأول
لكن يبدو أن هذا اللاعب لم يكن الوحيد الذي تم اصطحابه من مصر إلى اسطنبول ليقدم موهبته في تقديم عروض خيال الظل، فبحسب المؤرخين فإنه في أعقاب تولي الأمير سليمان لعرش سلطان العثمانيين فقد خيًر ستمائة من اللاعبين الذين استقدمهم أبوه من مصر بين البقاء في أسطنبول أو الرجوع إلى حيث أتوا من مصر.
وهو ما يؤكد أن الأتراك العثمانيين عرفوا خيال الظل من المصريين، وقد أقبل العثمانيون على مشاهدة هذا الفن إقبالا عظيما لاسيما في ليالي رمضان، وقلما خلت منه حفلة عرس أو ختان، ولما احتفل السلطان محمد الرابع بختان ابنيه الأميرين مصطفى وأحمد كان خيال الظل يمثل بهجة الحفلة.
السلطان محمد الرابع
وعندما زوج السلطان أحمد الثالث ابنته أمة الله عثمان باشا، شاهد المدعوون إلى حفل الزواج خيال الظل في أماكن عدة بالحفل، وكان لبعض هؤلاء اللاعبين حظوة خاصة عند بعض السلاطين مثل «حسن زاده» الذي كان يلعب بالخيال مرتين في الأسبوع أمام السلطان مراد الرابع، ويقال أنه كان واسع المعرفة بالعربية والفارسية لطيف النظر في الموسيقى، وقد أراد السلطان مراد أن يكافىء أحد هؤلاء اللاعبين على حسن صنيعه فأسند إليه منصبا رفيعا، وكتب على قبر أحدهم.
«إن الستار هبة من الله وهبها للفنان، حتى يظهر عليه مخلوقات الرحمن، ويجعل من المظهر وسيلة إلى المخبر»
السلطان أحمد الثالث