فى أعقاب نكسة يونيو 1967، أجرى الرئيس جمال عبدالناصر سلسلة من المراجعات للوقوف على أسباب الهزيمة، زعيم ثورة يوليو والذى حصل على تفويض شعبى بالاستمرار في الحكم بعد رفض ملايين المصريين قراره بالتنحى فتح الباب أمام سلسلة من الحوارات على مستوى السلطة التنفيذية والتنظيم السياسى لتقييم الأوضاع التى بالهزيمة.
كان من أول الإجراءات التى اتخذها ناصر فى إطار عملية التقويم، إعادة تشكيل مجلس الوزراء برئاسته فى 19 يونيو 1967، ناقشت الحكومة الجديدة وعلى مدار 9 اجتماعات قضية «السياسة العامة للدولة بجوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية»، ودعا الرئيس أعضاء حكومته إلى التحدث بحرية كاملة عن تصوراتهم للأسباب التي أدت للنكسة، وعن أساليب معالجتها بما يضمن إزالة آثار العدوان.
في اجتماع مجلس الوزراء المعنقد بـ«قصر القبة» في 6 أغسطس عام 1967، طرحت قضية الديمقراطية وكيف تسبب غيابها بشكل أو بآخر في الوصول إلى محطة «النكسة»، وتحدث عدد من الحضور عن ضرورة فتح الباب أمام وجود معارضة، وبرز خلال المناقشات خلاف حول شكل تلك المعارضة في ظل وجود تنظيم سياسي واحد هو «الاتحاد الاشتراكي».
غياب المعارضة
وبحسب ما ورد في محضر هذا الاجتماع، فإن عبد الناصر تساءل: «كيف ننتقل إلى مجتمع مفتوح ويبقى فيه معارضة.. بحيث نتلافى الأخطاء التى حدثت على مدى الـ 6 سنين اللى فاتت، واللى بدأت تتركز أساسا من سنة 1960؟».
سؤال الرئيس كان من باب رفع الحرج عن الوزراء ليدلي كل منهم بدلوه في القضية التي لم تأخد حقها في النقاش قبل الهزيمة، «طيب إزاى نخلى الناس تتكلم ومتخافش؟ طب النهارده مهما قلت لهم: اتكلموا ومتخافوش الناس مش هتصدقك.. فيه عقد موجودة فى المجتمع.. الحقيقة إحنا وصلنا لمرحلة إن ماحدش بيتكلم»، قال عبد الناصر مضيفا: «فى هذه الجلسات، إحنا بنقيم مرحلة، وكل واحد يقول تشخيصه وتفكيره بحيث لازم نتلافى مرحلة فاتت».
واسترسل الرئيس قائلا: «اللى دفعنا إلى هذا الحقيقة إن احنا هزمنا فى الحرب، لو كنا كسبنا الحرب كان النظام بقى كويس جدا والدنيا عال قوى، وكان زمانا بنعمل احتفالات فى البلد.. مش كده؟».
انتقد عبد الناصر نظامه وطريقة الحكم التي سبقت الهزيمة بشكل عنيف، وبدا في حديثه أنه يحاول استفزاز رجاله ليراجعوا معه ما كان، حاول بعض الوزراء التخفيف من انتقادات الرئيس لأخطاء المرحلة السابقة، إلا أنه ساق لهم الحجج ليبصرهم بحقيقة ما جرى فقال: «احنا فى شغلنا ماقدرناش لغاية دلوقتى نبنى ليه بقى؟ أنا باعتبر ما هى الدنيا ماشية، والثورة موجودة، وكل واحد موجود، والموجود بيجيب شلته وشلته بتشتغل؛ وتبص تلاقى إن الحكم بيتفسخ».
استمر الشد والجذب فى تلك الجلسة بين معارضة عدد من الوزراء لفكرة عودة الأحزاب نظرا للظروف التى تمر بها الدولة، فالعدو على الضفة الشرقية ووجود معارضة قد يؤدى إلى تفسخ الجبهة الداخلية، وبين أصوات ترى ضرورة الشروع فى إقامة حياة ديمقراطية سليمة حتى لا تعاد أخطاء الماضى وكان على رأس تلك الأصوات عبدالناصر نفسه ووزير العدل عصام الدين حسونة.
