في عام 132 من الهجرة 750 ميلادية، زالت الدولة الأموية، وانتهى ذكر بني أمية على يد العباسيين. فعندما علم مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، بخبر مبايعة أبي العباس السفاح في الكوفة بالعراق، جمع رجاله وهب للدفاع عن ملكه وسلطانه، وخاض قتالا ضاريا ضد العباسيين، انتهي بهزيمته، وعقد مروان بن محمد العزم على الهرب، وكان بصحبته الكاتب السياسي الأول لدولة بني أمية، «عبد الحميد الكاتب»، الذي كان مقربا منه، يلازمه في أي مكان يحل به، فلما ضاق بهما الحال فرَّ مروان بن محمد من أرض المعركة، وظل ينتقل من بلد إلى آخر حتى انتهى به الحال إلى مصر. بينما اختفى عبد الحميد الكاتب هاربا أيضا، ولم يجد من يثق به ليهرب عنده أفضل من تلميذه وصديقه عبد الله ابن المقفع.
التلميذ والاستاذ.. والوفاء النادر
كان عبد الحميد الكاتب صديق ابن المقفع وأستاذه في الوقت نفسه، كان يقال إن عبد الحميد الكاتب، يعد أبا للكتاب العرب، وأستاذا للكتابة العربية، وإن الكتابة ارتقت على يده، وبالأخص فن كتابة الرسائل. تتلمذ ابن المقفع على يديه، وتعلم منه كيف يخط بلسان عربي مبين، مستخدما ريشة من البوص، علمه أستاذه كيف يبريها، ويسويها، ويقطعها قطعا مائلا، ويشق سنانها شقا لا يكاد يري.
كان عبد الله بن المقفع يعمل كاتبا لدى حاكم العراق في الدولة الأموية، ولما اكتسحت جيوش العباسيين العراق، قتلوا حاكمها وأهله فيمن قتلوا من الأمويين ــ ونشير هنا أن العباسيين لم يتركوا أمويا واحدا على قيد الحياة بعد استيلائهم على الحكم ــ فهرب واختفى ابن المقفع في البحرين.
فلما هرب عبد الحميد الكاتب، بعد هزيمة آخر الخلفاء الأمويين وفراره، لجأ إلى تلميذه بالبحرين، و أقام عنده في داره.. لكن عيون العباسيين عرفت مكانه، فكبست دار ابن المقفع، دخل جند العباسيين عليهما، قالوا وهم شاهرو السلاح: «أيكما عبد الحميد؟».. فقال كل منهما: «أنا عبد الحميد».. كرر الجند السؤال أكثر من مرة فكان نفس الجواب من كليهما معا: «أنا عبد الحميد».. عندها أوشك الجند أن يفتكوا بابن المقفع، لولا أن صاح بهم عبد الحميد قائلا: «ترفقوا بنا فإن بجسدي علامات يعرفها من وجهكم من رؤسائكم، فوكلوا بنا بعضكم، و ليمض البعض الآخر إلى من وجهكم ليذكر له تلك العلامات»، فلم يجد الجند مناصا من ذلك، و فعلوا و عادوا بأوصاف عبد الحميد الكاتب كاملة، وكانت العلامة شج في رأسه، فقبضوا عليه وأخذوه، وتركوا ابن المقفع، وقتل عبد الحميد بوضع طست محمي على رأسه، راح يصعقه على مهل حتى مات، وكان ذلك عام 132 هـ 750 م.
بين «روزبه بن داذويه»… و«عبد الله بن المقفع»
ولد «روزيه بن داذويه» الذي أصبح فيما بعد عبد الله بن المقفع في العام السادس بعد المائة من الهجرة، وهو من بلاد خوز التي تُعرف بخورستان، كما يسميها العرب الأهواز، وهي قريبة من مدينة البصرة العراقية، وتعيش فيها القبائل العربية منذ الفتح الإسلامي، يتحدث أهل خوز لغة خاصة بهم ليست سريانيّة ولا عبرانيّة، إلى جانب اللغة الفارسيّة والعربيّة التي يتحدث بها عامتهم. درس الفارسية وتعلّم العربية في كتب الأدباء، نشأ على المجوسية وكان له نشاط في نشر تعاليمها وترجمتها إلى العربية. انتقل إلى العمل كاتبا في ديوان عيسى بن علي، عم السفاح وأيضاً عم المنصور الخليفتين الأول والثاني للدولة العباسية.
أعلن إسلامه، فتغير اسمه وأصبح «عبد الله بن المقفع». وقد لقب والده بالمقفع، لأنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي، في أيام ولايته بلاد فارس، كان قد ولى والده (داذويه) خراج فارس، فأخذ بعض المال، فضربه الحجاج حتى تقفّعت يداه (أي تورمتا واعوجت أصابعهما ثم شُلتا).
وقد عاصر ابن المقفع أبا عثمان الجاحظ الذي كان يعيش أيضا بالبصرة، كما عاصر علماء اللغة والدين، وفي طليعتهم الخليل بن أحمد. وتميز ابن المقفع بتعدُّد الثقافات، حيث جمع بين الثقافتين العربيّة والفارسيّة وما يتبعها من حكمة الهنود وفلسفة اليونان، فقد ترجم الفُرس كتب الهند واليونان بعد أن فتح الإسكندر بلاد فارس، فانتشرت فيها الفلسفة اليونانيّة، وترجم ابن المقفع عن الفارسيّة كتباً من وضع الهند واليونان منها أدبيّ ومنها فلسفيّ مثل كتب المنطق، فيعدّ من أوائل الذين ترجموا كتباً في المنطق. وقد قيل: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع.
فاتح باب الترجمة
لقد نقل ابن المقفع إلى اللغة العربية تراثا ضخما من آثار اللغات الفارسية والهندية واليونانية، وهو أول من فتح هذا الباب الذي أتاح للعرب التعرف على ثقافات من سبقوهم من الأمم. ومن أهم الكتب التي ترجمها من الآثار الفارسية: {خداي نامة} في سير ملوك الفرس، و{التاج} في سيرة كسرى أنو شروان، و{آيين نامة} في أحوال الفرس وعاداتهم وأخلاقهم، و{مزدك} في الديانة المزديكية. ومن الآثار اليونانية قام بترجمة ثلاثة كتب في المنطق، للفيلسوف اليوناني أرسطو، هي: {المقولات}، و{القياس}، و{الجدل}. ومن الآثار الهندية كتابه الشهير، {كليلة ودمنه}، وقد اختلف النقاد حوله، فمنهم من يرى أن الكتاب ترجمة أو نقلا عن الفارسية، ومنهم من يرى أن ابن المقفع كتبه مباشرة، أي أنه مؤلفه، وضع فيه أفكاره في العلاقة بين الحاكم والمحكوم على ألسنة الوحوش والطير، وادعى انه ترجمة لكتاب هندي، كي يتهرب من غضب الحاكم وعقابه.
أما مؤلفات أو إبداعات ابن المقفع، فهي أربع رسائل أدبية، في موضوعات مختلفة، وهي: {الأدب الكبير}، وفيه كلام عن السلطان وعلاقته بالرعية وعلاقة الرعية به، و{الأدب الصغير}، حول تهذيب النفس وترويضها على الأعمال الصالحة، و{الدرة اليتيمة.}، وأخيرا {رسالة الصحابة}، التي أدت به إلي نهايته الحزينة البشعة.
رسالة الصحابة.. وغضب الخليفة
في سنة 136 هـ، بعد موت السفاح بمرض الجدري، بويع أبو جعفر المنصور، ليصبح الخليفة الثاني في الدولة العباسية. ويعتبره الكثير من المؤرخين المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، فبينما قام السفاح بالاستيلاء على مقاليد الأمور من بين يدي الأمويين، وانهي ذكر خلافتهم، غير أن مدة حكمه لم تدم إلا أربعة أعوام وأشهر معدودات. أما أبو جعفر المنصور، فقد حكم لمدة تزيد عن عشرين عاما، ارسي خلالها دعائم الدولة وسلمها لخلفه دولة قوية قادرة على العيش والاستمرار. وكان يعتبر نفسه «ظل الله الممدود في أرضه، إن شاء بسطه فأعطى، وإن شاء قبض فأمسك».
كان عبد الله بن عليّ، عم المنصور، يرى انه أحق بالخلافة من ابن أخيه، فرفض بيعته. يقول خليل مردم، في كتابه {ابن المقفع، أئمة الأدب، ج 2}: «ولما خرج عبد الله بن علي والي الشام على ابن أخيه، وهزمه المنصور فز عبد الله إلى البصرة واحتمى بأخويه سليمان وعيسى، وبقي هناك خوفا من المنصور، فطلبه المنصور من سليمان وعيسى فأبيا أن يسلماه إياه إلا بأمان يمليان شروطه، وكتب هذا الأمان عبد الله بن المقفع وتشدد به وتصعب، وكان من جملة ما كتبه: {متي غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس وعبيده أحرار، والمسلمون في جل من بيعته} فأغضب ذلك أبا جعفر غضبا شديدا، وكان من جملة الأسباب الداعية لقتله كما سيأتي»…..أيضا «هناك رسالة تعرف {برسالة الصحابة} لا يَبْعد أن يكون ابن المقفع كتبها عن سليمان بن علي أيام إمارته على البصرة، وبعث بها إلى المنصور يذكره بأمور تتعلق بشئون الدولة وسياستها، وهي تشابه من بعض الوجوه التقارير التي يرفعها رجال الدولة اليوم إلى الملوك».
