ثمانية وثمانون عام مرت على ميلاد أسطورة السينما شارلي شابلن الذي ولد يوم السادس عشر من شهر إبريل عام 1889. عاش خلالها حياة هي أقرب لأحداث فيلم ميلودرامي بامتياز شهد خلالها اليتم والعيش في الملجأ وعانى من فقر مدقع ، وعاش أيضا فيها شهرة ونجومية ربما لم يضاهيه فيهما أحد من نجوم هذا العالم الساحر .
ورغم كل ما كتب عن شارلي شابلن ومن بينها بل وعلى رأسها ما كتبه هو عن نفسه إلا أننا اخترنا اليوم أن نستعيد قراءة ما كتبه عنه واحد من صناع السينما العربية وهو المخرج كامل التلمساني، الذي بالمصادفة سيوافق ذكرى ميلاده الشهر التالي مباشرة إذ أنه ولد في الخامس عشر من شهر مايو عام 1915 وعاش حياة يمكن وصفها أيضا بالفيلم السينمائي لما زخرت به من أحداث ومواقف نادرا ما أن تجتمع إلا لشخصية درامية كتبها سينمائي بارع. لهذا السبب ولغيره الكثير (وهو ما سيظهر في السطور التالية) اخترنا استعادة قراءة رسالة كامل التلمساني إلى شارلي شابلن والتى خرجت إلى النور لأول مرة عام 1958 في كتاب اختار له التلمساني عنوان (عزيزي شارلي) ونشرته مؤسسة دار الفكر العربى، ثم أعيدت طباعته فى عام 2003 عن دراسات سينمائية التابعة لمركز الفنون بمكتبة الإسكندرية.
العنوان (عزيزي شارلي) والذى سيبدأ به التلمسانى مقدمة كتابه، يشير وبوضوح إلى أنه خطاب طويل صاغه الكاتب (المخرج السينمائى) موجهاً حديثه فيه مرة إلى شارلى شابلن نفسه، ومرات إلى القارئ الذى يحدثه عن عزيزه شارلى.
كامل التلمساني، وكتابه «عزيزي شارلي»
صياغة الكتاب في شكل خطاب، منحت الكاتب فرصة أن يكون حديثه أقرب إلى البوح منه إلى الدراسة العلمية. كما أن هذه الصياغة حققت ما أظن أن الكاتب استهدفه، وهو خلق علاقة صحيحة بين القارئ وبين ما يقرأ، علاقة بنيت على افتراض أن هذا الكتاب يخص القارئ (الفرد) وحده.
سحر القبعة السوداء
فى البداية (القصيرة) والتى حملت عنوان الكتاب سيتحدث كامل التلمسانى عن نفسه، أو بالأحرى عن علاقته بشارلى شابلن منذ أن كان صبياً يقف لأول مرة منذ ثلاثيين عاماً قبل شروعه فى سطر خطابه أمام دار للعرض السينمائى، كانت تعرض وبالمصادفة فيلماً لشارلى شابلن.
نظر الصبى إلى إعلان الفيلم المعلق أعلى الدار ليجذبه صورة الصبى الذى أحس أنه يشبهه وإن كان يرتدى «قبعة مكورة سوداء، وحذاء ضخم مرتوق ويمسك بيده عصا خيزران مسلولة»!.
الصورة تجذبه، يحاول الدخول إلى الدار، لكنهم يمنعونه لأنه لا يحمل المال الوفير الذى يتيح له شراء تذكرة الدخول إلى الجنة، قرش صاغ بكامله، وهو للصبى يعنى ثروة طائلة لا يملكها!!.
.. وهكذا سيستمر الصبى فى بدايته هذه يحكى عن علاقته بشارلى، كيف بدأت بالمصادفة، ثم تحولت إلى صداقة حميمة «من طرف واحد» بعد أن شاهد الفيلم فى يوم آخر.. ثم تعمقت بعد أن بحث وبحث وبحث طوال سنوات عمره الممتد عمن يكون هذا العزيز «شارلى».
وكما بدايات أى حياة.. يختار كاتبنا لحظة الميلاد ليبدأ منها كيف ولماذا تحقق «مولد نجم» حسب العنوان الذى اختاره للحركة الأولى فى الفصل الأول من سيمفونية البوح الذى يشرع فى استكمالها.
تحت هذا العنوان – مولد نجم – سيعرفنا التلمسانى على والد ووالدة شارلى، لنعرف أنهما كانا ضمن جوقة فنانين تقف على خشبة مسارح لندن فى وقت كانت الأزمة الاقتصادية تعصف بالبلاد، وهى الأزمة التى أثرت على عمل الفنانين المتزوجين حديثاً، بل وبدأ جنينهما الأول والوحيد يداعب بطن أمه التى أضطرت للعمل والوقوف على خشبة المسرح وبطنها بجنينها يظهران بوضوح أمام الجمهور. ولعل هذا ما جعل التلمسانى يصف شارلى بأنه «.. بدأ حياته الفنية على خشبة المسرح.. قبل أن يولد».
