عكست التطورات التي شهدتها مدينة القاهرة العديد من مظاهر التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة وقد تبارى العديد من الأدباء عبر إبداعاتهم المختلفة في محاولة رصد تلك التغيرات التي لحقت بمعشوقتهم الساحرة.
باحثة العلوم السياسية شيماء محمد الشرقاوي، في رسالتها للماجستير التي حصلت عليها من قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تحت عنوان: «الأدب كمصدر للفكر السياسي في مصر: دراسة في المدينة وعلاقات القوة.. مدينة القاهرة نموذجًا» طرحت في دراستها عدة تساؤلات حول كيفية معالجة الأعمال الأدبية المصرية لقضايا علاقات القوة وتحولاتها داخل مدينة القاهرة، مع التركيز على عدد من القضايا، كان من بينها قضية مدينة القاهرة كفضاء للصراع السياسي الاجتماعي مستعينة في ذلك برواية «ذات» لصنع الله إبراهيم ورواية «لصوص متقاعدون» لحمدي أبو جليل.
قاهرة صنع الله إبراهيم
صنع الله إبرهيم ابن القاهرة الذي قضى أكثر من خمس سنوات من حياته ما بين 1959 و1964 كمعتقل سياسي وتتميز معظم أعماله بالربط ما بين سيرته الذاتية وتاريخ مصر الاجتماعي والسياسي، والمعروف بكونه لم يفصل يوما بين ما يكتبه في أعماله الأدبية وبين قناعاته الفكرية والسياسية التي تجلت بوضوح حين رفض قبول جائزة «ملتقى القاهرة للإبداع الروائي والعربي» لعام 2003 عام الإحتلال الأمريكي للعراق، إحتجاجا على ما كانت تعانيه مصر في عهد حسني مبارك من تبعية ومشكلات تتعلق بحقوق الإنسان والحريات والفساد. تُرى كيف تناول صنع الله إبراهيم في روايته «ذات» قضايا الصراع السياسي والاجتماعي في مدينة القاهرة؟
صنع الله إبراهيم وروايته «ذات»
دأب صنع الله إبراهيم على استخدام مقاطع صحفية يربط من خلالها ما بين الخاص والعام في عمله الروائي، وفي روايته «ذات» الصادرة في 1992 حرص على رصد ما قد تعرضت له بطلة الرواية «ذات» من تشوه «مادي واقتصادي وأيديولجي واجتماعي» بما شهدته مصر من تشوه خلال فترتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
صدرت رواية «ذات» بعد مرور ما يقرب من 20 عاما على ما أطلق عليه «سياسات الإنفتاح» التي تبناها نظام السادات، ومن خلال أسرة «ذات» بطلة الرواية والأسر المجاورة لها بذات العمارة التي تقيم بها، يرصد صنع الله الكيفية التي بدل بها تدفق رأس المال الجديد الحيز الحضري لمدينة القاهرة على المستويين المادي والاجتماعي وكيف دفع ذلك التاثير إلى خلق أنماط جديدة من الاستهلاك والسلوكيات الاجتماعية التي لم تكن موجودة من قبل.
تبدأ داخل العمارة «مسيرة الهدم والبناء» كما يطلق عليها الراوي بسخرية، وذلك بالتزامن مع ما أطلق عليه «سياسة الباب المفتوح» التي ظهرت بالمجال الاقتصادي والسياسي العام، وما جعل مسيرة الهدم والبناء ممكنة هو ذلك التغيير الذي طرأ على ثروات السكان نتيجة للحراك الإقتصادي والإجتماعي الجديد الذي جاء مصاحبا لفترة السبعينات الناجم عن سفر العمالة المصرية لدول الخليج.
مشهد من مسلسل ذات
تتجسد بالرواية تغيرات الزمن من خلال عمليات هدم المباني القديمة وزحف عالم جديد يقضي في طريقه على العالم القديم، ويتجلي ذلك عبر استعراض مشروعات تجميل منطقة مصر الجديدة، وما يتصل بها من هدم الفيلات والعمارات القديمة لتحل محلها ناطحات السحاب الزجاجية الجديدة.
