حوار: تشونسي دي هيجا «salon.com»
عرض وترجمة: أحمد بركات
في المقابلة التي أجراها الكاتب والمحلل السياسي في موقع salon.com، «تشونسي دي هيجا»، يحذر «كريس هيدجز»، الحائز على جائزة بوليتزر لعام 2002، من أن تداعيات أزمة كورونا في عهد ترامب ليست سوى معاينة مسبقة لأزمات أسوأ بكثير سوف تجتاح مستقبل الولايات المتحدة، حيث يجتمع الظلم الاجتماعي والفشل السياسي لخلق حالة انهيار كامل لمستوى المعيشة المتدهور فعليا في البلاد، ولدي مقراطيتها المريضة.
يفصل «هيدجز» مؤلف كتاب America: The Farewell Tour «أمريكا: جولة الوداع» «2018»، والعديد من الكتب الأخرى المهمة والأكثر مبيعا، الأسباب التي تكمن وراء إمكانية فشل الحزب الديمقراطي ومرشحه المحتمل للرئاسة، جو بايدن، في الاستجابة للتحديات التي فرضها «عصر ترمب»، وللدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي خلفته رأسمالية العصابات، إلى جانب جائحة كورونا. ويرجع هيدجز السبب في ذلك إلى أن الديمقراطيين أنفسهم جزء من منظومة «حكم الأثرياء» التي هوت بالشعب الأمريكي إلى نفق الانهيار المظلم.
ويقدم موقع «أصوات أونلاين» ترجمة لهذه المقابلة الكاشفة.
«كريس هيدجز»، وكتابه «أمريكا: جولة الوداع»
ماذا كشفت صدمة وباء كورونا المفاجئة بشأن أمريكا؟ وإذا كان لك أن تلتقط صورة بانورامية لهذه اللحظة، فكيف ستظهر فيها الولايات المتحدة؟
هذه الأيام هي «الأوقات الطيبة» مقارنة بما هو قادم.
كيف يمكن أن يتغير مجتمع ما بسرعة؟
يمكن أن يتغير مجتمع ما بسرعة فائقة عندما تكون البنى التي يقوم عليها فاسدة. فكل منظومة لديها قشرة، أو لحاء خارجي مرئي للجميع، ومهما كانت هذه القشرة براقة إلا أنها لا تعدو أن تكون الجزء الظاهر من جبل الجليد، وأحيانا ما تكون الجذور الضاربة في أعماق الأرض فاسدة إلى درجة تجعل هذه المنظومة عاجزة عن تحمل الضغوط. هذا ما حدث في جمهورية فايمار في ألمانيا، قبل أن يبسط النازيون سيطرتهم. وهو ما خبرته يوغوسلافيا قبل اندلاع الحرب الأهلية والعنف الإثني. وهو أيضا ما نعاينه هنا في الولايات المتحدة. إن هذا البلد لا يمكنه الصمود أمام ضغوط فيروس كورونا، وفيما وراء السطح الشفاف الذي يتحرك عليه الجمهوريون، تجسد استجابة الديمقراطيين لهذه الأزمة أيضا حالة الفشل التي تواجهها الولايات المتحدة بوجه عام.
إن تخصيص 1200 دولار للأفراد الذين يعانون أثناء هذه الأزمة لا يفي بشيء. وجل ما فعله الديمقراطيون هو أنهم كانوا يحاولون منع وصول ما يعادل 500 مليار دولار من الأموال غير المشروعة إلى يد ستيفن منوشين، وزير الخزانة في إدارة الرئيس ترمب، والذي يتصرف كمجرم. كما أن مبلغ 1200 دولار سوف يتم تفريغه من قبل شركات بطاقات الائتمان والبنوك التي تملك الرهون العقارية.
يبدو الأمر وكأنه نسخة مكررة لما حدث في عام 2008، حيث يضخ الكونجرس مبالغ هائلة في أيدي لصوص وول ستريت. ماذا حدث في عام 2008؟ لقد منح «الحكام الأثرياء» والشركات أنفسهم مكافآت ضخمة من الأسهم ودخول وعوائد أخرى. لا أفهم كيف ستتجنب الولايات المتحدة «كسادا كبيرا» آخر سيقود بدوره إلى ترسيخ أعمق لسلطة نخبة أوليغاركية مستبدة. هذه النخب لا تعبأ حقا بشأن جائحة كورونا لأنها ستحصل على أجهزة التنفس وأطقم الرعاية الطبية وكل ما يمكن أن يحتاجون إليه للبقاء على قيد الحياة. أما المواطنون العاديون فسيُخلًى بينهم وبين الوباء، وسيكون عليهم أن يواجهوا الأزمة وحدهم.