خليل مردم وكتابه «ابن المقفع، أئمة الأدب»
يقصد ابن المقفع بــ«الصحابة»: حاشية الخليفة أبي جعفر المنصور وأعوانه ورجاله من قضاة، وقادة جند، وجباة، وعمال خراج، وولاة أقاليم… يقول الأستاذ سليمان فياض في كتابه {الوجه الآخر للخلافة الإسلامية}: إن ابن المقفع «خط رسالة الصحابة، وأعطاها للورّاقين، وبعث بها للخليفة أبي جعفر المنصور، كرسالة من ناصح أمين، لا يريد سوى الإصلاح ما استطاع، ناصح لا يقول بمثل نصحه أحد من صحابة الحاكم للحكام، وأمين لم يستأمنه أحد على مصلحة أحد».
الأستاذ سليمان فياض وكتابه «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية»
وقد استطاع ابن المقفع في رسالة الصحابة، أن يضع يده على أمراض المجتمع العباسي الرئيسية، وأولها مرض السلطة الذي أصاب الخلفاء، ومرض الفساد الذي أصاب رجال البلاط، والجند، والولاة، ومرض اضطراب أحكام القضاة لاختلاف معتقداتهم ومذاهبهم الدينية، وعدم وجود قوانین حاكمة فيما استجد من أمور على المجتمع الإسلامي.. و بالتأكيد، فإن ما أقدم عليه ابن المقفع من تعرية لأمراض الحكم والحاكم والحاشية، لم يعجب المنصور، وقد أثار غضبه، وهو الذي يقول عن نفسه: «أنا ظل الله على الأرض».
يقول الأستاذ سليمان فياض: «ورسالة الصحابة لابن المقفع تصدت لعدد من القضايا الاجتماعية التي كانت سائدة في زمانه، خاصة في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور…….. وفي هذه الرسالة شخَّص ابن المقفع، ككاتب، ومفكر سياسی. مشکلات عصره، في ضوء ثقافته الفارسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية أولا، وفي ضوء معايشته لمشكلات الواقع الاجتماعي في عصره، بعد أن تثقف بالثقافة العربية، ودرب على الكتابة بالعربية، علي يد أستاذه عبد الحميد الكاتب، في الفترة التي قضاها من عمره كواحد من الرعايا الفرس بالدولة الأموية، وحاول بهذا التشخيص، أن يضع أفكارا أساسية للإصلاح الاجتماعي».
نهاية درامية حزينة
مات عبد الله بن المقفع شابا، وعن موته تواترت روايات مختلفة منها أنه قتل نفسه، قبل أن يُقبض عليه ، ويُسلم إلى رجال الخليفة أبى جعفر المنصور الذى كان ساخطا عليه أشد السخط، لكن أشهر الروايات عن موت ابن المقفع هى أنه عندما وصلت «رسالة الصحابة» التى كتبها ابن المقفع إلى أبي جعفر وقرأها استشاط غضبا وصاح: «أما أحد يكفينيه».. فتلقف حاكم البصرة سفيان بن معاوية، الخيط وقال: «أنا له يا أمير المؤمنين»… كان ابن المقفع لا يملأ عينه سفيان هذا، ودائما ما كان يحط من قدره، ويسخر به ويتندر عليه، ويعرّض به، وكان ينال من أم سفيان أيضا، وعندها قال سفيان لابن المقفع: «والله لأقطعنك إربا إربا وعينك تنظر»..
فلما قبض سفيان على ابن المقفع بالحيلة، أمر بقِدر كبير به زيت يغلي، ثم أمر فقُطع من ابن المقفع عضو، ثم ألقي بالعضو في القدر، وابن المقفع ينظر، وظل هكذا حتى أتى على جميع جسده. كان يبلغ من العمر آنذاك ستا وثلاثين سنة، وكان ذلك في عام 142 هـ 759 م.
وبعد مقتله على يد سفيان حاكم البصرة، بأمر من أبي جعفر المنصور، أشاعوا بين الناس أن ابن المقفع كان زنديقا… اتهموه بالزندقة للتغطية، ولكن ليس في آثار بن المقفع ما يدل على زندقته، ولم يكن هنالك دليل مادي يوجه اتهامات إليه لإثبات زندقته وتبرير قتله، فالزندقة ليست السبب الحقيقي لمقتله وإنما كانت للتغطية.
فإذا ما طالعنا مؤلفات ابن المقفع التي أنتجها خلال عمره القصير، لن نجد أي اثر يمكن أن يشير من قريب أو بعيد إلى صحة هذا الاتهام المعلب سابق التجهيز، «الزندقة»، الذي نال معظم ــ إن لم يكن كل ــ مفكر لا تكون أفكاره وطرحه السياسي أو اجتهاده، على هوى الحاكم، أو من يروج لطاعته.
المصادر
سليمان فياض، الوجه الآخر للخلافة الإسلامية، دار ميريت للنشر والمعلومات، الطبعة الأولى، 1999.
المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر جزء 3، مطابع دار الأندلس، 1966.
خليل مردم، ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)، دار المحرر الأدبي، نسخة اليكترونية.
عبد الله بن المقفع، آثار ابن المقفع، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الاولى 1989.