نزلت الآية الكريمة (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) في الوليد بن المغيرة، وقد كان مثل أنداده من صناديد قريش لا يصدقون كذبهم على رسول الله، ولا وصفهم له بأنه كذاب، كانوا يقولون له: لا نكْذبك، ولكنا نكذب بما جئت، وكان أكثر ما يحيرهم هو هذا القرآن الذي جاء به، ويُروى أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يسمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في قلبه شيئاً، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل واحد منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: ما تقول؟، قال: أعرف وأنكر، قال أبو سفيان: فما تقول أنت؟، قال: أراه الحق، قال أبو سفيان: والله يا أبا ثعلبة لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس: أنا والله كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟، قال: ما سمعت؟، تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، فأطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
كانت هذه هي حمية الجاهلية التي منعتهم من أن يصدقوا من وصفوه طويلاً بالصادق الأمين. وتحيرت قريش فيما تقول عن النبي، ولم تكن حيرتهم ناشئة إلا عن معرفتهم السابقة التي تصب في صالحه، ولذلك تفرقوا في التعبير عن رفضهم للنبي ورسالته، وتضاربت أقوالهم فيه، حتى أن الوليد بن المغيرة لما سمع النبي يقرأ في المسجد سورة غافر، انطلق إلى مجلس بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد كلاماً آنفا، ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، إن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يُعلى ولا يُعلى عليه، ثم انصرف، فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، وقالوا لتصبأن قريش كلها. فهرع إليه أبو جهل فقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فطال منه فرصة ليعيد التفكير فيه.
حتى إذا كان الموسم الذي تأتي فيه وفود العرب إلى قريش، وكان لابد أن يجمع رجالات قريش وزعماؤها الكافرون أمرهم على ما يقولون في محمد ورسالته التي جاء بها، وطلبوا من الوليد بن المغيرة رأيه، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: لقد عرفنا الشعر كله، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال: لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم، ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟، قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.
وجعل كفار قريش يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد، إلا حذروه من النبي، وذكروا لهم ما استقر كبراؤهم على القول فيه، وبلغ النبي قول كفار مكة فوجد من ذلك غمّاً وحُمَّ فتدثر بثيابه، فأنزل الله تعالى سورة المدثر يواسي النبي ويصبره ثم انتقل حديث القرآن إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن بقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً).
وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد الذي اجتمعت له مزايا لم تجتمع لغيره من طبقته وهي كثْرةُ الولد وكان من أولاده خالد بن الوليد كما أوتي سعة المال، كان ماله بين مكة والطائف من الإِبل والغنم والعبيد والجواري والجِنان، وامتنّ الله عليه بنعمة البنين الذين كانوا يشهدون معه المحافل وكانوا مصدر فخر له، ورغم كل هذه النعم يطمع أن يزيده الله وهو يعانده ويكذب نبيه. فنزلت فيه هذه الآيات تصبيراً للنبي، وتوبيخاً وتقريعاً ووعيداً لواحد من صناديد الكفر، وانتهت إلى نهايته التي توعده الله بها (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ).
https://www.youtube.com/watch?v=rirABWXnRYs