أثارت ظاهرة إسقاط التماثيل المقامة لرموز تاريخية ارتبطت بالعنصريه في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية في إطار التظاهرات التي أطلقها مقتل الشاب الأسود جورج فلويد على يد قوات الأمن في الولايات المتحدة سخطاً لدى اليمين الأوروبي والأمريكي على حد سواء.
وتبدى هذا السخط على مواقع التواصل الاجتماعي التي زخرت بتعليقات منقسمة ما بين تيار يساري وليبرالي مؤيد لإسقاط هذه التماثيل و تيار يميني ومحافظ يسخر من هذه الظاهرة.
إلا أن التعليقات العنصرية الساخرة بلغت حداً من الصفاقة والوقاحة غير مسبوق حين ساوت بين العنصرية الأوروبية وبين تراث مصر القديمة حيث لم يتورع بعض «الساخرين» من القول أن الأهرامات المقامة في منطقة الجيزة بمصر ينبغي أن يتم هدمها تماما كالتماثيل التي هدمت، وذلك استناداً إلى حجة واهية للغاية هي أن هذه الأهرامات -وفقاً لمنطقهم العجيب- قامت على أكتاف العبيد الذين سخروا لهذه المهمة.
وبعيداً عن الوقاحة العنصرية الواضحة في هذه التعليقات إلا أنها -ككل ضارة نافعة -تفتح الباب لتفنيد أكذوبة طالما روج لها الاستعمار الأوروبي ومن بعده الساسة الصهاينة مثل مناحم بيجن الذي كرر هذه الأكذوبة لدى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بحضور الرئيسين المصري أنور السادات والأمريكي جيمي كارتر واصفاً هؤلاء العبيد المزعومين بأنهم أجداده من اليهود.
واغلب الظن أن الرئيس السادات الذي – للأسف – أضحكته العبارة ظنا منه أنها مزحة لا غير لم يتصور أن الصهاينة سيسخرون كافة أدواتهم الإعلامية وفي مقدمتها المتعاطفين معهم من مخرجي ومنتجي هوليوود لتكريس هذه الأكذوبة في الأذهان.
حيث سعت أفلام مثل «أمير مصر» للمخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج الذي لا يخفي تأييده للدولة الصهيونية لتكريس هذه الفكرة من خلال إبراز المصريين القدماء كطغاة يسخرون العبيد من الأجانب لكي يبنوا لهم أهراماتهم ومعابدهم.
والحقيقة ان هذه الاكذوبة الصهيونية لا تستند إلى أي دليل تاريخي أو مادي أو أثري، بل إنها تقوم بالكامل على أسطورة توراتيه.
وفي حين لم يتصد مؤرخو مصر وعلمائها بشكل كاف لهذه التعليقات الساخرة من حضارة أسلافهم، فإن علماء المصريات، أي المتخصصين في علم الآثار المصريه القديمه، حول العالم هم من أخذوا على عاتقهم الرد علي هذه الأكذوبة بشكل علمي وبأدلة دامغة.
https://youtu.be/jZN72A14bVQ
أجر عادل وإجازات وإضرابات عمالية ناجحة لبناة الأهرامات والمعابد
١- وفي مقدمة هؤلاء عالمة المصريات الاسكتلندية والقيمة على قسم حضارة المتوسط في المتحف الوطني في أدنبره مارغريت ميتلاند التي وصفت هذه التعليقات في تغريدة لها على حسابها على موقع تويتر بأنها «عنصرية» ومؤكدة ان الأهرامات بناها عمال تم تجنيدهم من كافة أنحاء مصر في مقابل أجر وليسوا عبيداً.
كما سخرت ميتلاند من محاولة مساواة الأهرامات وهي إحدى عجائب الدنيا السبع بتماثيل «محدودة القيمة» على حد تعبيرها.
ما أشارت إليه ميتلاند حول طبيعة من قاموا ببناء الأهرامات أصبح أمراً شبه متفق عليه بين علماء الآثار بشكل عام وعلماء المصريات بشكل خاص، حيث لم يعد ادعاء المؤرخ هيرودوت بكونهم عبيداً ولا سردية الأسطورة التوراتية مقنعة للمتخصصين في هذا المجال.
٢- خاصة بعد أن كشفت بعثة أثرية في عام ٢٠١٠ عن مجموعة من المقابر الخاصة بالعمال الذين شاركوا في بناء الأهرامات وأكدت النقوش الموجودة على جدران المقابر أنهم كانوا يتقاضون أجراً عن عملهم كما كان القائمون على المشروع حريصين على إطعامهم بشكل جيد و يتبدى هذا من ذكر عدد الذبائح التي كانت تذبح بشكل يومي لتقديمها طعاماً لهؤلاء العمال.
