«أما أنا فقليلة هي البهجة التي شعرت بها، وأقل منها الإثارة التي انتابتني في ذلك اليوم الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت إلى بغداد. لم يكن السبب أنني رأيت لندن وباريس والقاهرة ودمشق، لقد نسيت أسفاري، وما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أية مدينة في العالم سوى مدينة واحدة، مدينة واحدة أذكرها، أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرحة وسقوفها المهدمة. وقد أتيت إلى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بها –القدس-». من رواية «صيادون في شارع ضيق» للأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا.
أن يكون الأديب ابن «بيت لحم» الفلسطينية، فعليه أن يعيش تجربة الشتات ويتذوق طعم الغربة بحثًا عن «عالم بلا خرائط». هل تساعده تجربته تلك كفلسطيني قضى معظم حياته ببغداد حتى توفى فيها سنة 1994 في تناول القضية الفلسطينية بطريقة تختلف عن غيره من الأدباء؟ أن يكون الأديب ناقدًا ومترجمًا لعدد غير قليل من إبداعات شكسبير، هل يعينه ذلك على انفتاح فضاء عمله الأدبي بطريقة مختلفة عن غيره من الأدباء؟ تساؤلات عدة تفرض نفسها على من يختار أن يُبحر داخل عالم جبرا إبراهيم جبرا الأدبي، بحثًا عن معالم فضاء عالمه وسمات تجربته الإبداعية.
من بغداد إلى بيت لحم
الإبحار في الفضاء المكاني للعالم الروائي للأديب جبرا إبراهيم جبرا، يعد مغامرة ذات شجون، ذلك أن عالمه الروائي محمل بالعديد من تفاصيل مدينتي القدس وبغداد، بما تشكلانه من محطات مهمة يرتحل إليهما أبطال وشخصيات رواياته.
الدكتور إبراهيم جنداري في دراسته «الفضاء الروائي في أدب جبرا إبراهيم جبرا»، يتناول بالتفصيل أبرز معالم الفضاء الروائي في تجربة جبرا إبراهيم جبرا الإبداعية، مشيرًا إلى أن المدينة تشكل بؤرة الحركة في معظم روايات جبرا، فهي المكان الغالب وفيها يتجلى الصراع ومنها ينبثق ويتعرج ويشتد وصولا لحل.
يضيف جنداري أن المدينة في رواية «صراخ في ليل طويل» مدينة غامضة مجهولة، لا يسميها جبرا بل يتحدث عنها بعمومية فضفاضة: «كنت أعرف المدينة من الداخل والخارج، بل أنني قبل أن أخلص من شبكة الفقر الذي عانته عائلتي منذ قرون، كنت قد اشتركت في عدد كثير من معارك المدينة، وشممت جزءاُ سخياً من نتنها»، المدينة هنا حاضرة بصورتها السلبية، غير أنها مدينة مجهولة لا اسم لها.
أما رواية «صيادون في شارع ضيق» فالمدينة فيها واقعية تسمى باسمها أنها بغداد، يحرص جبرا على أن ينقل للقارئ الكثير من تفاصيلها وتضاريسها وعلاقته بها: «عندما تصل إلى مدينة كبيرة فإنك تكون مثاراً ولن تفكر طويلًا بالفندق الذي ستنزل فيه لأن الشوارع تستصرخك لكي تمشي فيها. كما أنك تشعر بأن في المدينة جوًا من التوقع كما أنها كانت خلال هذه الأعوام كلها تزين نفسها لتلقاك. تريد أن تهرع لتراها كلها في ساعة من الزمن، وفي تلك الساعة تتركز مغامرات أحلامك كلها».
غير أن المدينة المستقرة في أعماق الراوي لدى جبرا تنهض من الذاكرة، أنها القدس تلك المدينة التي يصفها في روايته «السفينة»: «أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق. قيل إنها بنيت على سبعة تلال، لست أدري إن كانت تلالها سبعة، ولكنني ارتقيت كل ما فيها من تلال، وهبطت كل ما فيها من منحدرات، بين بيوت من حجر أبيض وحجر أحمر، بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض مع الطرق الصاعدة النازلة كأنها جواهر منثورة على ثوب الله».