رصد صنع الله في روايته العديد من مظاهر حركة الإحلال الذي تعرضت له العديد من أحياء القاهرة والتي نجم عنها تردي البنى التحتية ومن ثم هجرها الأغنياء وتوجهوا للسكنى بالأحياء الجديدة المغلقة على ساكنيها، ذلك أن أحياء مثل مصر الجديدة والمعادي والزمالك وجاردن سيتي لم تعد تلبي احتياجات الطبقة البرجوازية الجديدة التي ظهرت بمصر.
غير أن صنع الله إبراهيم مع ما قد رصده من تشوه على المستويين الخاص والعام لم يستطع سوى أن ينتصر للعدل والجمال: «وهكذا تحركت آله العدالة اليقظة في وقت غير مناسب على الإطلاق بالنسبة للشنقيطي، إذ كان بسبيله لشراء شقة واسعة من أربع غرف بمدينة نصر، على أثر الإنتهاء من تركيب ساعات ضخمة في ميادين مصر الجديدة فوق خوازيق من البلاستيك، توطئة لإزالتها واستبدالها بساعات مجسمة من الزهور. وفي اليوم الذي انتهى فيه تركيب الساعات، وقبل أن يتم تشغيلها، استدعى رئيس مجلس الحي للتحقيق في مبنى المحكمة المقابل لمكتبه، وذهب الشنقيطي معه، لا من قبيل التضامن، وإنما لأنه كان مطلوبا هو الأخر».
مشهد من مسلسل ذات
قاهرة حمدي أبو جليل
حمدي أبو جليل ابن الفيوم الذي قدم إلى القاهرة في بداية حياته كعامل بناء حتى يتسنى له التردد الدائم على الصحف المختلفة كي ينال فرصة لنشر قصصه المختلفة ومن ثم الإستقرار بها متنقلا بين بعض أحياءها من عين شمس لشبرا وصولا إلى منطقة منشية ناصر بحي حلوان والذي اتخذ منها مستقرا لعالم روايته القصيرة «لصوص متقاعدون» التي صدرت سنة 2002. تُراه يختلف في رؤيته لطبيعة الصراع الاجتماعي السياسي الذي شهدته مدينة القاهرة عن رؤية غيره من الأدباء؟
تنتمي كتابة حمدي أبو جليل لكتابات جيل التسعينات التي تقترب من عالم السيرة الذاتية وتتميز بوجود الراوي وروايته القصيرة «لصوص متقاعدون» لا تتضمن حبكة معينة بقدر ما تسرد من وقائع لشريحة اجتماعية بعينها، فمن خلال شخصية الراوي الذي ينتمي لإحدى القبائل البدوية وقدم إلى القاهرة وقطن بمنطقة منشية ناصر بحي حلوان الذي يعد ضاحية صناعية تقع بجنوب القاهرة. تستعرض الرواية حكاية تلك الضاحية إضافة لطبيعة التغيرات التي طرأت عليها والمغامرات المرتبطة باستقبال وطرد السكان الجدد.
يقدم أبو جليل عبر شخصية الراوي لمحات من تاريخ منطقة منشية ناصر ليتعرف القارىء عليها كمنطقة عشوائية يتميز الفضاء العام بها بهويته الخاصة التي تعبر عن نفسها بطرق مختلفة كمنطقة تم بناءها لإستقبال أبناء الريف الذيم قدموا للعمل بالمدينة الصناعية حلوان.
يربط أبو جليل ما بين فضاء تلك المنطقة العشوائية التي تقع بقلب المنطقة الصناعية حلوان والفترة الناصرية وما يرمز إليه ذلك الفضاء من مسيرة مشروع التحرر الذي شابه التدهور التدريجي وكانت نتيجته ذلك المجتمع شبه المغلق الذي يعيش أفراده فيما يشبه «جيتو» الفقر شبه منفصلين عن مدينتهم الكبيرة القاهرة.
تقع أحداث الرواية داخل فضاء منشية ناصر مع وجود بعض الإشارات لخروج بعض الشخصيات خارج ذلك الفضاء وهم بالطبع هؤلاء الأشخاص الذين يتسمون بالإندماج الإجتماعي مع المجتمع الكبير القاهرة.
استعان أبو جليل بالأسلوب الساخر للحد من قسوة نظرته المريرة لواقع الأهالي الذين يعيشون بفضاء منشية ناصر ومنظومة القيم الأخلاقية السائدة والناجمة بالأساس عن سطوة المكان وتحكمه.