الآن، يطلب الرئيس، وحزبه، وأصحاب الشركات، والقوميون المسيحيون المؤيدون لترمب من الشعب الأمريكي أن يخرجوا إلى العمل، وأن يعرضوا أنفسهم للموت بسبب الفيروس المستجد، ويصورن ذلك بأنه عملا من أعمال «الوطنية» والخوف على الاقتصاد.
أود أيضا أن أضيف أن أعدادا هائلة من الناس سيموتون بلا داع. إن الربح دائما هو أهم شيء بالنسبة إلى «الأقلية الحاكمة»، وبسبب شبكة Fox News وغيرها من المنافذ الإعلامية اليمينية ستستهين نسبة كبيرة من الأمريكيين ببشاعة وخطورة فيروس كورونا، ويمكن أن نتوقع أن تشهد الهجمات العنصرية ضد الأمريكيين من أصول صينية، أو أي أصول أسيوية أخرى تصاعدا مرعبا.
أعتقد أن الوباء والاستجابة له يمكن أن يقودانا إلى منطقة مجهولة فعليا داخل الولايات المتحدة، لأنه مع تدهور الأوضاع، سترتفع وتيرة العنف ضد غير البيض والمجموعات الأخرى التي يعمد ترمب واليمينيون إلى شيطنتها دائما. وسيتم التعبير بمزيد من الحدة والفجاجة عن الرغبة في فرض حلول سلطوية. أتذكر جيدا الحديث إلى «فريتز ستيرن»، مفكر الفاشية الأبرز الذي هرب في صباه من ألمانيا النازية. قال «ستيرن» في ألمانيا، كان هناك تشوف إلى الفاشية قبل أن يظهر مصطلح «الفاشية». إننا نرى بالفعل هذا التشوف ذاته في أمريكا، وسيزداد حدة وعربدة بعد أزمة كورونا.
ماذا عن الذاكرة الجمعية للشعب الأمريكي، وبخاصة على المدى القصير والمتوسط؟ توجد أصوات كثيرة تعتقد أن فيروس كورونا سيؤدي إلى تغيير اجتماعي إيجابي في الولايات المتحدة. لكنني أخشى أنه سيكون هناك نوع من النسيان المنظم، حيث ستعمد الذاكرة الجمعية بعد عدة أشهر من الآن إلى تناسي ما كشف عنه الوباء من عطب كامن، وسيُلقى بكل شيء في غياهب الذاكرة.
لا أعتقد أننا سنتمكن من إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل وباء كورونا. أعتقد أن هذه الجائحة لها ما بعدها، وستؤدي حتما إلى تدهور لا يشبه أي شيء شهدته هذه البلاد منذ أزمة «الكساد الكبير». هذا هو السبب في حالة الذعر التي تطبق على طبقة رجال الأعمال والنخب الحاكمة الأخرى، وهذا هو السبب الذي يدفع بترامب وأصحاب الشركات والجمهوريين وغيرهم من المتحالفين معهم إلى مطالبة الناس بالعودة إلى أعمالهم، فقط بعد ارتداء قناع لن يوفر لهم الأمان الكامل.
أزمة «الكساد الكبير» 1929
لقد كان الوباء متوقعا، ومع ذلك، بطبيعة الحال، خاصة في ظل إدارة ترمب، قمنا بتفكيك الآليات التي كان يمكن من خلالها أن تتأهب الولايات المتحدة لمواجهة الأزمة. غابت البنية التحتية الصحية، مثل أسرة المستشفيات وأجهزة التنفس وغيرها من الأجهزة والمعدات لأن موارد البلاد – كما هو الحال في جميع الإمبراطوريات المتداعية – تذهب إلى الصناعات الدفاعية والعسكرية.
أما الوجه الآخر لحالة التداعي فيتمثل في الهجوم على التعليم العام وفساد الإعلام. إن حقيقة أن شبكة Fox News مؤسسة إخبارية تبدو مذهلة، برغم أنني لا أعتقد أن CNN أسعد حالا. وبوجه عام، يسهم ذلك في إذكاء حالة التوق إلى نظام أو شخص.. «المنقذ» الذي يمكنه أن يقدم وعودا بترويض الشياطين التي أُطلقت من أغلالها في قاع الجحيم.