ثمة مدن أخرى يضمها جبرا في رواياته من لبنان وإيطاليا ومدينة عمان والنجف، غير أنه دائمًا وأبدًا ما يعود إلى مدينته المقدسة «القدس» ومقر ميلاده «بيت لحم»، التي يصفها في رواية «البحث عن وليد مسعود»: «كانت بيت لحم تبدو لي أنها اجتزأت من الفردوس، ولكننا ما عندنا نسمع فيها تلك الأيام إلا أخبار الوفيات. القديسين، والأعياد والموتى. وإذا جاء عيد الميلاد، بنواقيسه وترانيمه الفرحة لم يكن أكثر من زخة مطر وجيزة فيها بعض بذور للحياة، في شتاء قاحل أجرد يدوم طوال السنة، مليئًا بأناشيد الجنائز، في لغات عديدة ومراسيم مختلفة».
على هذا تظل حركة معظم شخصيات جبرا في أمكنة واقعية واضحة فحركة وليد مسعود على سبيل المثال في رواية «البحث عن وليد مسعود»، تمر عبر فلسطين وإيطاليا ومصر ولندن وبغداد، ووليد عساف يمر بالقدس حيث الانتماء والكويت للعمل وبيروت لغرض الدراسة، ومدن أوروبا للهرب، وتظل القدس لديه هي المدينة الأمل.
بين الشوارع والأزقة
يرتحل أبطال وشخصيات روايات جبرا إبراهيم جبرا، بين المدن فيتوغل في وصف أحياء وشوارع وأزقة تلك المدن فينقل الكثير من تفاصيلها، وتظل الطرق والأماكن المهجورة والمنعزلة ثمة متكررة. أما المقهى فتحتل مكانة خاصة لدى جبرا، بما تحمله من رمزية تسم العديد من المدن، كما أن للمبغى والحانات حضور ببعض أعماله، إضافة للحمامات العامة.
لا يقتصر الاهتمام بالفضاء المكاني لدى جبرا على وصف الأحياء والشوارع والأزقة والمقاهي وغيرها من أماكن تقع بالفضاء العام، وإنما يحرص كذلك على وصف البيوت والغرف، حتى ان إحدى روايته تحمل عنوان «الغرف الأخرى».
وكما يهتم «جبرا» بوصف المكان يهتم كذلك بوصف الأشخاص والأشياء، وقد يحمل الشيء مكانة ودلالة تفوق كونه مجرد شيء «فالصخرة أو الحجر» على سبيل المثال هي الأرض، وهي الوطن، وهي القدس، وهي القضية الفلسطينية في مجملها، كما يصفها في رواية «السفينة»: «قلنا إن الصخر يرمز إلى القدس: شكلها شكل الصخر، تضاريسها تضاريس الصخر، والصخر على حافة كل طريق في المدينة. فلسطين صخرة. تبنى عليها الحضارات، لأنها صلدة عميقة الجذور، تتصل بمركز الأرض، والذين يصمدون كالصخر يبنون القدس، يبنون فلسطين كلها».
المكان لدى جبرا إبراهيم جبرا يفوح منه عبق التاريخ، فالقدس بحضورها القوي لديه تعيد القارئ إلى امتدادها التاريخي، ونهايات روايات جبرا تتميز بكونها نهايات مفتوحة تمامًا بلا حدود، وربما يرجع ذلك إلى كون عالمه الروائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوطن المحتل «فلسطين»، وهو ما جعل شخصياته تعود دائما للماضي في محاولة لخلق حالة من التواصل الدائم بين الماضي والحاضر، وهو ما جعل جبرا يعتمد في بعض الأحيان على الرسائل والمذكرات التي تأتي محملة بالذكريات.
وأخيرًا؛ هل نجح جبرا إبراهيم جبرا عبر رواياته في معالجة القضية الفلسطينية بطريقة مختلفة عن غيره من الأدباء؟ بالطبع نجح جبرا في ذلك نجاحًا باهرًا، فقارئ أعماله سوف يشاهد بعينيه تفاصل شوارع وأزقة وبيوت القدس وسوف يسمع بآذنيه ترانيم الكنائس ببيت لحم، ويستنشق عبق الزعتر والزيتون، ففلسطين لديه ليست قضية عامة وفقط، فلسطين لديه كائن حي ينبض بالحياة، صخرة تضرب بجذورها عمق الأرض، حُفر عليها تاريخ أجيال وأجيال.