بل إن التلمسانى ينقل احتفاء الجمهور بالنجم الرضيع حين التهبت الأكف بالتصفيق له فى نهاية إحدى المسرحيات التى لعبتها أمه وخرجت تحيى الجمهور وهى تحمل رضيعها بين يديها!.
إذن هو النجم قبل أن يولد وهو النجم رضيعاً.. وسيصبح نجماً حتى يموت وهاهو مازال نجماً رغم أنه مات منذ ما يقارب نصف القرن. إنه النجم الخالد إذن!.
تأكيداً على هذه المقارنة القدرية، لن ينسى التلمسانى أن يذكر فى هذا الفصل أن ميلاد شارلى الذي جاء فى السادس عشر من أبريل فى العام 1889، رافق ميلاد الاختراع الأول الذى سيبدأ منه فن السينما. ففى العام نفسه إخترع توماس أيدسون جهاز «الكينتوسكوب».. الآلة البدائية الأولى التى قامت عليها السينما فيما بعد. وكأن القدر يربط حياة شارلى منذ لحظة ميلاده بالفن الذى سيخلد أسمه مادامت حياة البشر.
بصياغة حكاء ماهر سيصحبنا كامل التلمسانى فى جولة داخل عوالم شارلى شابلن الحياتية، طفلا لأسرة فقيرة ،تتكون من أم وأب وأخ غير شقيق هو ابن أمه من زوج سابق ويكبر شارلى بعامين. أسرة من أربعة أفراد يجمعهم الفن والحب والعوز، لا يكادون يقيمون فى مدينة حتى يرحلون إلى غيرها مع فرقتهم سعيا وراء جمهور يتفضل عليهم ببضعة قروش مقابل ما يقدمونه إليهم من تمثيل وضحكات وغناء ورقص وموسيقى.
في البدء كان المسرح
ويبدو أن الحياة أبت إلا أن تنضج فنانها الأكبر على نار هادئة، فها هو حسب تعبير التلمسانى يفتح عينيه على دنيانا ليرى عالمين كان لهما أشد الأثر فى تكوينه: الأول عالم المسرح الذى رآه من داخله، من الكواليس التى لا تتاح لغيره من المشاهدين. والثانى: عالم الفقر والفقراء.
عانى الطفل الصغير معاناة أسرته سعيا وراء رزق قليل غير مضمون بل ومعدوم في أحيان كثيرة بسبب بطالة أصابت رب الأسرة الذى لم يستطع المقاومة فرمى نفسه فى أحضان الخمر لعلها تنسيه واقعه المرير. لكن إدمانه يلقى به فى هوة أعمق وأشد قسوة، هوة المرض الذى أزاد الأمور إضطرابا وأثقل المصائب على الأم التى وجدت نفسها مسئولة وحدها عن حيوات ثلاث أحدهما الصغير شارلى الذى لا يفهم لماذا هم على هذه الحال.
تشارلز تشابلن الأب (1863-1901)
موت الأب أثر فى نفس الصغير أثرا لن تستطيع السنوات أن تمحوه وجعلته أكثر تعلقا بأمه التى يخشى أن يأتى يوم يستيقظ فيه ولا يجدها بجواره كما سبق وأن فعلها الأب.
وهنا لابد لنا من وقفة لنشير إلى براعة كامل التلمسانى فى حكيه المتدرج الذى يستهدف به وصف الأتون الذى نضج فيه فناننا ممهدا للماذا اختار شارلى ما أختاره من موضوعات لأفلامه حين سيكون قادرا على إنجازها بعد سنوات. بل إن هذه السنوات الأولى فى تكوينه ستكون هى المعين الذى لا ينضب لموضوعات هذه الأفلام.
سيسترسل كامل التلمسانى فى قص تفاصيل هذه المعاناة وكأنه عايشها بنفسه، أو على الأقل حدثه بها من عاصرها وربما يكون شارلى نفسه عبر مذكراته التى خرجت بعد سنوات طويلة بعنوان قصة حياتى. إلا أن صياغة كامل التلمسانى صياغة خاصة، صياغة أديب عربى تربى على حواديت الجدات التى لا تغفل التفاصيل بل تكون فيها التفاصيل هى الحياة نفسها .
وهكذا سيتتبع قلم كامل التلمسانى حياة الصغير الذى وجد نفسه فى حضن الشارع تتبعا يشبه تتبع كاميرا متأملة. فالفتى بات بلا مأوى له ولا نصير، يقتنص الطعام إقتناصا من الأسواق كقط ضال، يتعارك مع أقرانه وكثيرا ما يتفوق عليهم رغم نحولته وضآلته وكأنه يعوض نقصا يعيه. لكن القلم / الكاميرا سيتوقف فاجأة أمام مبنى قديم كثيرا ما توقف أمامه الفتى يتأمل المعروض فيه عبر الزجاج، إنها المكتبة القديمة ومعروضاتها كتبا يشعر تجاهها بحب جارف رغم عدم درايته بالقراءة. فالصور التى تزين أغلفتها تجذبه، بينما الحاجز الزجاجى يمنعه من لمسها وحاجز الفقر يمنعه من الدخول لشراء إحداها.
