يعد الكاتب الكبير أحمد بهجت (15 نوفمبر 1932 ـ 11 ديسمبر 2011) من أغزر أبناء جيله إنتاجًا ومن أعظمهم موهبة، فقد ضرب في كل ميدان من ميادين الكتابة بسهم، ولم تطش سهامه، فهو كان يكتب الأخبار والتحقيقات والحوارات والمقالات والزوايا الثانية وبرامج الإذاعة ومسلسلاتها وأفلام السينما، إلا أن قدراته الخاصة كانت تتجلى عندما يكتب القصة القصيرة، فقد كان، رحمه الله، يستطيع تحويل أبسط الحوادث وأعظمها إلى قصص قصيرة محكمة ممتعة.
كتب أحمد بهجت عن وجوه المواطنين الذين لا يعرفهم أحد، وهم يتخبطون في زحام الشوارع والحياة، كما كتب عن الجبابرة الذين كانت تهتز لهم الدنيا، تلك المقدرة الفريدة جعلت كتبه تتكرر مرات طباعتها بطريقة تليق بجودتها، وقد قال المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، قبل عشرة سنوات إن كتاب بهجت «قصص الأنبياء» قد طبعته داره ستًا وثلاثين مرة!.
وعلى الرغم من هذا الذيوع لأغلب كتب أحمد بهجت إلا أن كتابه «صائمون والله أعلم» الذي نشرته دار الشروق قبل عشرين عامًا نادرًا ما يلتفت إليه النقاد، وهذا التجاهل من الأمور العجيبة، فالكتاب يضم قصصًا ساحرة كتبها بهجت بمزاج رائق وتدور كلها عن شهر رمضان المعظم.
من بداية الكتاب وضع بهجت في قلبه المعنى الحقيقي للصوم، وهو السرية، فكل العبادات علنية، يعلم بها الذين يحيطون بك، فقد يرونك تصلى أو تزكي أو تحج و لكن أحدًا أبدًا لن يعرف هل أنت صائم حقًا أم لا؟.
فهى عبادة سرية، ولذا قال مولانا عز وجل في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». فلا يعلم بالصيام والفطر إلا الله.
تلك السرية هى لب قصص بهجت، فكل قصص الكتاب تدور حول ما يفعله الصوم في النفوس وفي القلوب، ولأن بهجت هو بالأساس صحفي، ثم هو صحفي ساخر فقد تنوعت قصصه تنوعًا مدهشًا، فهو يسجل لحظات الصوم عند مختلف طوائف المجتمع فهو يكتب عن الصحفي والصوفي والمدير العام ورب الأسرة المحترم، والطفل والنشال والراقصة.
عظمة بندق
كان النشال بطل القصة قد شرب الصنعة على يديّ النشال الأعظم بندق، وكان هذا البندق يضع سترته على حبل وبداخل السترة عشرة أجراس صغيرة جدًا، فيأتي الناشئ من النشالين ويتعلم كيف يسرق السترة بدون أن تتسبب حركته في أن يرن جرس واحد، فإن رن الجرس فإن كف بندق سترن على وجه الناشئ الأرعن!
تعلم صاحبنا على يد بندق الذي لقي مصرعه بعد عملية نشل تحت عجلات الترام، فأصبحت راية النشالين معقودة لصاحبنا الذي كان مثقفًا ويقرأ الجرائد ويفاخر بنفسه قائلًا: «أصابعي أعظم من أصابع الموسيقار شومان».
وقد بلغت مهارة صاحبنا درجة عظيمة فهو لم يكن يحتاج إلا إلى ثانية وربع الثانية لكي يقوم بعمليته!
مشهد من فيلم سواق الأتوبيس
ثم جاء رمضان ففرح صاحبنا لأن رمضان موسم معتبر من مواسم النشل، خاصة في ساعات العصر، لأن الصائم يفقد معظم تركيزه في تلك الساعات.
صعد صاحبنا إلى الأتوبيس فوجد بغيته، رأى رجلًا طويلًا عريضًا تبرز حافظته من تحت جلبابه، حيث تنام مطمئنة في جيب الصديري.
المشكلة أن الضحية كان يضع يده فوق صدره لحماية حافظته. نظر النشال لمسرح العمليات فوجد أنه يحتاج لنصف ثانية وتكون الحافظة معه، ثم نصف ثانية لكي يصل إلى باب الحافلة وربع ثانية لكي يقفز إلى الرصيف ثم يتوه بين حشود المارة.