على الجانب الآخر حرص الراوي في الرواية على الإشارة إلى كون منشية ناصر تعد قرية صغيرة أكثر من كونها حيًا واقعيًا يقع بإحدى المدن الكبرى، فمساحة الخصوصية فيها محدودة للغاية وتنتشر بها الأخبار والشائعات بسرعة البرق.
يرصد أبو جليل في روايته الطابع اللارسمي لنشأة منطقة منشية ناصر كمنطقة عشوائية ترافق نشأتها مع ما شهدته ضاحية حلوان من تاسيس لمشروعات الإسكان العام المدعوم من قبل الدولة في عهد عبد الناصر.
مدينة القاهرة كفضاء للصراع السياسي الاجتماعي
مدينة القاهرة التي باتت بورة للصراع السياسي والإجتماعي والتي حار بشانها الأدباء وباحثي العلوم السياسية ربما يمكن تفهم بعضا من جوانب أزمتها إذا ما عدنا لدراسات ديفيد هارفي الذي لفتت الباحثة شيماء الشرقاوي النظر لرؤيته حول المدينة كفضاء للصراع السياسي الإجتماعي والتي تضمنت الإشارة إلى أهمية التوجه نحو دراسة الصراعات على الحيز المديني ونوعية الحياة اليومية في الفضاءات العامة بوصفهما مجالان جوهريان في فهم ديناميات الصراع الطبقي بما يتضمنه من صراع اجتماعي سياسي، إلى جانب أهمية دراسة الكيفية التي تتشكل بها المدن وما تتضمنه من تشكل ما أطلق عليه «جيتو» الأغنياء الذي ينفصل فيه الأغنياء عن العالم في مقابل «جيتو» الفقراء كتعبير عن تلك الإنقسامات الحضرية الحادة التي باتت تشهدها المدن، ذلك أن تاريخ المدن قائم على وجود «جيتو» الفقراء، غير أن «جيتو» الأغنياء يعد ظاهرة جديدة لم تكن المدن تألفها من قبل.
تلفت شيماء الشرقاوي النظر إلى ما أشار إليه هارفي من أن عملية تخطيط المدن ظاهرة طبقية بالأساس ترتبط بتراكم رأس المال والاستغلال الإقتصادي وتهميش المواطنين في الضواحي الفقيرة من المدينة لحساب مراكز الثروة والسلطة والاستهلاك والاستثمار في وسط المدينة. بناءا عليه يرى هارفي أن الصراعات داخل المدن لا ترتبط بالأوضاع الطبقية فقط وإنما ترتبط أيضا بحرمان فئات من المواطنين من تمتعهم بحقوق المواطنة عن طريق حرمانهم من حقهم في المدينة.
إجمالا: فأن كلا العملين الروائيين «ذات» لصنع الله إبراهيم، و«لصوص متقاعدون» لحمدي أبو جليل قد جسدا تجلي تلك الإنقسامات والصراعات الاجتماعية والفوارق الطبقية التي شهدتها مدينة القاهرة منذ سبعينيات القرن الماضي والتي انعكست بدورها على الانقسامات الحضرية وتشكل المدينة، بطريقة تعبر تعبيرا صارخا عن حجم الصراع السياسي والاجتماعي سواء كانت تلك الصراعات مرئية أو لا مرئية.
من جانب أخر طرح العملين مفهوم عدالة التخطيط والسياسات المكانية ومدى ارتباطها بعلاقات القوة وإعادة تشكل تلك العلاقات من جديد وذلك على الرغم من إختلاف العملين بعضهما عن بعض من حيث الشكل والسياق التاريخي.
الجديد الذي قدمته دراسة «الأدب كمصدر للفكر السياسي في مصر: دراسة في المدينة وعلاقات القوة .. مدينة القاهرة نموذجًا» للباحثة شيماء الشرقاوي يتمثل في طرح إمكانية إعتماد باحثي العلوم السياسية على منهجيات علم إجتماع الأدب ومن ثم اللجوء لدراسة مختلف الأعمال الأدبية التي أبرزت الدراسة مدى قدرة بعضها على إستشراف المستقبل بصورة تفوق قدرة باحثي العلوم السياسية والإجتماعية على حدا سواء.