أحبه النبي ﷺ من لحظة التقاه حتى لحظة رحيله، وخصه وابنه أسامة بحب عظيم، حتى قالت أم المؤمنين عائشة: لو أن زيداً كان حياً لاستخلفه رسول الله ﷺ، وهو الوحيد من صحابة رسول الله ﷺ الذي جاء ذكره في القرآن بالاسم.
تبناه النبي صغيراً، وظل يدعى حِب رسول الله حتى مات، وهو أول من أسلم من الموالي، وشهد بدراً، وأُحداً، والحديبية والخندق وخيبر، وكان من الرماة المشهورين، وخرج في سبع سرايا، وأمَّره رسول الله ﷺ على كل جيش يكون فيه، آخى النبي بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب، وولاه إمارة المدينة المنورة مرتين، استخلفه عليها في السنة الثانية الهجرية، ثم استخلفه عليها مجدداً في السنة الخامسة.
وكانت خيل من بني القين بن جَسْر أغاروا على أبيات من بني مَعن من طيء، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن خرجت به إلى قومها تَزورهم فسبقته الخيل المُغيرة وباعوه في سوق حُباشة بناحية مكة، فاشتراه حكيم بن حِزام لعمته خديجةَ بنت خويلد، قبل أن يتزوّجها رسول الله ﷺ، فلمّا تزوجها رسول الله ﷺ وهبت خديجة رضي الله عنها لرسول الله ﷺ زيداً وهو يومئذٍ ابن ثماني سنين.
وحدث قبل البعثة، أن حج ناس من قومه، فرأوا زيداً بمكة، فعرفوه وعرفهم، فأعلموا أباه، ووصفوا موضعه، وعند مَن هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وسألا عن محمد بن عبد الله، فقيل لهما: إنه في الكعبة، فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا، وأحسن في فدائه.
ورغم حب رسول الله لزيد، إلا أنه ترك له حرية الاختيار، فقال لهما: ادعوا زيدًا، خيروه، فإن اختاركم، فهو لكم، بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء، ففرح حارثة أبو زيد، وقال للنبي: لقد أنصفتنا، وزدتنا، وأحسنت إلينا.
ولما جاء زيد كانت لهم مفاجأة لم يتوقعوها، بل لم تدر بخلدهم، سأله النبي: أتعرف هؤلاء؟، قال زيد: نعم: هذا أبي، وهذا عمي، فقال: فأنا مَنْ قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم، ولنا أن نتوقع حجم الدهشة التي أصابت الأب والعم اللذين جاءا يردان ابنهما ويفديانه بمالهما، ولكنه يأبى أن يلحق بهما، يأبى الحرية التي أرادوها له، يأبى أن يختار أحداً على محمد بن عبد الله، ولو كان أبوه وعمه وكل أهله، قال أبوه وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟، فقال زيد وقلبه مطمئن لقراره الذي استقر عليه: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
https://youtu.be/KrB_Y6xS18A
كانت تلك بصيرة زيد بن حارثة، وكان ذلك حظه الذي شاء له أن ينال شرف الانتساب إلى نبيه، وشرف الوجود في كنفه، فرح محمد بن عبد الله فرحاً شديداً، ودمعت عيناه، وأخذ زيداً وخرج إلى حجر الكعبة، حيث قريش مجتمعة، ونادى: يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني وأرثه، فلما رأى أبوه وعمه ذلك طابت نفساهما، ومن يومها صار زيد لا يُعْرف في مكة كلها إلا بزيد بن محمد.
ولما جاء الإسلام أسلم زيد، وكان ثاني المسلمين، وظل زيد يدعى زيد ابن محمد حتى نزل القرآن يبطل التبني بقوله تعالى: (وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم)، فسمي زيد بن حارثة، ومن بعد صار يُدْعى: حِبَّ رسول الله.
زوجه النبي ﷺ مولاته أم أيمن، فأنجبت له أسامة، وطلقها، ثم زوجه ابنة عمته زينب بنت جحش فبقيت عنده سنين، ولم تلد له، ولم تطب الحياة بينهما، وكانت تُدل عليه بما هي عليه من شرف النسب، فلما تكرّر ذلك عزم زيد على أن يطلقها، وذهب إلى رسول الله ﷺ يشكوها، فأخبره النبي أن يمسك عليه زوجه، ويصبر عليها، ولكن الله سبحانه أمر رسوله أن يطلق زينب من زيد، ويتزوجها هو، لإبطال عادة التبني التي كانت منتشرة في الجاهلية، حيث كان الابن بالتبني يعامل معاملة الابن من الصلب، ونزل فيه قوله تعالى:(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)(الأحزاب37).
كان زيد بن حارثة شجاعاً، ومن أحسن الرماة، اشترك في غزوة بدر، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الموت في أحد، وحضر الخندق، وصلح الحديبية، وفتح خيبر، وغزوة حنين، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أميرًا على سبع سرايا، منها: الجموع والطرف والعيص وحِسْمى، وغيرها، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قط، إلا أمَّره عليهم.
وحين تعددت غارات الروم على الحدود الإسلامية، وكانوا قد اتخذوا من الشام نقطة انطلاق لهم، سيَّر الرسول جيشًا إلى أرض البلقاء بالشام، سمي بجيش الأمراء، ووقف رسول الله ﷺ يُوَدِّعُهم فقال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فوثب جعفر فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما كنت أرغب أن تستعمل عليَّ زيداً، فقال: امض فإنك لا تدري في أي ذلك خير، فانطلقوا في جمادي الأول من العام الثامن الهجري، حتى نزل الجيش بجوار بلدة تسمى «مؤتة» التي سميت الغزوة باسمها، وتقابل جيش المسلمين مع جيش الروم الذي كان عدده يزيد على مائتي ألف مقاتل، ودارت الحرب، واندفع زيد في صفوف الأعداء، لا يبالي بعددهم ولا بعدتهم، ضارباً بسيفه يميناً ويساراً، حاملاً الراية بيده الأخرى، فلما رأى الأعداء شجاعته طعنوه من الخلف، فظل زيد حاملاً الراية حتى استشهد، وأخذها من بعده جعفر، ثم عبد الله بن رواحة على الترتيب الذي وضعه رسول الله ﷺ.
ثم إن رسول الله ﷺ صعد المنبر وأمر أن ينادى: الصلاة جامعة، فقال: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، انطلقوا فلقوا العدو فأصيب زيد شهيداً، استغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيدا، استغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فثبتت قدماه حتى قتل شهيدا، استغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، هو أمر نفسه، ثم رفع رسول الله ﷺ ضبعيه ثم قال: اللهم هو سيف من سيوفك انتصر به، فمن يومئذ سُمي خالد بن الوليد سيف الله.
وذهب رسول الله ﷺ إلى منزل زيد يواسي أهله، لقيته بنت زيد فأجهشت بالبكاء في وجهه فلما رآها رسول الله ﷺ بكى حتى انتحب، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟، قال ﷺ: (شوق الحبيب إلى حبيبه).