لست متأكدا إذا ما كان لدينا أي آليات متبقية في الولايات المتحدة يمكننا من خلالها الدفع بفاعلية ضد النخب والأقلية الحاكمة والقوى الأخرى المناهضة للديمقراطية. وليس لدينا أي قدرة على أن نضع قوة في مواجهة أخرى. يمكننا أن نستجدي نانسي بيلوسي، أو ميتش ماكونيل، أو غيرهما من السياسيين الذين نريدهم للمساعدة. لكننا لن نتمكن من ذلك.
ميتش ماكونيل، ونانسي بيلوسي
إن مشاهدة ترامب يقف أمام الجميع متحدثا عن وباء فيروس كورونا، بينما يحيط به مديرو ورؤساء شركات – بغض النظر عن الطريقة التي حشد بها ترمب في حكومته أناسا ينتمون إلى كبريات الشركات في العالم – يكشف بجلاء عن حكم الأقلية الثرية التي غرقت فيها البلاد، حتى أنهم باتوا يجاهرون بها.
هؤلاء لا يعبأون بالديمقراطية، ولا يبالون بالحقيقة، ولا تعنيهم موافقة المحكومين، ولا تشغلهم قضايا التفاوت الاجتماعي وعدم المساواة في الدخول. إنهم لن يسيطروا على حالة المراقبة، بل إننا نبالغ إذا قلنا إنه في الوقت الذي تتسع فيه دائرة المراقبة، تسير الأمور نحو الأسوأ. الأقلية الحاكمة أيضا لا تهتم بانعدام فرص العمل لأن البطالة – كما قال ماركس – تخلق تجمعات أكبر من العمالة اليائسة الفائضة، كما أنهم لا يعبأون كثيرا بقضايا المناخ لأن جُل ما يعنيهم هو الربح وسطوة الشركات. هذه القيم وتلك النظم تقضي تماما ونهائيا على ما تبقى من ديمقراطية.
وبطبيعة الحال، هم يشعرون الآن بسعادة غامرة لأن أحدا لا يستطيع الخروج إلى الشارع بسبب هذا الوباء وبسبب التباعد الاجتماعي. إن ما نحتاجه لهزيمة هؤلاء الأوليغاركيين هو تعبئة الجماهير وإعلان العصيان المدني، إذ لا سبيل لاستعادة الديمقراطية الأمريكية إلا باتخاذ هذه الخطوات.
كما أن النظام السياسي الحالي في الولايات المتحدة يعكس احتكارا ثنائيا للفضاء السياسي؛ فإما أن تصوت لصالح المناهضين للمهاجرين، والعنصريين، ومنكري قضية المناخ، والخلقيين من جانب، أو أن تولي صوتك شطر الذين يتشدقون بلغة التسامح وقبول الآخر، ويريدون أن يضعوا المثليين والنساء والملونين في مواطن السلطة طالما أنهم يخدمون نظامهم من جانب آخر. بالطبع، هذا هو الدور الذي أنجزه باراك أوباما على حساب الشعب الأمريكي.
إن المجتمع الأمريكي يعيش أزمة مستفحلة تسير من سيء إلى أسوأ. وكما ذكرت، فإن فيروس كورونا، إلى جانب حركة الفاشية الجديدة التي يقودها ترامب هما مجرد أعراض ظاهرة لعفن مجتمعي عميق. أين نذهب من هنا؟
لنأخذ – مثلا – بايدن. ماذا يعني التصويت لجو بايدن؟ إنه يمتلك هذا النوع من شخصية «الأبله» التي يجدها البعض ساحرة. ما هو سجل بايدن؟ ما الذي يصوت له الأمريكيون إذا منحوا أصواتهم لصالح بايدن في انتخابات 2020؟ أتدري ماذا؟ أنت تصوت لصالح إذلال النساء الشجاعات مثل أنيتا هيل التي واجهت المعتدي عليها، ولصالح مهندسي الحروب التي لا نهاية لها، ولدولة الفصل العنصري في إسرائيل. إن بايدن يمثل هذه الأشياء جميعها. مع بايدن، أنت تصوت للمراقبة الحكومية الشاملة على كل شيء، بما في ذلك إلغاء الإجراءات القانونية الواجبة والمثول أمام القضاء. أنت تصوت لبرامج التقشف ولتدمير الرفاهية.. هذا هو بايدن. أنت تصوت لخفض الضمان الاجتماعي، الذي طالما نادى بخفضه، وتقليص نظام Medicaid الصحي الذي يخدم الفقراء. أنت تصوت لصالح «اتفاقية نافتا»، وصفقات «التجارة الحرة». عندما تصوت لصالح بايدن، فأنت تصوت لانخفاض حقيقي في الأجور، وفقدان مئات الآلاف من الوظائف في مجال التصنيع.
