لما نزلت سورة النصر: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ*وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) راح رسول الله يُكثر من الدعاء في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). وكان لعمر بن الخطاب وعبد لله بن عباس رأي فيها خالف رأي أكابر الصحابة.
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُعَظِّمُ عبد الله بن عباس وهو ما يزال فتى صغيراً، وكان يحرص على مشورته، وكان يلقبه (فتى الكهـول)، يجلسه معه في وجود كبار الصحابة من المهاجرين ممن حضروا بدراً والمشاهد كلها، حتى تحدث الناس في شأنه ويروى ابن عباس القصة فيقول: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أَرَيْته دعاني يومئذ إلا لِيُرِيَهُم مني، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح)، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول، قلت: لا، قال: فما تقول، قلت: يا أمير المؤمنين هو أجل رسول الله، أعلمه الله له: (إذا جاء نصر الله والفتح)، فذاك علامة أجلك، (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً)، فقال عمر: (والله ما أعلم منها إلا ما تعلم).
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن مناف القرشي، ابن العباس عم النبي، زاده الله بسطة في العلم والجسم، ودعا له النبي فقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فكان حبر الأمة، وسمى البحر لغزارة علمه، تفتح وعيه على دوره الذي يُسر له مبكراً، وقد يُسر ليكون طالب علم، ونذر نفسه لتحصيل العلم، وكان أول ما فعله عقب قبض النبي أن شمر عن ساعد الجد ليُحَصِّل حديث رسول الله، يقول: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا بن عباس، أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟، قال: فتركتُ ذلك، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج، فيراني، فيقول لي: يا بن عم رسول الله ما جاء بك؟، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث.
بمثل هذا التفاني في المهمة التي ندب نفسه للقيام بها أصبح ابن عباس من رواة الحديث المبرزين، وهو الذي لم يعش مع رسول الله غير ثلاثين شهراً لا غير، وشهد له معاصروه بسعة علمه، ورجاحة عقله، حتى لقبوه بألقاب عدة: فلُقِّب بالبحر والحبر وترجمان القرآن، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول في حقه: (نِعْم ترجمان القرآن ابن عباس)، وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول: ما رأيت أحداً كان أعلمَ بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا أعلمَ بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر، ولا عربية، ولا بتفسير القرآن، ولا بحساب، ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأيا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوما التأويل، ويوما المغازي، ويوما الشعر، ويوما أيام العرب، وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علما.
مناظرة عبد الله بن عباس للخوارج
كان رضي الله عنه عابدا قانتا يقوم الليل ويصوم الأيام، وكان كثير البكاء كلما صلى وقرأ القرآن، وكان يقدر الصحابة وينزلهم منازلهم، وقد روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ركب فأخذ ابن عبّاس بركابه فقال: (لا تفْعل يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال: «هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا»، فقال له زيد: أرني يديك فأخرج يديه فقبّلهما وقال: «هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا».
عاش ابن عباس فوق السبعين ومات في الطائف، وشهد جنازته جمع غفير، وحين بلغ جابر بن عبد الله رضي الله عنه موت ابن عباس صفق بإحدى يديه على الأخرى وقال: مات أعلم الناس، وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.