يبدو أن السلفيين رأوا في جائحة كورونا ملاذًا من الممكن أن يركنوا إليه لتثبيت أفكارهم غير المنطقية، والتدليل على قناعاتهم الدينية الذاتية، حتى لو تعارضت مع العقل والمنطق والعلم؛ ففي بداية انتشار جائحة فيروس «كوفيد – 19»، الشهير بفيروس كورونا، في الصين جزموا بأنها بمثابة عقاب من الله لأولئك الذين يضطهدون مسلمي الإيغور، على الرغم من أن أعدادا من الإيغور أنفسهم قد أصيبوا بهذا الفيروس، ثم عندما أخذت الجائحة في الانتشار حول العالم كله، بما فيه من دول إسلامية تطبق الشريعة، أصرّ السلفيون على التعامل مع الأمر بانتقائية تنمّ عن تناقض منطقي فجّ، فاعتبروا نزول تلك الجائحة بالمسلمين كنوع من الابتلاء والمحنة التي يجتازها المسلم ليختبر الله قوة إيمانه وصبره، بل وأكثر من ذلك، فإن كل من مات بسببها يُعدُّ شهيدا قياسا على موتى الطاعون «حديث نبوي»، واتفقت جماعات الإسلام السياسي معهم في ذلك التفسير؛ استغلالا للعاطفة الجمعية للبُسطاء الذين لا يعرفون أنّ كورونا مجرّد فيروس ككل الفيروسات والأمراض التي لا تميّز بين مسلم وغير مسلم.
وبمرور الوقت، أشاع العقل السلفي أن الوضوء وارتداء الحجاب يوفر حماية كافية ضد الإصابة بهذا الفيروس، في مفارقة منطقية وعقلية جدّ مدهشة؛ فالوضوء يكون بالماء فقط وليس بالكحول أو المطهرات الكيميائية، ولا نعرف رأيا طبيا حول العالم كله يؤكد أن الماء وحده يقضي على فيروس كورونا، كما أن ارتداء الحجاب أو عدم ارتائه لا دخل له بالأمر من قريب أو من بعيد؛ وإلا لأمرنا الرجال بارتدائه أيضا، مع العلم بأن نسبة إصابة الرجال بهذا الفيروس أعلى بكثير من نسبة إصابة النساء!
https://youtu.be/wvVUkBxVbik
الخوف السائل
لم يكشف هذا الفيروس أزمة العقل السلفي أسير الماضوية والنصوص الظاهرية فقط، بل إنه يكشف أيضا أنماط التفكير اللاعقلاني المخبوءة في المجتمعات التي لا تعطي للعلوم التجريبية حقها، تماما كما لا تعطي للمنطق ومعارفه حقه، فتظهر سمات التفكير السلفي الذي ينزع إلى الماضي، محاولا اللواذ به، مستشعرا أن فيه خلاصًا ونجاةً من كل ما يحيق بالإنسان، ولا شيء يحيق بالإنسان في هذا الوقت أكثر من الخوف، أو إن شئت فمن الممكن أن نسميه «الخوف السائل»، وهو – كما يعرّفه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان – حالة تتحول فيها المخاوف إلى ما يشبه الحالة السائلة، بل أقرب إلى الحالة الغازية، حيث يتسرب الخوف، ويسيل وينتشر حولنا في كل مكان «زيجمونت باومان، الخوف السائل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص 137»، ومع سيولة الخوف، واستشعار الإنسان بأن لا أمان في الكون، يجد العقل السلفي ملاذه في تكبيل هذا الإنسان بحبال الماضي، فيُوهمه بأن نجاته وخلاصه وأمنه في رجوعه إلى الماضي، والماضي ها هنا – بحسب العقل السلفي – هو ما كان عليه السلف في القرون الثلاثة الأولى، أي أنّ هذا العقل يستثمر في الخوف، يتّكئ عليه، يستثيره في طيّات نفس الإنسان الخائف من أن تصيبه تلك الجائحة، وكلما تأخرت مراكز الأبحاث العلمية ومختبراتها حول العالم، ولا سيما العالم المتقدِّم، في التوصُّل إلى علاج أو مصل «فاكسين» مضاد لهذا الفيروس، كلما كان استثمار العقل السلفي في الخوف رائجًا، إذ يتخذ من ذلك تُكأة للتدليل على أنّ الإنسان الغربي مهما وصل إلى مستوى رفيع من العلم إلا أنه يبقى عاجزًا أمام أصغر الكائنات اللامرئية التي خلقها الله، وأنه مهما بلغ من قوة وعلم فلن يستطيع أن يُناصِب الله القوة والجبروت، وهو تفكير سقيم لا يسلَم من معضلة كبيرة، فما الحل إذا ما توصّلت مراكز الأبحاث والمختبرات العلمية الغربية إلى علاج أو فاكسين مضاد لفيروس كورونا؟! بماذا سيكون ردّ العقل السلفي على ذلك؟! وهل إذا ما تمّ هذا الأمر سيكون العقل العلمي الغربي قد ناصَب الله العداء؟! ولماذا لا يدرِك العقل السلفي أن الله لا يحتاج إلى أن يُصارِع أحدًا من خلقه العداء،؛ إذ أين الضربة القاضية عندئذٍ؟! ثم أين تنزيه الله عن ذلك كله، أفيليق بجلاله وقدرته أن يُوضَع في مجابهة خلقه مهما بلغت قوتهم ومهما بلغ جبروتهم العلمي؟! ياله من تديُّن ساذج يجعل البشر أندادًا لله.