«جو بايدن» المرشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020
وبالتصويت لبايدن، أنت أيضا تصوت للاعتداء على التعليم العام وتحويل التمويلات الفيدرالية إلى «مدارس الميثاق» المسيحية. كما تصوت لمضاعفة عدد السجناء، ولصالح عسكرة الشرطة، وضد «الصفقة الجديدة الخضراء».
أنت أيضا تصوت لصالح تقويض حقوق المرأة في الإجهاض وفي الإنجاب. وتصوت لصالح نظام مدارس حكومية منفصلة. وتصوت لحساب مستويات عقابية من ديون الطلاب وعدم قدرة الناس على تحرير أنفسهم من هذا الدين من خلال الإفلاس. إن التصويت لبايدن يعني التصويت لتحرير القيود المصرفية والمالية، ودعم شركات التأمين وشركات الدواء الهادفة للربح.
والتصويت لبايدن هو أيضا تصويت ضد إمكانية توفير الرعاية الصحية الشاملة. وعندما تصوت لصالح بايدن فأنت تدعم ميزانيات الدفاع المتضخمة والزائدة عن الحد، ولصالح الأموال اللامحدودة للأوليغاركية والشركات من أجل شراء الانتخابات. هذا هو ما تصوت لصالحه.
إن التصويت لصالح بايدن يعني التصويت للمزيد من نفس الشيء. وستفضل النخب الحاكمة جو بايدن، تماما كما فضلت هيلاري كلينتون من قبله، فقط لأن أسلوب ترمب مبتذل ويسبب لهم الكثير من الحرج. لكن النخب الحاكمة لا تتورع عن المجاهرة بمصالحها، وقد قال كثير منهم صراحة، أو نُقل عنهم بأسمائهم، إنه إذا كان بيرني ساندرز هو المرشح – أو حتى إليزابيث وارين – فإنهم سوف يصوتون لصالح دونالد ترمب.
إحدى السرديات الرائجة في وسائل الإعلام الإخبارية الكبرى هي أن ترامب قد انتهى، وأن عدم كفاءته في إدارة أزمة وباء كورونا تقلل من فرص إعادة انتخابه، وأن اتجاه الريح يسير عكس سفينته. لكن ردي على ذلك كان أنه أشبه ببناء قصور على الرمال. فمن ناحية، لا توجد ضمانة واحدة على وجود انتخابات من الأساس في هذا العام. فترمب وحزبه الجمهوري خبراء في تزوير الأصوات ووسائل الغش الأخرى التي تؤدي إلى التلاعب بالانتخابات وتدمير الديمقراطية. وبعد انحسار أزمة كورونا، أعتقد أن ترامب سيكون أكثر قوة لأنه يقود «قاعدة من المعجبين»، وسيعلن أنه قاد البلاد إلى «الانتصار» على الفيروس.
النخب الليبرالية تقدم أملا ليس له أي أساس في فهم الواقع السياسي. أنا لا أعتقد أن جو بايدن سيكون قادرا بالضرورة على الفوز على ترمب؛ فبايدن مرشح ضعيف للغاية لأنه يمثل سياسات العصابات الرأسمالية النيوليبرالية التي اعتنقها الحزب الديمقراطي، والتي يثور عليها الآن كثير من الأمريكيين.
لقد فسر جو بايدن أسباب عدم معاناة السود من أزمات منتصف العمر بأنهم لا يؤمنون بالأساطير الأمريكية؛ فالسود في الولايات المتحدة يعرفون أن النظام في هذه البلاد زائف. إنهم يعرفون ذلك منذ نعومة أظفارهم. وعلى النقيض، يؤمن البيض بأوهام فكرة «حكم الأجدر»، والفرادة والاستثنائية الأمريكية، وغير ذلك من معتقدات مشابهة. لذا تجد أعلى معدلات الانتحار في فئة البيض متوسطي العمر، لأنهم بدأوا يدركون أخيرا أن النظام لا يعبأ بهم.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا