في محاولة للهروب من حاضر مؤلم ومستقبل مظلم مجهول، زاد من ظلامه انتشار فيروس كورونا المستجد الذي لم تصل معامل الأبحاث العالمية إلى لقاح أو علاج معتمد له حتى كتابة هذه السطور، في ظل سيطرة تلك الحالة من الهلع والرعب، اختارت مجموعات متباينة من البشر أن تلحق بقطار الماضي، عسى أن تجد في محطاته البعيدة براحا يبدد تلك الوحشة التي حطت على البشرية ولا يعلم أحد لها نهاية.
ذكريات الأيام الحلوة
مع كل بيان يومي عن عدد الإصابات والوفيات بالفيروس المستجد، تدور في الأذهان تساؤلات من عينة «هل سنتحول في يوم ما إلى رقم في تلك البيانات؟.. وهل سيخطف الموت أقرب الناس إلينا.. وماذا سنفعل حينها؟.. ومتى وكيف سينتهي هذا الكابوس وتعود الحياة التي كنا لا نطيقها إلى ما كانت عليه؟».
تحت حصار تلك الحالة الكئيبة، يمضي بك دون أن تدري كيف قطار الزمن، يتسلل في بطء حتى يحط في إحدى محطات العمر البعيدة، تلك التي لم تكن تعرف فيها للمسئولية معنى بعد، تنزل من القطار فتجد نفسك وسط منزل الجدة وفناء المدرسة وساحة اللعب بالشوراع الخلفية رفقة أصدقاء مرحلة البراءة، تستدعون برفق معا ما فات فترتسم الابتسامات، ترفعون الحواجز شيئا فشيئا فتتعالى الضحكات لتنتحى جانبا هموم الحاضر ومخاوف المستقبل.
منذ أن فرضت الحكومات إجراءات العزل الاجتماعي إثر انتشار «كوفيد 19» مطلع مارس الماضي، دُشنت على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من «جروبات» أصدقاء الصبا والطفولة، فهذة مجموعة «ذكريات من زمن فات»، وتلك «الأيام الحلوة»، وأخرى سماها أصحابها على أسماء المدراس والأحياء والقرى ودفعات الدراسة المختلفة.
حملت تلك «الجروبات» المشاركين فيها إلى محطات العمر السهلة التي لم تكن مثقلة بهموم المسئولية، فصارت أشبه بعربات قطار الزمن الذي يحمل أصحابه إلى مساحات خالية بلا توتر أو خوف أو انقباض من المجهول، اجتروا فيها ذكرياتهم البعيدة العذبة، وتبادلوا فيها ما استجد، هربوا فيها من أزمات الأسرة وهموم العمل، ومع الوقت تحولت إلى ساحات فضفضة وبوح واسترداد لمشاعر البراءة المفقودة في ركام الحياة.
في «جروبات» الحنين إلى الماضي ومن واقع سيل الرسائل والدردشات التي تستمر على مدار اليوم، يكسر الأعضاء وحشة العزل ويقتلون ملل ساعات الحظر، فيحققون درجة من درجات «الروقان» التي تعيد إليهم الاتزان والاستقرار والسلام النفسي الضائع.
https://www.facebook.com/veryoldmemories/posts/2532688033626157?__xts__[0]=68.ARAWbUCrtIFPoIf6P1nSeGeARnDa_T2XUSoFf-NHq3MGWTtmPQ6gbIkFAORdoM-e9COEuA8K8WkPORUC717Jbf5Cg7mUVMBRN3c8nZ7w3A-DkDC6EIwqBMZ6r91CKvWNpDcjPmONBwV00lAx446QDrUk-XeXNfaBqwVkQdrqSolpstRnh5wif7wzTJk4hXYaJcLY97Lhw5kIZMNHknAGOAIXP64p4CdGzOVLSUBwNBLyCjKqARIaMXOu646QaYsWgTwRV-zThYwTiLntCkNTloIslVszICRLM42lH4TC368hxBb3vbMIP4z6OtEl56RWX7j4I86xAXDBiVu4EcI1SSDCYiqmA0VmW27pyopx4YxQmKvTdv8r92UnedgzdGOY29T57mf34-tGLuNWREQES87V38Whu94hleUasW7naMv3LGMt0lh0fF5hSM50aSZzscbQdz1a1T_dqAITEMQAVoJ3YjDEKxfidp93G9zxbXJF2TvJP7GQqjqyWvgC&__tn__=-R
الشوق إلى الماضي
عرف علماء النفس والاجتماع تلك الحالة بـ«النوستالجيا» أي «الحنين إلى الماضي»، والتي كانت تصنف حتى نهايات القرن السابع عشر باعتبارها «مرضا عصبيا» اكتشفه طالب الطب السويسري «يوهانس هوفر» بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال الأجراء السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل الأرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر الهضم، وتطور الأمر إلى تجنب المواقف الاجتماعية، وأصبحوا غاضبين، وغير قادرين على التكيف مع الواقع بسبب عدم توقفهم عن التفكير في منازلهم، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم.
واعتبر هوفر هذا الحنين إلى الوطن «مرضًا دماغيًا لقضية شيطانية تؤثر على عقول هؤلاء العمال بأفكار عن الوطن، مما يجعلهم مرضى من الشوق»، وأطلق عليه مصطلح «نوستالجيا»، أي «ألم العودة إلى الوطن»، من اليونانية (nóstos) العودة إلى الوطن و(álgos) (ألم).
خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، أخذ استخدام الكلمة يتوسع تدريجيا، وبحلول نهاية القرن أصبحت مصطلحا يعبر عن التعلق المرضي بأي مكان، ثم بأي أزمنة بعيدة أو أشخاص، ويقول ماركوس ناتالي الباحث في أدب أمريكا اللاتينية، في أحد أوراقه البحثية: «اعتبار هوفر المصطلحات الموجودة سلفًا غير كافية، وشعوره بحاجة إلى خلق مصطلح جديد، يؤكد أن ظاهرة جديدة قد بدأت: طريقة جديدة للشعور، أو طريقة جديدة للتفكير في شعور قديم».
بمرور الوقت، أصبح هذا المرض مرتبطًا بتجمعات بشرية داخل أوروبا وخارجها كانت تطالها الحداثة شيئًا فشيئًا، لكن بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توقف تشخيص هذه الحالة الطبية حتى بين السكان المهمشين الذين كانت تنتشر في أوساطهم، «هنا انتهت حياة الكلمة في المجال الطبي، فمجموعة الأعراض التي كانت مرتبطة بها في السابق، أُدرِجت تحت فئات تشخيصية أخرى، وأصبحت مرتبطة في وقت لاحق بالاكتئاب» يقول ناتالي.
وفي منتصف القرن التاسع عشر عرف علماء النفس «النوستالجيا» على أنها آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية والمزاجية خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف أو عند الشعور بالوحدة، وأشاروا إلى أن الحنين للماضي مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي.
أخيرا استقر الأمر إلى أن النوستالجيا هي عملية انحيازية تستدعي لنا الماضي المثالي وتنقيه من كل اللحظات الحزينة، نتذكر من خلالها اللحظات والمواقف السعيدة، ونستبعد ما دونها، هذه الآلية يستخدمها العقل لرفع معنويات الشخص وحمايته من الانهيار النفسي أو الدخول في حالة اكتئاب، ألا أن بعض الآراء اعتبرت أن الإفراط في تلك الحالة يعد من علامات الاكتئاب، فهي تمثل حالة من حالات رفض الحاضر المؤلم، والضعف أمام الالتزام بمتطلبات المستقبل.
النوستالجيا تجلب الدفء
في عام 2012 نشرت مجلة إيموشن «Emotion» الأمريكية المختصة في علم النفس، دراسة لعالم النفس تيم فيلدشوت الذي أجرى مع فريقه سلسلة من التجارب لفحص العلاقة بين النوستالجيا ودرجة الحرارة، حيث تم وضع أشخاص في غُرف بدرجات حرارة متفاوتة، وطُلب منهم ملء استبيان حول مدى شعورهم بالحنين تجاه أشياء حدثت لهم في الماضي.
في واحدة من التجارب، شعر الأشخاص في الغرفة الباردة بالحنين أكثر من أولئك المتواجدين في الغرف الأخرى.
وعلى صعيد آخر، طُلب من مشاركين تذكُّر حدث ماضٍ يجلب الحنين و طلب من آخرين تذكُّر حدث عادي، ومن ثَمَّ تقدير درجة حرارة الغرفة، فأولئك الذين شعروا بالحنين إلى الماضي قد وصفوا درجة الحرارة بأنها أكثر دفئًا. وفي تجربة أخرى، تمكن المشاركون الذين تذكّروا أحداثًا ماضية تجلب الحنين أن يُبقوا أيديَهم في ماءٍ بارد مدةً أطول من أولئك الذين تذكروا أحداثًا عادية.