ضرب النشال ضحيته ضربة مؤلمة كان حريصًا على أن تبدو عفوية بحكم اهتزاز الحافلة، رفع الضحية يده عن صدره فطارت الحافظة لتكون بين يدي النشال الذي قفز بغنيمته من الحافلة، ولكن كانت الحافظة مقيدة بدوبارة إلى صدر صاحبها، كانت الدوبارة أمتن من حبل من الحديد، لم تسعف النشال حيلته لكي يقطع الدوبارة بشفرة يحتفظ بها في جيبه، كان يجري خلف الحافلة والدوبارة صامدة لا تريد أن تنقطع، وجد نفسه يكاد يسقط تحت إطارات الحافلة فأفلت الحافظة.
كان يلهث وهو يحمد الله لأنه لم يسقط قتيلًا مثل أستاذه بندق، بين اللهاث والحمد تذكر فجأة أن اليوم من أيام رمضان، ورمضان يعني الصيام، والصيام يعني التقوى وليس سرقة الناس، ورمضان لديه إشارات وقد أرسل له إشارة بأن يكف عن السرقة ويحترم مال الناس وعرقهم، فجأة تقاطرت على رأسه صور العذاب وصور النعيم وصور الذين يموتون وهم يسرقون، فقرر الصيام من ساعته وهو الذي لم يسبق له أن صام يومًا واحدًا في حياته.
الرقص بملابس كاملة
بعضهم يصوم نهاره ويقضي ليله في علب الليل، وكانت بطلة قصتنا من الراقصات التي يشار لهن بالبنان، ولكنها كانت راقصة تعيسة، تمقت العري وتمقت الوحدة وتحب الحب، كان لديها حبيب غدر، ولكنه ترك لها كلمة حب في خطاب تمزق من كثرة ما طالعته.
في ثبوت رؤية هلال رمضان قررت صاحبتنا أن تعلو فوق كل رغبة وشهوة، كانت تريد تجريب الحقائق كاملة لا أنصافها، هى دائمًا ساقطة في منطقة البين بين، فهى محبوبة ولكن قلبها فارغ، وهى محاطة بكثيرين ولكن الوحدة تعضها، وهى تضحك بينما يبكي قلبها، كانت تريد حسم موقفها مع هذه الحياة، تريد تعاسة مكتملة أو فرحة صافية.
في صباح أول أيام رمضان قررت تجريب العطش الكامل والجوع الكامل فصامت، ذهبت صائمة إلى صاحب علبة الليل وقالت له: «قررت عدم فتح زجاجات الخمر للزبائن وقررت الرقص بملابسي الكاملة».
طبعًا سخر منها الرجل وصب على رأسها ما شاء من لعنات، سخريته ولعناته جعلت من قرارها قرار حياة أو موت، في الحقيقة هي لم تكن تبحث سوى عن تجربة، مجرد تجربة ولكن بحثها أوقعها في اختبار حقيقي، مؤلم وموجع.
غادرت الكباريه بعد أن ردت الصاع صاعين لصاحبها، جاءت ساعة العصر فذاقت عذاب الامتناع عن التدخين وعن الشراب وعن الطعام وعن كل تفاصيل حياتها التي تعرفها.
ضربها صداع لم تجرب مثله فجلست مستسلمة مقررة مواصلة الصوم حتى موعد الإفطار وليكن ما يكون، لمعت بداخلها نقطة ضوء عجيبة، رأت داخلها يتطهر وينتعش بقرار التحدي، رأت الحب الذي أنفقت عمرها تبحث عنه، ستحب نفسها أولًا ولن تستسلم لرجل يلقي بها بعد استخدامه لها في أقرب سلة مهملات، ستحب هذا الجوع وهذا الظمأ بل ستحب الصداع ولن تمد يدها لعلبة سجائرها.
ثم جاء الإفطار فأكلت بشهية لم تكن تتوقع أنها تمتلكها، ثم جاء السحور فزارتها راقصة صديقة وقالت لها: «ليس لديك مدخرات، ورمضان موسم من مواسمنا، فكيف ستعيشين عندما لا تذهبين إلى العمل؟».
بعد أن غادرت صديقتها قالت لنفسها: «غدًا سأبيع الراديو وأعيش على ثمنه أما بعد الغد فالحل سيأتي من الله ولكن لن أعود للإفطار ثانية».
ثم ما أعذب هذا الكتاب الذي يلتقط برهافة – تُميز كتابات الراحل الكريم أحمد بهجت – تفاصيل غاية في الدقة ترسم ملامح حياة وتضاريس أزمنة ونفوس، فليتنا نرى لهذا الكتاب النادر طبعة شعبية جديدة نتمتع بها.