تناقضات العقل السلفي
إنّ تناقضات العقل السلفي جدّ خطيرة؛ فهي لا تفيد الدين في شيء، كما أنها تزلزل بالأساس إيمان المسلم العادي، الذي إذا ما أعمل عقله، وتسلّح بعلم المنطق، سيكتشف أن العقل السلفي مجرّد هواجس وأشتات أطروحات دينية تقليدية مغرقة في اللاعلم واللامنطق، تستغل – فقط – هشاشة النفس البشرية أمام أي جائحة تلمّ بها، فيظهر التفسير الديني غير المقنِع كوسيلة دفاعية يتسلّح بها الإنسان للسيطرة على ما يعتمل في نفسه من خوف وتصاغُر أمام قوى الطبيعة، أي أنّ ذلك التفسير السلفي ما هو إلا وسيلة للسيطرة على النفس غير المطمئنة الخائفة من آثار تلك الجائحة، وإفراغ حمولتها ثقيلة الوطأة على النفس البشرية، خصوصا مع الإلزامات القانونية والصحية بالعُزلة والتباعد الاجتماعي، ما يشكّل انهيارا نفسيا للإنسان، فلا يجد وقتذاك سوى دعوات العقل السلفي المغرق في الماضوية، واستجلاب أفكار هشّة من بطون التاريخ، محاوِلا بها الاستحواذ على نفس الإنسان المسلم، وكأن جائحة «كوفيد – 19» عندما ألمّت بالعالم إذا بالعقل السلفي يستثمرها لصالحه، ولا سيما أنه لم يقدّم حلا إسلاميا لها!
هل العلم ضد الدين؟
إن العقل السلفي يجعل من العلم عدوا لله، كأن بين كليهما صراعا مأزوما، وهو ما يجعل من كثيرين الآن، في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية، يعاندون العلم ظنا منهم أنهم ينتصرون لله، فتراهم يقيمون صلوات الجماعة خارج المساجد، التي أُغلِقَت كإجراء احترازي يمنع فيروس كورونا من الانتشار، فيقيمون الجماعات في الحدائق العامة، أو في الساحات، أو فوق أسطُح البيوت والعمارات، ولسان حالهم: إننا نطيع قانون الله لا قانون العلم الحديث العاجز حتى الآن عن اكتشاف دواء أو لقاح مضاد لهذا الفيروس، وما ذلك إلا لأن العقل السلفي استثمر خوفهم «السائل» من هذا الفيروس، فجعلهم يلوذون بمنطق التدين، فتظهر ثنائية الصراع الزائف بين العلم والدين، الذي بسببه تجد الخرافة بُغيتها في مجتمعاتنا، أو بتعبير آخر، يجد الجهل المقدَّس ضالته، الأمر الذي يحول دون تكوين تفكير علمي وفكر عقلاني يهتدي بالمنطق وأصوله، وهو ما يجعل العقل السلفي يشيع أن هذا الفيروس قضاء من الله، وأن مواجهته لن تكون إلا بمشيئة الله التي لا ينفع معها حظر ولا إعلان حالة طوارئ، لذلك لم يكن غريبا أن يخرج المئات في مدينة الإسكندرية وهم يرددون «الله أكبر»، ويحملون مجسَّما للكعبة، كأنهم يتفاخرون بجهلهم المقدّس، معلنين عن رفضهم الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بتطبيق الحظر والتباعد الاجتماعي، باعتبار ذلك كله، من وجهة نظرهم، تحدّيا لإرادة الله، وتحدّيا لقضائه وقدَره!