عشر آيات تتحدث عن قصة أليمة هزت المجتمع المدني بأسره شهراً كاملاً، عُرفت في السيرة النبوية بحديث الإفك، وملخص القصة كما وردت في كتب الحديث والسيرة: أن المنافقين استغلوا حادثة وقعت لأم المؤمنين عائشة، في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعيرـ وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت لم تجد الرَكْب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مر بها أحد أفاضل أصحاب النبي وهو صفوان بن المعطل السلمي فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة، فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولى ذلك رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وأوقع في الكلام معه ثلاثة من المسلمين، هم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمنة بنت جحش.. فاتُهِمت أم المؤمنين عائشة بالإفك.
وقد أوذي النبي بما كان يقال إيذاء شديدا، وصرح بذلك للمسلمين في المسجد، حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلته، ولولا تدخل النبي وتهدئته للصحابة من الفريقين لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج.
أما عائشة فقد مرضت شهراً، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوى أنها كانت لا تعرف من رسول الله اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة، واستأذنت رسول الله، لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنومٍ، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها.
تقول أم المؤمنين: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد رسول الله حين جلس ثم قال: «أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه».
قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم، وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر – والله يعلم أني بريئة – لتصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون»، ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن – والله – ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله – عز وجل – فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سري عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أما الله فقد برأك». فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في براءتي:
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ. لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ. وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
صدق الله العظيم