عمار بن ياسر حين بعث رسول الله سرية، وكانوا سبعة نفر، عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، كان هو فيهم، وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل ملل، فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه أن «سِرْ حتى تنزل بطن نخلة».
قال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لأمر رسول الله فسار إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو الحضرمي، فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين، وما غنموا من الأموال قال المشركون:
محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام، فأنزل الله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 217).
هو عمار بن ياسر ابن عامر، وأمه هي سمية مولاة بني مخزوم من كبار الصحابيات قتلها أبو جهل، وكان عمار يكنى أبا اليقظان، عُذب هو وأبواه في الله عذاباً شديداً، وأمه أول شهيدة في الإسلام، هاجر إلى المدينة، واستأذن مرة على النبي فقال: ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب، ولَّاه عمر الكوفة، وكتب إلى أهلها يقول لهم: إنه من النجباء من أصحاب محمد.
وهو أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنة، عاش قرابة مائة عام، وشهد بدراً وأحداً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها مع رسول الله، وشهد قتال مسيلمة الكذاب في اليمامة، وأبلى فيه بلاءً حسناً، وقطعت أذنه يومها، وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الجمل وصفين، وفيها استشهد، وقال عنه رسول الله: (تقتله الفئة الباغية).
سعى عمار إلى الإسلام مبكراً في أول الدعوة، فذهب إلى النبي وهو في دار الأرقم بن الأرقم مستخفٍ من قريش ومعه صحبه من المسلمين الأوائل، ذهب إليه يسمع منه عن ذلك الدين الجديد، الذي وجد قلبه مشدوداً إليه من أول يوم سمع فيه عنه، وهناك لدى باب الأرقم لقي صهيب بن سنان، يقول عمار: فقلت له: ما تريد؟، قال لي: ما تريد أنت؟، فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون.
وكان أول ما جابهت به قريش المسلمين في تلك المرحلة أن اشتدت في تعذيب المستضعفين منهم، ممن ليست لهم منعة ولا قوة، فكانت تعذبهم في الرمضاء بأنصاف النهار ليرجعوا عن دينهم، تفنن المشركون في تعذيب عمار وعائلته، ولم يقتصر التعذيب على عمار وحده بل طال كل العائلة، عذبوه وأمه وأباه، وقد مر النبي بآل عمار وهم يعذبون فقال لهم: أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، وطعن أبو جهل السيدة سمية فماتت، لتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يلحق بها زوجها ياسر من شدة التعذيب.
مشهد تعذيب آل ياسر من فيلم الرسالة
ولم تتراجع سطوة التعذيب والقهر عن عمار، بل أمعنوا فيها، وضعوا الصخر على صدره، وأغرقوه، وكانوا يضعون رأسه في الماء، ويضربونه بالسياط، ويحرقونه بالنار، فمرَّ عليه النبي، ووضع يده الشريفة على رأسه وقال: يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت بردًا وسلامًا على إبراهيم.
وطلبوا من عمار أن يسب رسول الله، وتحت القهر، والتعذيب، وتحت الإكراه الحقيقي، وتحت القتل الفعلي الذي حدث لأعز الناس لديه بعد رسول الله قال ما أراد الكفار له أن يقوله، قاله بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان، وخشي أن يكون قد وقع في الإثم، فذهب باكياً معتذراً إلى الرسول يشكو إليه ما بدر منه، يقول: قد قلت فيك كذا وكذا، ولكن رسول الله لم يكن يهمه غير قلب عمار، غير ما استقر في يقينه، فسأله يطمئنه ويطمئن عليه: (كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟)، قال: أجده مطمئناً بالإيمان، فقال (إِنْ عَادُوا فَعُدْ).
وأنزل الله عز وجل يحذر من الكفر بعد الإيمان، ويعد من يفعل ذلك بغضب من الله، واستثنى عز وجل الذين قالوا كلمة الكفر وقلوبهم بالإيمان عامرة: (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106).
هاجر عمار الهجرتين، إلى الحبشة أولاً، ثم إلى المدينة، وآخى رسول الله بينه وبين حذيفة بن اليمان، ولما بنى رسول الله مسجده جعل القوم يحملون وجعل النبي يحمل هو وعمار، فجعل عمار يرتجز ويقول: نحن المسلمون نبتني المساجدا، وجعل رسول الله يردد وراءه: المساجدا، وكان الصحابة يحملون لبنة، لبنة، وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين، وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك، فقال بعض القوم ليموتن عمار اليوم، فسمعهم رسول الله فنفض لبنته، وجعل ينفض التراب عن رأس عمار، ويقول: «ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية».
وبعد وفاة رسول الله قاتل عمار المرتدين في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، ويروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟، أنا عمار بن ياسر، هلموا إليَّ، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تدبدب، وهو يقاتل أشد القتال.
وانحاز عمار إلى علي بن أبي طالب، وقاتل معه، وعاتبه في ذلك بعض الصحابة، فقال له أبو مسعود الأنصاري: ما رأيتُ منك شيئاً منذ صحبتَ النبي أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر، قال عمار: يا أبا مسعود، وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر.
كان يؤمن أنه يقاتل في جانب الحق، وفي يوم صفين، وكان يعرف أنه على الحق، وأن الفئة الباغية تقتله، وكان صحابة رسول الله الذين انحازوا إلى القتال مع علي رضي الله عنه يعرفون تلك العلامة، فكانوا يتتبعون عماراً حيث يقاتل، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: شهدنا صفين مع علي، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية، ولا واد من أودية صفين، إلا رأيتً أصحاب النبي يتبعونه، كأنه علم لهم، قال: وسمعته يومئذ يقول لهاشم بن عتبة بن أبي وقاص: يا هاشم تفر من الجنة، الجنة تحت البارقة، اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمت أنَّا على حق، وأنهم على الباطل.
وحين جاء أجله، قال: ائتوني بشربة، فأُتي بشربة لبن، فقال: إن رسول الله قال: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن، وشربها ثم قاتل، حتى قتل، وكان عمره يومئذ فوق التسعين.