علي الرغم من الإنتاج الدرامي الغزير سنويا، إلا أن بعض الأعمال القليلة هي التي يحرص صناعها على رصد مدي التأثير الذي طال القيم الإجتماعية وسلوكيات الناس كنتيجة للتغيرات البنيوية العميقة التي يشهدها المجتمع، وعدد أقل من تلك الأعمال هو الذي ينجح في عمل هذا الرصد والتحليل وفقا لحبكة درامية محكمة الصياغة تبرز فيها كل العناصر الفنية.
مسلسل «بـ 100 وش» والذي انطلق عرضه مع أول أيام الشهر الفضيل واحد من هذه الأعمال التي تؤكد على أن الفن يمكن أن يلعب دورا اجتماعيا مهما في لفت الأنظار للعورات الاجتماعية التي طرأت على سلوكيات الناس، فقد نجح المسلسل شكلا ومضمونا في استعراض ما آل إليه حال مجتمعنا ببساطة و«سلاسة»، حيث رصد بذكاء «العوار» الذي لحق بالكثير من قيم المجتمع وشخوصه وأعرافه، وبالأخص الآثار الاجتماعية المترتبة على تدني قيمة العمل «المنتج» والتعليم «رغم حصول البعض على أبرز الشهادات من أعرق وأشهر الجامعات كما هو حال بطل العمل» وغيرها من الأسباب التي تدفع البعض للتفكير في المكسب السريع «السهل» حتى لو عبر الاحتيال والنصب، خصوصا في ظل التطور التكنولوجي الذي نعيشه الآن وظهور العديد من التطبيقات الإلكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي التي تسهل هذه المهام ما يجعلنا نشجع تلك النوعية من الدراما التي تنبه وتحذر و تلقي الضوء على وسائل الاحتيال المختلفة كذلك على مخاطر استخدام الهواتف الذكية و قدرة البعض على اختراق خصوصية البعض الآخر.
اتهامات
ورغم أن تهمة النصب والإحتيال ليست جديدة علي الدراما المصرية، بل سبق تقديمها مرارا، ورغم أن مسلسل «بـ 100 وش» لم يسلم من تلك المقارنات سواء على المستوى المحلي مثل «فيلم عصابة حمادة وتوتو» من بطولة عادل إمام ولبلبة، أو عالميا مثل المسلسل الأسباني «بيت من ورق» أو «لا كاسا دي بابيل» وفقا للاسم المتداول على شبكات التواصل الاجتماعية لدرجة أن البعض من متابعي «بـ 100 وش» أطلقوا عليه «لاكاسا الغلابة» نظرا لبعض التشابهات «الطفيفة» بين العملين، خاصة تشابه وظائف بعض أفراد عصابة البروفيسور الأسباني ونجوم «بـ 100 وش» وتحديدا مهنة المتخصص في اختراق الشبكات والكاميرات والتعامل مع آليات الشبكة العنكبوتية لتسهيل عمليات النصب، وهو تشابه مقبول ومشروع أيضا بل بات مطلوبا في مجمل الأمور الحياتية وليس فقط النصب و الاحتيال خصوصا في ظل التطور التكنولوجي الذي نعيشه.
مقطع من المسلسل الأسباني «بيت من ورق» أو «La Casa De Papel»
المؤكد أن «بـ 100 وش» وبغض النظر عن أي اتهامات بالتشابه فإنه نجح في «تدوير» الفكرة برؤية جديدة ومتميزة، مستعرضا شرائح اجتماعية مختلفة من خلال «فرقة النصابين». يحسب للعمل أنه اهتم بإبراز هذا التمايز الطبقي الحاد بين الشرائح الاجتماعية في إشارة لواحدة من أبرز الأزمات التي يعاني منها المجتمع.
https://www.youtube.com/watch?v=9vM0Sz3kSZk&feature=youtu.be
الكل في واحد
الطريف أن هذا «الخليط» من البشر المختلفين تجمع علي هدف واحد «الثراء السريع السهل» رغم كل الفروق الثقافية والإجتماعية بينهم، كذلك دوافعهم للمشاركة، حيث الرغبة في تحقيق الهدف «الثروة الطائلة» ومن ثم الصعود اجتماعيا سواء من طبقة لأخرى وفقا لأحلام البعض أو باستعادة أمجاد الماضي كما هو الحال مع بطل العمل «آسر ياسين»، و الأهم «التحقق» ماديا ومعنويا من دون التورط في جرائم مخلة بالشرف، ما يفتح الباب لتقديم كوميديا «طازجة» غير مستهلكة فنيا ومؤثرة إجتماعيا، تلعب على كم التناقضات في شخصيات البعض لا لتفجر الضحكات فحسب ولكن لنتأمل من خلالها كيف وصل بنا الحال من تدن على مستويات عدة في مقدمتها المستوى الأخلاقي، فمثلا تلك الممرضة لا تمانع في سرقة مخدومها ولكن قلبها ينفطر حزنا على موته، كما لا تمانع في أن تترك حصتها من المال المسروق مع أكثر أعضاء الفريق فسادا «سامح موظف الشهر العقاري» لمجرد أنه «يصلي» و غيرها من المفارقات.
