كانت تلاوته مثالا ونموذجا للدقة والإتقان وجودة مخارج الحروف، فأصبحت تسجيلاته مقصدا ومرشدا لطلاب علم التجويد في مصر والعالم… ارتبط اسم الشيخ محمود خليل الحصري في أذهان المستمعين بالمصحف المرتل، كما لم يرتبط به اسم قارئ آخر، ولا عجب، فالرجل صاحب أول جمع صوتي للقرآن الكريم في تاريخ الإسلام، وقد نال هذه المكانة بتسجيله للقرآن الكريم كاملًا مرتلًا عام 1961، دون أن يأخذ أجرًا على تلاوته، وعندما أنشأت إذاعة القرآن الكريم عام 1964 ظلت نحو عشر سنوات تقتصر على إذاعة مصحف الحصري المرتل، حتى سماها الناس «إذاعة الحصري».
كان الحصري صاحب الترتيب الأول للمتقدمين لامتحان الإذاعة عام 1944، وعبر الأثير صافح صوته آذان المستمعين في أنحاء العالم الإسلامي، فاختارته الحكومة السعودية لافتتاح الحفل الرسمي لإضاءة مكة المكرمة بالكهرباء عام 1954، كما صحب الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته للهند وباكستان عام 1960.
وفي زيارته لفرنسا عام 1965 أسلم عشرة أشخاص بعد سماعهم القرآن بصوته، أما عام 1973، فزار أمريكا للمرة الثانية، وخلالها أسلم 18 رجلًا وامرأة بعد أن اهتزت قلوبهم لكلمات الله بصوت الحصري، وبلغ حب المسلمين في العالم له درجة كبيرة، حتى أن الجماهير في ماليزيا حملت سيارته على الأكتاف، احتفاء به وتقديرًا لأدائه.
الحصري يتلو القرآن في المسجد الأقصى
وللشيخ الحصري عدد من «الأوليات»، فإضافة إلى المصحف المرتل، كان الشيخ أول من قرأ القرآن في الكونجرس الأمريكي، عام 1977، وكان أول من رفع الأذان في مبنى الأمم المتحدة بناء على طلب وفود جميع الدول العربية والإسلامية، وهو أول قارئ يستقبله الرئيس الأمريكي كارتر، بل ويطلب منه تسجيل القرآن كاملًا في الولايات المتحدة، كما أنه انتخب كأول رئيس لاتحاد قراء العالم الإسلامي، في مؤتمر كراتشي بباكستان عام عام 1966.
الرئيس الأمريكي جمي كارتر يصافح الحصري
استقبل الشيخ الحصري الدنيا عام 1917، وحفظ القرآن ولم يجاوز سنه العاشرة، وامتدت رحلته مع القرآن حتى رحيله في 24 نوفمبر عام 1980، وبين الميلاد والرحيل ملأ الحصري حياة المسلمين بالتجويد والترتيل، وزار جميع الدولة العربية والإسلامية، وأوروبا وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، واستقبله كثير من زعماء العالم.
وتولى الحصري عددًا من المواقع التي خدم القرآن من خلالها، فقد عيّن عام 1960 شيخا لعموم المقارئ المصرية، كما عين عام 1962 نائبًا لرئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر، ثم تولى رئاستها خلفًا للشيخ عبد الفتاح القاضي، كما عين مستشارًا فنيا لشؤون القرآن بوزارة الأوقاف، وخبيرًا للقرآن بمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
عام 1949 عين الشيخ الحصري قارئًا للمسجد الأحمدي بطنطا، وظل به حتى اختير عام 1955 قارئًا لمسجد الإمام الحسين، خلفًا للشيخ محمد الصيفي، ولم تتوقف رحالاته إلى الخارج، فقد انهالت عليه الدعوات من الدول العربية والإسلامية، وفي بعض الأحيان كان يطلب من قِبَل الملوك والرؤساء، لاسيما في شهر رمضان.
يتلو من سورة النساء للتليفزيون المصري عام 1962
تميزت تلاوة الشيخ الحصري بنمط صارم من الوقار والرزانة، والحرص الشديد على أحكام التلاوة ومخارج الحروف، فأصبح الشيخ مدرسة كاملة المعالم والأركان في دولة التلاوة المصرية، وانتشر صوته في أرجاء الأرض، عبر تسجيله للقرآن الكريم مجودًا ومرتلًا برواية حفص عن عاصم، ثم تسجيلاته للمصحف المرتل بروايات ورش، وقالون، والدوري عن أبي عمرو.
لا يتمتع الحصري بمساحة صوتية واسعة، كما أن تلاوته تفتقد للثراء النغمي مقارنة بغيره من كبار القراء، لكن الرجل كان يعيش مع كلمات القرآن، ويحلق بها في حدود قدرته الصوتية، مع مراعاة شديدة لأحكام التجويد، وجاءت ختمته للمصحف المرتل الخاص بالإذاعة المصرية في غاية التوفيق، وتركت أثرًا كبيرًا في وجدان المستمعين.
يغلب مقام النهاوند على تلاوة الحصري، وقد قرأ به كثيرًا في المصحف المرتل، الذي سجل برعاية الحكومة المصرية، التي وزعت اسطوانات هذه الختمة على المراكز الإسلامية ووزارات الشؤون الدينية في العالم الإسلامي.
ويروي الدكتور محمد الحصري نجل القارئ الراحل، أن الحكومة عرضت على كثير من القراء تسجيل المصحف المرتل نظير عشرة آلاف جنيه سنويًّا، فرفضوا جميعًا، بينما قبل الحصري أن يسجل القرآن كاملًا دون أجر، وبعد النجاح المدوي لترتيل الشيخ، قرر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية طباعة المصحف المرتل على اسطوانات، وطرحه في الأسواق، على أن ينال الحصري عشرة قروش عن كل اسطوانة، ثم اكتشف المسؤولون بعد عام أن الشيخ حصل من هذه النسبة أكثر من ستة آلاف جنيه، فقرروا منحه اثني عشر ألف جنيه مقابل التنازل عن كل حقوقه.
ولعل الشيخ الحصري هو المقرئ المصري الوحيد الذي أَمَّ المصلين في الحرم المكي، بعد أن قدمه أئمة الحرم على أنفسهم، فقرأ سورة الكهف، وأبكى المصلين من خلفه، كما قرأ الشيخ على مسمع ملايين الحجيج يوم عرفة، ومن حسن الحظ أن تلاوته هذه مسجلة صوتًا وصورة، وقررت الحكومة السعودية السماح له بالقراءة في الحرمين كلما زار الديار المقدسة.
جموع المسلمين يوم عرفة يستمعون للمقرئ الكبير
يعتبر كثير من المحفظين أن الاستماع إلى تلاوة الحصري خير وسيلة لإتقان أحكام تجويد القرآن، ومخارج الحروف وصفاتها، وقد سجل الشيخ ختمة كاملة سميت بـ«المصحف المعلم»، قرأ فيها الحصري آيات القرآن دون أي نغم، لتكون تلاوته دروسًا للمهتمين بعلم التجويد.
في مسقط رأسه بقرية شبرا النملة بمحافظة الغربية، بنى الشيخ الحصري مسجدًا ومعهدًا دينيًّا، وأوصى بثلث ثروته للفقراء من القراء والمحفظين، وجعل وزارة الأوقاف قيمة على تنفيذ الوصية، وفي الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1980 أسلم الحصري الروح، بعد أن ترك تراثًا لا يقدر وذكرى لا تنمحي.