قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون)، نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى في آية كريمة أخرى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109).
أسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، وعمره ثماني عشرة سنـة، وهو أحد السبعين رجلا الذين قدموا من المدينة إلى مكة ليبايعوا النبي ليلـة العقبـة الثانية، فبايعه معهم، وحضر المشاهـد كلها، ولَزِم النبي منذ هجرته إلى المدينة فأخذ عنه القرآن وتلقى شرائع الإسلام حتى صار أقرأ الصحابة لكتاب الله وأعلمهم بشرعه، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله وشهد له النبي فقال: «استقرئـوا القرآن من أربعـة: من ابن مسعـود، وسالم مولى أبي حذيفـة، وأُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل»، وكان يقول عنه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل».
لقيه النبي ذات صباح فسأله: كيف أصبحت يا معاذ؟، قال: أصبحت مؤمنا حقّا يا رسول الله، قال النبي: إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟، قال معاذ: ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أني لا أمْسي، ولا أمْسَيت مساء إلا ظننت أني لا أُصْبح، ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتْبِعُها غيرها، وكأني أنظر إلى كل أمّة جاثية تُدْعى الى كتابها، وكأني أرى أهل الجنة في الجنة يُنَعَّمون، وأهل النار في النار يُعَذّبون، فقال له الرسول: «عرفتَ فالزم».
وقابله النبي ذات يوم، وقال له: يا معاذ، إني لأحبك في الله، قال معاذ: وأنا والله يا رسول الله، أحبك في الله. فقال: أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة: «رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وظل معاذ رضي الله عنه حريصاً على تمام سنة المصطفى متمسكًا بها، وكان يقول: من سره أن يأتي الله عز وجل آمنا فليأت هذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادي بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنه لكم نبيكم ولا يقل إن لي مصلى في بيتي فأصلى فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وكان رضي الله عنه دائب الدعوة إلى العلم وإلى ذكر الله، وكان يقول: احذروا زيْغ الحكيم، واعرفوا الحق بالحق، فإن للحق نوراً، وكان يرى العبادة قصداُ وعدلا، قال له يوما أحد المسلمين: علّمني، فسأله معاذ: وهل أنت مطيعي إذا علمتك؟، قال الرجل: إني على طاعتك لحريص، فقال له معاذ: صُمْ وأفْطِر، وصَلِّ ونَمْ، واكْتَسِب ولا تأثَمْ، ولا تموتنَّ إلا مُسْلِما، وإياك ودَعْوَة المظلوم.
وكان يرى العلم معرفة وعملاً، فيقول: «تعلموا ما شئتـم أن تتعلموا، فلن ينفعـكم الله بالعلم حتى تعْمَلوا»، وكان يرى الإيمان بالله وذكره استحضارا دائما لعظمته ومراجعة دائمة لسلوك النفس، يقول الأسود بن هلال: كُنّا نمشي مع مُعاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نُؤْمِنْ ساعة.
وكان معاذ أحد الذين يفتون على عهد رسول الله وهم: عمر، وعثمان، وعلى من المهاجرين، وأبي بن كعب ومعاذ، وزيد من الأنصار. بل قدمه عمر في الفقه، فقال: من أراد الفقه، فليأت معاذ بن جبل.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يجتمعون حوله ليتعلموا منه أمور الحلال والحرام، وكانوا إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا إليه هيبة له، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطـاب رضي اللـه عنه يستشيـره كثيرا، وكان يقول في بعـض المواطـن التي يستعيـن فيها برأي مُعاذ وفقهـه: «عجزت النساء أن يلدن مثله، ولولاه لهلك عمر».
ويقول أبو مسلم الخولاني: دخلت مسجد حمص فإذا جماعة من الكهول يتوسّطهم شاب برّاق الثنايا صامت لا يتكلم، فإذا امْتَرَى القوم في شيء تَوَجَّهوا إليه يسألونه، فقلت لجليس لي: من هذا؟، قال معاذ بن جبل: فوقع في نفسي حُبُّه.
مات الرسول ومعاذ بن جبل في اليمن، وفي خلافة أبي بكر رجِع معاذ إلى اليمن، وكان عمر بن الخطاب قد علِمَ أن معاذاً أثرى فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله، ولم ينتظر عمر بل نهض مسرعا إلى معاذ وأخبره، وقد كان معاذ رضي الله عنه طاهر الكف والذمّة، ولئن كان قد أثرى فإنه لم يكتسب إثما ومن ثم فقد رفض عرض عمر وناقشه رأيه، وتركه عمر وانصرف، وفي الغداة سارع معاذ إلى عمر يلقاه ولا يكاد يراه حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته ويقول: لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حَوْمَة ماء، أخشى على نفسي الغرق، حتى جئت فخلصتني يا عمر، وذهبا معا إلى أبي بكر وطلب معاذ إليه أن يشاطره ماله فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئا، فنظر عمر إلى معاذ وقال له: الآن حَلَّ وطاب، فما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق.
وأرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم ويوزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم فقام بواجبه خير قيام، وعاد الى زوجـه بحلسه (ما يوضع على ظهر الدابة) الذي خرج به فقالت له امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهـم؟، فقال معاذ: لقد كان معي رقيب يقظ يحصي عليَّ، فقالت امرأته: لقد كنت أمينا عند رسول الله وأبي بكر ثم جاء عمر فبعث معك رقيبا يحصي عليك، وشاع ذلك عند نساء عمر، وشكته لهن، فبلغ عمر، فأرسل إلى معاذ وسأله: أنا أرسلت معك رقيباً، فقال: يا أمير المؤمنين لم أجد ما اعتذر به إلا هذا، وقصدت بالرقيب الله عز وجل، فأعطاه عمر شيئا وقال: أرضها به.
أصيب معاذ رضي الله عنه بالطاعون، فلما حضرته الوفاة قال: «مرحبا بالموت مرحبا، زائر بعد غياب وحبيب وفد على شوق»، ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول: «اللهم إني كنتُ أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار، وجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند حلق الذكر، اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفسا مؤمنة»، ثم فاضت روحه بعيدا عن الأهل داعيا إلى الله مهاجرا في سبيله، وكانت وفاته في السنة الثامنة عشرة من الهجرة النبوية بناحية الأردن من الشام، عن عمرٍ يناهز ثمانية وثلاثين عاما.
طاعون عمواس الذي أصيب فيه معاذ رضي الله عنه حينما كان واليا على الشام
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لو اسْتَخْلفْت معاذ بن جبل فسألني ربي: لماذا استخلفته؟، لقلت: سمعت نبيك يقول: إن العلماء إذا حضروا ربهم عزَّ وجل كان معاذ بين أيديهم».