كذلك سيتوقف القلم الكاميرا أمام عروض الفانوس السحرى الذى وقع الفتى فى عشقه وصارع من أجل الحصول على الدراهم القليلة التى تتيح له صور قصصه التى يعرضها.
وفاجأة ستختفى الأم بعد مرض لم يفهمه الصغير، أنه الجنون الذى دفع الجيران إلى نقلها للمستشفى. والمستشفى فى خبرة الصغير هي المكان الذى لا يعود منه الأحبه، فقد سبق وأن ذهب إليها الأب ولم يعد، وها هى أمه يقولون أنها ذهبت إلى المصير نفسه.
هانا شابلن (1865-1928) والدة شارلي شابلن
الحياة شارع وسجن
طفلان بلا مأوى .. يقضيان نهارهما فى الشارع تصعلكاً وعراكاً مع الأقران وقنصا للقيمات من هنا وهناك. وليلهما أشد قسوة فلا ملجأ لهما إلا الحديقة العامة ينامان فيها سويعات ثم يعودان مع تباشير الفجر إلى الشارع. وهكذا حتى تلقى الشرطة القبض على الفتى وأخيه بتهمة التشرد وتودعهما ملجئا للأيتام .
لكن كامل التلمسانى لن ينسى أن يتوقف بقلمه الكاميرا عند محاولات الصغير تقليد سكان الشارع لأصدقائه فيضحكون من فرط براعته فى السخرية من كل شخصيات شارعهم. وكأنه يشير لنا بأن البدايات، بدايات التمثيل، بدأت من هنا، من الحديقة العامة وعبر فن التقليد والكوميديا، الكوميديا رغم العذاب.
فى الملجأ / السجن سيعانى الصبى معاناته الأشد.. معاناة افتقاد الحرية.. وهناك سيتعلم أن الحرية هى الحياة ودونها الموت. لكن سريعا ما سيخرج الصبيان من سجنهما ليجدا فى انتظارهما الأم التي خرجت لتوها من المستشفى بعد أن شفيت من إنهيارها العصبى وبحثت عن طفليها. وهاهى تجتمع بهما بعد فراق طال و…. ويبدأ الطريق.
عزيزى القارىء .. عفوا .. يبدو أن حكى كامل التلمسانى قد أسرنى إلى الحد الذى تتبعته تتبعا بطيئا كاد أن يفقدك متعة قراءة «عزيزى شارلى» بنفسك.. لذا سأكتفى بهذا القدر من الحكى لأدعك مع العزيز كامل يحكى لك بنفسه عن عزيزه شارلى. لكن قبل أن أترككما معا.. اسمح لى أن ألفت نظرك إلى بعض ملاحظات أراها هامة فى كتاب كامل.
أول هذه الملاحظات، سبق وأن أشرت إليها فى معرض حديثى، وهى قدرة كامل التلمسانى على الحكى الممتع، وها قد لمست بنفسك كيف أننى غرقت معه فى تفاصيله للدرجة التى كدت أن أعيد عليك ما حاكاه لى وإن بلغة وصياغة أقل مما تمتعت أنا به.
أما الملاحظة الثانية، فهى تخص إيقاع الحكى عنده. فعلى الرغم من اهتمامه بالتفاصيل إلا أنه سينأى ببراعة حكاء ماهر عن الوقوع فى هوة الثرثرة.. فهو واع تماما إلى هدفه من الكتاب الخطاب الذى أوقن أنه ليس فقط الحكى عن فنان يستحق الحكى عنه، بقدر ما هو رسم لنموذج للإرادة الإنسانية، ليكون نبراسا للسائرين فى الطريق نفسه.
أما الملاحظة الثالثة: فتخص قدرة كامل التلمسانى على تحليل بعض الأفلام العلامات لشارلى شابلن، مثل «البحث عن الذهب» و«أضواء المسرح» و «الديكتاتور العظيم».
شارلى شابلن «الدكتاتور العظيم»
أما الملاحظة الرابعة فتخص علاقة هذا الكتاب بكتاب كامل التلمسانى الأول «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية».. والمتمثلة في إنصاف كامل التلمسانى حين أكد على أن: «أمريكا لم تخل من المفكرين الشرفاء الأحرار، الذين حاولوا ويحاولون إيقاف التيار الجارف من التزوير الهوليودى للحقائق. وهكذا سيذكر فى هذا الإطار بعض نماذج الأفلام السابحة ضد التيار..» وما شارلي إلا واحد من أنصع النماذج لهؤلاء الأحرار الشرفاء.
والآن ما أشد حاجتنا لأن نتذكر ما سبق وأن قاله شارلى سنة 1940 فى نهاية فيلمه الديكتاتور:
«.. لا تيأسوا .. ما البؤس الذى يخيم علينا إلا علامة انقشاع الطمع وانتهاء عهد الشر»