استنتج الباحثون في تلك الدراسة التي ترجمها ونشرها موقع «الباحثون المصريون» أنَّ النوستالجيا تجعلنا نشعر بالتحسن في ظل الظُروف غير المريحة، وهذا لا يقتصر على البرد فقط، فعلى سبيل المثال، يروي الناجون من معسكرات الاعتقال قصصًا عن كيف ساعدهم تذكُّر وجبات طعام جيِّدة تناولوها في الماضي على تجنب الجوع في الوقت الحالي، وبالتالي الشعور بالنوستالجيا من وقت لآخر ليس سيئًا.
أكثر من ذلك ما توصل إليه عدد من العلماء في دراسات وأوراق أخرى، فالنوستالجيا لا تتركنا عالقينَ في الماضي وترفع من روحنا المعنوية فقط، بل تحسن من حالتنا المزاجية، وتعزز من سلامتنا العقلية، كما ذكر الباحث قسطنطين سيديكيس في ورقة بحثية أعدها لجامعة ساوث هامبتون ونشرتها مجلة إيموشن الأمريكية في عام 2015.
فالنوستالجيا، وفقا لتلك الورقة، تعزز من ثقتنا بأنفسنا، وتعيد لمَّ شملنا بالأشخاص الذين انطوت عليهم ذكرياتنا، فنعيد الاتصال بهم مرةً أخرى، هذا ما تم ملاحظته في عدة تجارب أقيمت على متطوعين من أمريكا، وبريطانيا والصين، عندما طُلِبَ منهم الاستماع إلى أغانٍ قديمة، والتحدث عن ذكرياتهم المقربة.
وعند سؤال المتطوعين بعدها عن مشاعرهم، أجاب أغلبهم: «أشعر أني على تواصلٍ مع الماضي، وأني احتفظت بعدة جوانب من شخصيتي رغم مرور كل هذه السنين»، وهو يحسن من أدائهم النفسي.
وأفادت الدراساتُ بأن 79% من الناس يشعرون بالنوستالجيا مرةً واحدةً على الأقل في الأسبوع، ولا سيما عند الذهاب إلى أعياد الميلاد أو حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات التي تجتمع فيها العائلةُ والأصدقاء.
وفي دراسة أُجريت على 266 مشاركاً، طلب الباحثون من المشاركين قضاء بضعةِ دقائقٍ في التفكير والكتابة عن حدث إيجابي من ماضيهم، وطُلب منهم بعدها مباشرةً الإجابة عن أسئلة تُقيّم مدى استمتاعهم بالحدث عندما وقع، وكيف يشعرون تجاهه؟
فوُجد أنه كلما ازداد استمتاع المشاركين بحدثٍ ما؛ كلما ازداد شعورهم بالحنين إليه مستقبلاً، وتعطي هذه التجربة دليلاً أولياً عن مدى أهمية الاستمتاع باللحظة لتكوين ذكرياتٍ تمنحك شعوراً بالنوستالجيا لاحقاً.
نوستالجيا الغناء
درست أبحاثُ أخرى قدرة الموسيقى على إثارة الحنين إلى الماضي، فجعلوا المشاركين يستمعون إلى أغنيتين، الأولى قديمةٌ تذكرهم بماضيهم، والثانية من الزمن الحالي، ولاحظوا مستويات تفاؤل عاليةٍ لدى الأشخاص الذين استمعوا إلى الأغنية القديمة.
وأظهرت تلك الدراسات أن الحنينُ إلى الماضي يزيد من تقدير المرءِ لنفسه؛ ما يزيدُ من التفاؤل، وتوصلت إلى أن هذا الحنين يسهل من رسم تصورات مستقبلية أكثر إيجابية، فذكريات الماضي، وفقا لتلك الدراسات تساعد على الحفاظ على احترام الذات في الزمن الحاضر للشخص، وهو ما يمكن أن يساهم في النظر إلى المستقبل نظرةً أكثر إشراقا، وهو ما يساعد الأفراد على مواجهة الأزمات النفسية التي قد يتعرضون لها.
إن محاولات البعض إعادة تركيب الماضي، واجترار الذكريات، خلال مرحلة العزل المنزلي التي فرضت على البشرية مؤخرا بتدشين «جروبات» لأصدقاء محطات العمر البعيدة، قد تكون محاولة للهروب من مخاوف الحاضر والمستقبل، لكنها ستكون أيضا محطة للتأمل والسلام النفسي وقد تدفع أصحابها إلى إعادة النظر في كثير من خطط المستقبل، وتجعلهم أكثر قدرة على مواجهة أزمات الحياة بعد اجتياز الأزمة الحالية.