عصام الدين حسونة
وفقا لما أورده السيد سامى شرف، سكرتير عبدالناصر للمعلومات، فى شهادته «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر»، فإن وزير العدل عصام الدين حسونة وضع تحديدا دقيقا للهدف من المرحلة الجديدة لتطبيق نظام ديمقراطي فى جميع مؤسسات الدولة، مطالبا بأن يقوم مجلس الوزراء بالتصويت على القضايا المهمة وأن يحترم رأى الأغلبية، كما دعا إلى أن يطرح على المجلس جميع الخطوط العريضة الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية، وعلى رأسها قضية سيادة القانون واستقلال القضاء.
وفى ضوء الحوارات التى دارت فى مجلس الوزراء قام عبدالناصر ببلورة رؤيته الشاملة لأسباب الهزيمة، وقدم مقترحاته للإصلاح خلال اجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكى العربى -أعلى سلطة سياسية فى البلاد آنذاك- والتى عقدت يومى 3 ــ 4 أغسطس 1967.
مقترحات عبدالناصر تلخصت، بحسب ما أورده شرف بشهادته في:
تعديل النظام السياسى
والسماح بوجود حزب معارض حقيقى فى البلاد وتحويل الاتحاد الاشتراكى إلى حزب
إلا أن أعضاء اللجنة التنفيذية لم يرحبوا بمقترح عبدالناصر الخاص بتعديل النظام السياسى ووجود حزب معارض، لأن ذلك من وجهة نظرهم يفتح الثغرات أمام أعداء النظام، وأجمع الحضور فيما عدا عبدالناصر على خطورة تعديل النظام قبل إزالة آثار العدوان.
مظاهرات محاكمة قادة الطيران
عقب مظاهرات الطلبة التى اندلعت بعد محاكمات قادة سلاح الطيران فى 21 فبراير عام 1968، انعقد مجلس الوزراء يوم 25 فبراير، وطلب عبدالناصر خلال هذا الاجتماع من الفريق محمد فوزى وزير الحربية عرض تقريره عن المحاكمات.
تحدث الفريق فوزي قائلا: «ثبت الإهمال ضد قائد الطيران، وحكم المحكمة سليم ووقع الحكم طيب فى القوات المسلحة، ولهذا صدقت عليه»، أما لبيب شقير وزير التعليم العالى فهاجم مظاهرات الطلبة التي حركتها عناصر يمينية رجعية من وجهة نظره، «تتبعنا زعماءهم ووجدناهم من الجمعية الشرعية ومن الإخوان المسلمين، وكان موقف الشرطة عظيما».
ورأى شقير ضرورة إعادة محاكمة قادة الطيران أمام محكمة ثورة أو محكمة شعبية، لأن «العقوبة الصادرة بالسجن 15 سنة لا تكفى»، فيما طالب النبوى المهندس وزير الصحة بتعليق قادة الطيران على المشنقة فى ميدان عام.
محاكمة قادة «طيران النكسة» 1968
أما حسونة وزير العدل، ووفقا لما جاء في مذكراته «شهادتي.. ثورة يوليو وعبد الناصر» فقال في الاجتماع: لا يجوز لمجلس الوزراء أن يناقش قضية صدر فيها حكم من محكمة مختصة قانونا بإصداره، وأسأل الذين تحدثوا عن الحكم، هل ألموا بالتحقيقات؟ هل عرفوا ظروف الاتهامات؟ هل قدروا مسؤولية صدقى محمود قائد القوات الجوية ومن هم فوقه ومن هم دونه؟ أما من حيث وقع العقوبة على الرأى العام، فإنه لن يرضيه إلا الدم، الجمهور يريد الدم، دم النظام كله، إننى مندهش من أن يطالب دكتور لبيب شقير بنقل القضية إلى محكمة ثورة أو محكمة شعبية لتحكم بأشد العقوبة، فهو يعرف كأستاذ قانون أن المحكمة الجديدة أيا كان اسمها لا يمكنها قانونا أن تحكم بأكثر مما يحكم به القانون.
ثم طالب حسونة خلال الاجتماع بالانتقال إلى مناقشة وبحث مظاهرات الطلبة التى أعقبت صدور الأحكام، واصفا مظاهرات الطلبة بأنها أول انتفاضة سواء من ناحية النوع أو الأهداف أو الشعارات، ودعا مجلس الوزراء إلى أن يتعامل معها بعين السياسة لا بعين السلطة.
لخص حسونة خلال كلمته تقرير النيابة العامة عن المظاهرات التى اندلعت فى 21 فبراير 1968 والتى بدأت تحت سيطرة الاتحاد الاشتراكى ثم خرجت عن السيطرة واستمرت حتى يوم 28 فبراير، وتركزت فى محافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية، وبلغت ذروتها باعتصام طلاب كلية الهندسة جامعة القاهرة.
قال حسونة إن هتافات المتظاهرين وطلباتهم تجاوزت قضية الطيران وتناولت النظام ذاته، ففى كلية الهندسة بجامعة القاهرة وزع الطلبة منشورات تضمنت عددا من المطالب أبرزها: «الإفراج الفورى عن الطلاب المعتقلين، وحرية الرأى والصحافة، ومجلس أمة حر يمارس حياة نيابية سليمة، وإبعاد المخابرات والمباحث عن الطلاب والجامعة، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها، والتحقيق الجدى فى أحداث مظاهرات عمال حلوان الذين اعتدت عليهم قوات الأمن، وتوضيح حقيقة المسألة فى قضية الطيران، والتحقيق فى انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة».
حسونة كرر على مسامع الحضور بعض الشعارات التى رفعها الطلبة فى مظاهراتهم، «تسقط دولة الأجهزة الأمنية.. تسقط الصحافة الكاذبة.. لا حياة مع الإرهاب.. لا علم بدون حرية.. يا سادات يا سادات فين قانون الحريات.. يا شعراوى يا جبان راحوا فين عمال حلوان».
استمر حسونة في عرضه، وأصر عبد الناصر على ألا يقاطعه أحد، «لقد مضت على هزيمة يونيو 8 شهور، فهل ينبغى أن نعاود مناقشتنا كمجلس وزراء فى أسباب الهزيمة والتى دفعت النظام إلى محاولة تصحيح ما حدث، هل يجب أن نتحدث مرة أخرى عن أسلوب الحكم وعن النظام وآلياته»، تحدث وزير العدل.
فى نهاية الجلسة، استطلع الرئيس عبدالناصر المنشور الصادر عن طلبة كلية الهندسة والذى يتضمن مطالبهم، ونظر على التوقيعات فإذ به يلمح اسم الطالب خالد جمال عبدالناصر ضمن الموقعين، فعقب قائلا: «يبدو أن حكم صدقى محمود ليس له أولوية لدى الطلبة، إنهم يطلبون حل الاتحاد الاشتراكى وإطلاق الحريات وإعادة تحقيق مع المسؤولين عن النكسة، أظن هذا يكفينا الليلة»، ونهض بعد أن فض الاجتماع.
وفيما بدا أنه استجابة لمطالب الطلبة والعمال، صدر قرار في اليوم التالي لاجتماع مجلس الوزراء الخطير بإعادة محاكمة قادة الطيران، وتم إحالتهم إلى محكمة عسكرية، بناء على قرار الفريق فوزي وزير الحربية الصادر في 26 فبراير.
هيكل وتخلخل اليقين
تحت عنوان «عن الأحكام والمظاهرات وإعادة المحاكمة»، وصف الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله «بصراحة» في أهرام الجمعة 1 مارس، مظاهرات الطلبة بأنها ظاهرة صحية، «وهي في أبسط صورها تعبير عن اهتمام بالمصير لابد من تقدير دوافعه وحتى لو ثبت أنه كانت هناك محاولات لاستغلالها فإنه من الضرورى أن نفرق بين النوايا».
وأشار هيكل إلى أن لمسات الجموح فى هذه المظاهرات تعكس بالدرجة الأولى شعورا عاما يهز المجتمعات العربية كلها بالقلق، «هو الشعور بتخلخل فى أسس اليقين الذى كان يسند كل تصوراتنا العامة قبل النكسة، وسواء كانت هذه التصورات السابقة صحيحة أو كانت مدخلة بشىء من التوهم، فلقد كنا قبل النكسة نقف على أرضية يقين معين فيما يتعلق باحتمالات المواجهة مع العدو الاستعمارى الإسرائيلى».
ويؤكد هيكل أن النكسة هزت هذه الأرضية وحدث بالنتيجة تخلخل فى اليقين، «فى وسط المراجعة والبحث عن يقين جديد تجرى على أرضيته المواجهة المقبلة مع العدو… فإن القلق واقع لا يمكن إنكاره».
ويضيف هيكل أن مشاركة الشباب فى عملية التفاعل الديمقراطى ليست مجرد أمر مرغوب فيه، ولكنها مطلب ضرورى، ولسبب شرعى أساسى، هو أنهم أصحاب الغد الذى نحاول الآن أن نبنيه، ولا تملك أى سلطة أن تعترض هذا الحق أو تعطله، بل إننا جميعا يجب أن نصونه ونحميه.
كانت مظاهرات الطلبة والعمال أول انتفاضة حقيقية تحدث فى مصر منذ ثورة يوليو تطالب بإجراء تغيير شامل فى أسلوب الحكم، عبر هيكل عن هذا التغيير في سلسلة مقالاته بـ«الأهرام» عن المظاهرات التي لم يأخذ منها عبدالناصر موقفا سلبيا، بل سعى إلى احتوائها وطلب من رئيس مجلس الأمة أن يلتقى زعماءها ليستمع إليهم، ثم التقى هو نفسه برؤساء اتحادات الطلبة فى الجامعات، واستجاب لمطلبهم بإعادة انتخابات الاتحاد العام لطلاب مصر، التى كانت قد توقفت منذ عام 1965، وأعاد تشكيل الوزارة التى كان يرأسها، ليضيف إليها 9 وزراء من أساتذة الجامعات، بينهم عدد ممن كانوا على صلة بالطلاب، ومحل ثقة منهم، وأفرج عن الطلاب الذين اعتقلوا بسبب قيادتهم التظاهرات.
«30 مارس» والمياه الجديدة
ما جرى دلل على أن هناك مياه جديدة تجري في دولة يوليو، وأن المراجعات التي أعقبت النكسة للوصول إلى أسباب الهزيمة تمضي في طريقها، وأن هناك مرحلة جديدة من العمل السياسى، وهو ما تم بلورته والتعبير عنه فى بيان 30 مارس الشهير.
إذ أعلن عبدالناصر فى خطاب مفتوح بيان 30 مارس وقرر طرحه للاستفتاء العام، ليكون بمثابة برنامج سياسى لمرحلة إزالة آثار العدوان. كان أبزر ما فى البيان هو إقرار رأس السلطة بضرورة الاعتماد على أهل الكفاءة على حساب أهل الثقة، وأن تكون المناصب القيادية فى التنظيم السياسى بالانتخاب ووضع دستور جديد للبلاد قائم على احترام الحرية وحقوق الفرد.
وشدد البيان على حصانة القضاء، وأقر بإنشاء محكمة دستورية عليا يكون لها الحق فى تقرير دستورية القوانين وتطابقها مع الميثاق ومع الدستور.
أدرك عبدالناصر بعد تجربة خمسة عشر عاما وبعد نكسة 1967، أن الديمقراطية إنجاز لا يقل فى أهميته عن إنجازات الثورة من مجانية تعليم وإصلاح زراعى وتأميم قناة السويس وغيرها، وأن غيابها فتح الباب أمام «الشللية» وانفراد مراكز القوى باتخاذ القرار وهو ما أدى فى النهاية إلى الهزيمة القاسية، وأنه لإزالة آثار العدوان لابد من فتح الباب أمام الاستماع إلى أفكار مغايرة ومختلفة، وأن يطرحها أصحابها بحرية، حتى لو كان بها بعض الجموح.
خطاب الرئيس جمال عبد الناصر بتارخ 25 ابريل 1968