٣- ونقلت وكالة «أسوشيتد برس» في العام نفسه عن ديتر ويلدينغ المدير السابق لمتحف المصريات في العاصمة الألمانية برلين أن فكرة بناء الأهرامات على يد عبيد لا تعدو كونها «أسطوره من النوع الذي تقدمه هوليوود وصحف الإثارة» مضيفاً أن سبب اقتناع البعض في الغرب بها هو كونهم لا يستطيعون تقبل فكرة أن الدافع الحقيقي وراء بناء العمال لكيان هندسي ضخم كهذا هو ولاؤهم للملك وليس القهر.
٤- ويقول الدكتور شفيق شحاته في مؤلفه عن «تاريخ القانون الخاص في مصر» أن القانون المصري في ذلك العهد «لم يكن يقر نظام الرق وكان الناس على اختلاف طبقاتهم يولدون ويموتون أحراراً لا فرق في ذلك بين عامل أو صانع أو زارع أو وزير».
٥- ويورد المؤرخ المصري محمد العزب موسى في كتابه «أول ثورة على الإقطاع» نصوصاً عده كتبت على جدران مقابر الدولة القديمة تذكر أن أصحاب هذه المقابر لم يبخسوا العمال حقوقهم.
حيث أن مقبرة القاضي «اخت-حري-حتب» من الأسره الخامسه كتب على جدرانها «إن جميع من عملوا في بناء هذه المقبرة قد نالوا أجرهم» ويؤكد «لم أكره أحداً على العمل».
كما أن الملك منقرع صاحب الهرم الثالث أمر ببناء قبرا لأحد رجال حاشيته وعين لهذا العمل خمسين عاملاً وأمر ألا يسخر أي منهم للعمل.
٦- بل إن الأمر تجاوز الحصول على أجر ثابت إلى حصول العامل على الحق في إجازة مرضية، حيث تؤكد الباحثة في جامعة ستانفورد، آن أوستن في مقال لها في عام ٢٠١٥ في جريدة الواشنطن بوست الأمريكية أن النصوص المتوافرة في مقابر دير المدينة القريبة من الأقصر والتي تعد أول مدينة عمالية في العالم تدل على أن العمال كانوا يتقاضون أجراً شهرياً في صوره قمح وبنيت لهم مساكن خاصة لهم ولأسرهم الذين قدموا معهم من قراهم الأصلية حتى ينتهوا من عملهم.
وفي حال عجز عامل ما عن مواصلة العمل نتيجه لإصابه أو لمرض ألم به كان يمنح أجازه يعود فيها إلى قريته، أي بعبارة أخرى فإن مصر القديمة قد أقرت حق الأجازه المرضيه في عهد مملكتها الحديثه أي قبل أكثر من ٣٠٠٠ عام.
وكان يتواجد مع العمال بشكل مستمر طبيب يقدم المساعدة اللازمه لمن يصيبه المرض فيهم أو يصاب أثناء العمل.
٧- وفي دير المدينة أيضا عرف التاريخ البشري أول إضراب عمالي، وتروي عالمة المصريات أنا رويز في كتابها «روح مصر القديمة» أن الإضراب حدث في تلك المنطقة عام ١١٧٠ قبل الميلاد خلال الشهر السادس من السنة التاسعه والعشرين من حكم الملك رمسيس الثالث، وذلك حين تأخرت الحكومة في صرف أجور العمال، فألقى العاملون في وادي الملوك بأدواتهم وتركوا العمل ونظموا ما يمكن وصفه بـ«اعتصام سلمي» في عصرنا الحاضر خارج جدران المعبد الذي كلفوا ببنائه.
وأصر العمال على موقفهم حتى تمت الاستجابة لمطالبهم وحصلوا بعد اعتصام طويل على أجورهم كاملة.
إن أكذوبة العبودية التي بنت أهرامات مصر ومعابدها والتي للأسف الشديد يرددها بعض المصريين ظناً منهم أن هذا ما تقره الأديان السماوية لا تخدم في واقع الأمر سوى الصهاينه الساعين للانتقاص من الحضاره المصريه التي يشهد العالم أجمع بعظمتها وأن إصرار عنصريي أمريكا وأوروبا على تكرار هذه الأكذوبه في مواجهة التيقظ الراهن ضد تاريخ وحاضر العنصرية الغربية في القرون الخمسة الأخيرة لا يعدو كونه استمرارا لنهج أسلافهم من المستعمرين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة نفى أي إبداع حضاري عن سكان مستعمراتهم من العرب السمر أو الأفارقه السود لكي يبقى مصطلح «التحضر» حكراً على المستعمر الأبيض ويبقى احتلاله ونهبه لمقدرات الشعوب الأخرى أمراً مبرراً تماماً.
المصادر:
محمد العزب موسى – «أول ثورة على الاقطاع» -مكتبة الأسرة- ٢٠١٣