في قول الله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، جاءت الآية استكمالا لما قبلها من أول سورة الممتحنة وخاطبت به المؤمنين بعد ما نُهوا عنه من مواصلة أقربائهم، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم تؤول إلى مودة بأن يُسْلم المشركون من أقرباء المؤمنين، وكان من هذه المودة التي تحدثت عنها الآية أن النبي حين تزوج أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان لانت عريكة أبي سفيان وفتحت الباب لإسلامه.
القصة تبدأ بعد اسلام أم حبيبة (رملة) ثم هجرتها مع زوجها عبيد الله بن جحش مع من هاجر من الصحابة إلى الحبشة، وهناك فاجأتها محنة ردة زوجها عن الإسلام، وتنصره في الوقت الذي بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، والنجاشي أعلن إسلامه، وأسلم كبار البطارقة، وهذه رملة قد تنصر زوجها، وشرب الخمر وعاقرها حتى مات من شرب الخمر.
رأت أم حبيبة في منامها كأنَّ آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين، قالت: ففزِعْتُ، فأوَّلتُها أن رسول الله يتزوَّجني، فما هو إلاَّ أن انقضت عِدَّتي فما شعرت إلاَّ برسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يقال لها: أبرهة، فدخلَتْ علَيَّ، فقالت: إن المَلِكَ يقول لكِ: إن رسول الله كتب إلَيَّ أن أُزَوِّجَكه. فقلت: بشَّركِ الله بخير. قالت: يقول لك الملك وكِّلي مَنْ يُزَوِّجك. فأرسلتْ رملة خالدَ بن سعيد بن العاص، فوكَّلَتْه وأعطبتْ أبرهة سواريْن من فضة وخَدَمتَين كانتا في رجليها، وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها؛ سرورًا بما بشَّرتها، فلمَّا كان العشيّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومَنْ هناك مِن المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: إن رسول الله كتب إلَيَّ أن أزوجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله، وقد أصدقْتُها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلَّم خالد بن سعيد، فقال: قد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله وزوَّجته أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله، ودفعت الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا؛ فإن سُنَّة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يُؤكل طعامٌ على التزويج. فدعا بطعام وأكلوا، ثم تفرَّقوا.
قالت أمُّ حبيبة: فلمَّا وصل إلَيَّ المال أرسلتُ إلى أبرهة التي بشَّرتني، فقلتُ لها: إنِّي كنتُ أعطيتُك ما أعطيتُك يومئذٍ ولا مال بيدي، فهذه خمسون مثقالاً، فخُذيها فاستعيني بها. فأبتْ وأخرجتْ حُقًّا فيه كل ما كنتُ أعطيتُها فردَّتْه عليَّ، وقالت: عزم عليَّ الملك أن لا أَرْزَأَكِ شيئًا، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعتُ دين محمد رسول الله، وأسلمتُ لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. قالت: فلمَّا كان الغد جاءتني بعُودٍ، ووَرَسٍ، وعنبر وزبَّادٍ كثير، فقَدِمْتُ بذلك كلِّه على رسول الله، فكان يراه علَيَّ وعندي فلا ينكره. ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي على رسول الله منِّي السلام، وتُعْلميه أنِّي قد اتَّبعتُ دينه. قالت: ثم لطفتْ بي وكانت التي جَهَّزتني، وكانت كلَّما دخلت علَيَّ تقول: لا تنسَيْ حاجتي إليك. قالت: فلمَّا قَدِمْتُ على رسول الله أخبرْتُه كيف كانت الخطبة، وما فعلَتْ بي أبرهة، فتبسَّم، وأقرأْتُه منها السلام، فقال: «وَعَلَيْهَا السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».
تزوَّج النبي السيدة أمَّ حبيبة في العام السابع من الهجرة النبويَّة المشرَّفة، وكان زواجه منها تكريمًا لها على ثباتها في دين الله، ولما بلغ أبا سفيان والدها، وكان مشركاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ابنته، قال: «هو الفحل لا يجدع أنفه»، أي أنه الكفء الكريم الذي لا يعاب ولا يرد. يُروى أنَّ أبا سفيان جاء من مكة إلى المدينة طالبًا أن يَمُدَّ النبي هدنة الحرب التي عُقدت في الحديبية، فلم يقبل رسول الله، فجاء إلى ابنته أم المؤمنين أمِّ حبيبة، فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته دونه، فقال: يا بُنَيَّة، أرغبت بهذا الفراش عني، أو بي عنه؟، قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله. قال: يا بُنَيَّة، لقد أصابك بعدي شرٌّ. فقالت: بل هداني الله للإسلام، وأنت يا أبتِ سيِّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟ فقام من عندها.
ثم كان من بعد ذلك ما بشرت به الآية الكريمة بأن جعل الله مودة من بعد عداوة وأسلم أبو سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام، ونفر من أهل مكة كثيرون في يوم فتح مكة.