https://www.youtube.com/watch?v=Q8sZaIrg15E&feature=youtu.be
فن صعب
من أبرز إيجابيات هذا العمل أنه نجح في رد الاعتبار لأحد أهم الفنون.. «الكوميديا».. والتي افتقدناها منذ فترة طويلة وبالأخص «كوميديا الموقف»، وليس كوميديا «التيك أواى» التى تعتمد على «الإفيهات»، أو تلك التي تضع نصب عينيها أن تتحول لـ«كوميكس» تصلح للاستخدام على صفحات الـ«سوشيال ميديا» ما يعطي ايحاءً زائفا بنجاحها، بتعبير أوضح تمنحها قبلة الحياة إذا ما اعتمدتها هذه الصفحات و تداولتها، رغم أن الكوميديا على عكس السائد فن صعب نظرا لأن أكثرنا يمارسه يوميا من أول «النكتة» وحتي «الكوميكس» أو الكاريكاتير الساخر ومن ثم يتصور البعض سهولة إنتاجها.
وعلي الجانب الآخر فإن البعض من صناع الكوميديا يستسهلون تقديمها، متجاهلين الفرق بين أن تصنع موقفا كوميديا تتفجر من خلاله الضحكات، أو مجرد «إفيه» أو «قفشة» ساخرة ربما لا تثير أكثر من إبتسامة، هذا لو مرت من دون اسفاف أو خروج على النص واللائق اجتماعيا وأخلاقيا، وهو ما نجح فيه بجداره صناع مسلسل«بـ 100 وش» وفي المقدمة تأليفا «أحمد وائل وعمرو الدالي» عبر مواقف كوميدية محكمة الصياغة دراميا حتى لو كان بعضها أو أهمها يعتمد على الصدفة مثل موقف تجمع الفريق الذي سيقوم بعملية «النصب».
تفوق
ومن المهم أيضا أن نشير إلى تفوق المخرجة «كاملة أبو ذكري» من خلال لقطات سريعة مختزلة تتحرك فيها الكاميرا بخفه بين الشخصيات والمواقف مما يثري المشهد، ويؤكد امتلاك مخرجته لأدواتها ومن قبلها رؤيتها التي اجتهدت في التأكيد عليها بإختيارها لكل العناصر الفنية التي تساعدها على ترجمة هذه الرؤية الفنية وفي مقدمتها المونتاج «وسام الليثي» والذي حافظ على إيقاع العمل كله وبالأخص خفة ظله ومن دون الإحساس بالملل.
المخرجة «كاملة أبو ذكري»
ترجم كل ذلك أداء جماعي مبهر بل مفاجيء للجمهور خصوصا بطلة العمل نيللى كريم في إطلالتها الكوميدية الدرامية الأولى بعد رصيد كبير من التراجيديا والبكائيات، كذلك آسر ياسين في أول ظهور كوميدي أيضا يكشف من خلاله جوانب خافية من موهبته.
القدرة علي تفهم أبعاد الشخصية ومن ثم ترجمتها بحرفية عالية و«خفة ظل» لم تتوقف عند بطلي العمل فقط ولكنها امتدت لمجمل فريق العمل كله والذين كانوا بمثابة مفاجأة للجمهور ربما في مقدمتهم «سباعي» أو شريف صبري «سبق وحصد جائزة التمثيل الأولي من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبل عامين عن دوره في فيلم ليل خارجي» أو العائدة بقوة علا رشدي «ماجي»، إسلام إبراهيم «حمادة»، دنيا ماهر «نجلاء» ومحمد عبد العظيم أو سامح موظف السجل المدني، زينب غريب أو رضوي ومجمل فريق العمل حتى أولئك الذين شاركوا بأدوار صغيرة أو ثانوية.
المؤكد أن كوميديا «بـ100 وش» ليست فقط أحد أبرز الأعمال التي تنافس هذا العام على صدارة المشهد الرمضاني، ولكنها -وهو الأهم- نجحت في إحراج أعمال أخرى صُنِّفت تجاوزا تحت مسمى «الكوميديا».