يولي العالم موضوع الانتحار اهتماما كبيرا؛ ففي شهر سبتمبر من كل عام يكون الاحتفال العالمي بمنع الانتحار.. فاليوم العاشر من هذا الشهر تحديدا هو يوم «توفير التزام وتوعية ضد فكرة إنهاء الحياة بأيدي أصحابها».
لا ريب في أن الانتحار كارثة إنسانية شخصية وصدمة مجتمعية عامة، والخطير أنه يتزايد في كل عام عن العام الذي سبقه ((تُقدَّر أعداد المنتحرين سنويا حول العالم بحوالي مليون شخص مرشحة للنمو في الأعوام القادمة وقد لوحظ زيادة نسبة الرجال عن النساء وزيادة في استعداد النساء الداخلي الأكبر للقيام بالانتحار في المقابل)) ومن العجيب أنه في الدول التي ترتفع فيها درجات الرضا والسعادة، كالسويد والدانمارك، يتصاعد الانتحار أيضا، محيرا راصديه والباحثين في نطاقه، ويخشى المتأملون للظاهرة الأليمة المؤسفة أن يستمر ازدهارها المزعج وأن تهلك الحياة بإيثار الفناء، ويحاول محبو الحياة جاهدين أن يضعوا أيديهم على مكمن الداء العَيَاء ليجدوا له علاجا قبل أن يتفاقم فيضع الوجود الإنساني كله في خانة العدم.
ولا يقتصر الانتحار للأمانة على الإنسان وحده، ربما كان الاهتمام بالمنتحرين من البشر أبلغ فحسب، لكن الحيوانات تنتحر أيضا فمشهور للغاية انتحار الدلافين والكلاب والفئران، ويقال إن الإحباط والخوف والعزلة من الأسباب الكبرى لانتحارها، وهو الأمر الذي يمنح الظاهرة عمومية معقدة، ويحث العالم على التنبه الشديد لها قبل فوات الأوان!
الأسباب المعروفة للانتحار
تتنوع أسباب الانتحار المعروفة بين الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية والنفسية والصحية؛ فالاقتصاد يعد سببا من الأسباب الكبرى التي تدفع الإنسان إلى الخلاص من حياته، لأن ربَّ الأسرة الذي يجد نفسه عاجزا عن الوفاء بمتطلبات بيته قد يتخذ القرار بالانتحار، والمرأة المعيلة العاجزة أيضا قد تفعل ذلك.
اجتماعيا: الإحباط الاجتماعي سبب مباشر من أسباب الانتحار طبعا؛ فالنبذ الاجتماعي الذي يلاحق المختلفين جنسيا فيصمهم بالعار (كالمثليين والراغبين في التحول من الذكورة للأنوثة والعكس) والنظرة المتدنية التي تطارد الأرملة والمطلقة اللتين تعانيان معاناة متكررة لعدم احترام الآخرين لظرفهما الخاص، وكذلك إحساس المرء بفقدان هويته، أيًّا كانت، حتى في دوائره الأقرب، وشعور الشباب بمرور العمر دون أن يحققوا أحلامهم، ورؤية الفقير المعدم لمظاهر التفاوت الطبقي المستفز، وما إلى ذلك، كلها أسباب قد تضع الإنسان أمام اختيار الموت كبديل للحياة التعيسة البائسة.
عاطفيا: الفشل العاطفي أحد أهم أسباب الانتحار بالبداهة؛ فالفتاة التي تشعر بالإهانة لأن فتاها أهملها ورافق صديقتها المقرَّبة، أو أية فتاة سواها، قد تنتحر ببساطة، والمراهق الذي جرحت إحداهن كرامته ومضت تفاخر بعلاقتها بفتى آخر قد ينتحر بلا مقدمات، وفي المسألة العاطفية بالذات يتسع المجال فيشمل أُسَرا بكاملها فشا فيها الفساد العاطفي فانهارت العلاقات بالشكوك والخيانات، ويشمل أبناء حرمهم الآباء من العاطفة السوية الجياشة وآباء تركهم الأبناء في الشيخوخة وحدهم للأسف.. ولا ننسى علاقات المختلفين في الدين بهذا الإطار؛ فبعضها قد يفضي إلى قتل النفس.
نفسيا: بعض الأمراض النفسية، لا سيما الاكتئاب الحاد، قد تكون سببا مباشرا في الانتحار؛ وعلى هذا يجب متابعة المرضى النفسيين بدقة من حيث الاجتهاد في العلم بمقصودات ألفاظهم ومراقبة تطورات أحوالهم باستمرار.
صحيا: من تبتليهم الأقدار بالأمراض القاسية التي لا شفاء منها في الأغلب، كالسرطان والإيدز وما إليهما في مراحلهم المستعصية.. هؤلاء عرضة لأن تسوء ظنونهم في الواقع إلى حد التفكير الجدي في الانسحاب الكامل منه يأسا من الشفاء وتخلصا من آلام الأسقام القاتلة.. ومثلهم الذين يتناولون أنواعا شتى من المخدرات وأخلاطا ثقيلة من العقاقير المؤثرة على الأدمغة في الصميم.
سُمَّيتُ هذه بالأسباب المعروفة للانتحار؛ لأن في الآفاق أسبابا أخرى يحاول المراقبون استكناهها؛ فدائما هناك آدمي يضع حدا لحياته وسط ذهول الآخرين المحيطين به، والمعنى أنه لا توجد في حياته الظاهرية أزمات ولا مشكلات من أي نوع قد تجعل مثله يقدم على الفعل الشنيع!
نظرة الناس للمنتحرين
تختلف نظرة الناس لمن يقدمون على الانتحار بحسب اختلاف وعيهم وثقافتهم وفهمهم لنقطتي الموت والحياة؛ فالأكثرون يرونهم كفارا وهي رؤية فلكلورية متسرعة خاطئة دخل فيها الدين ضمن ما دخل لاتصالها المباشر بالعالم الآخر، وفي الحقيقة لا يكون الإنسان كافرا لمجرد أنه انتحر لكن ربما جاز أن يكون كذلك فعليا إن كان انتحاره لعلة الكفر نفسها بمعنى أنه تصور العالم بلا مدبر ووقع الأمر في نفسه موقع اليقين؛ فقال لنفسه ما معناه: لا أصبر على عذابات الوجود وليس هناك شيء بعده، ثم مضى منتحرا.. وحتي في هذه الحالة وسواء كان صرح بمكنون نفسه أو كتمه كتمانا فيجب أن يكون معلوما أن أمره إلى خالقه في جميع الأحوال؛ فما لنا وقصته؟!
أما بالنسبة للجبن والشجاعة؛ فالاختلاف قائم أيضا بنفس القدر فكثيرون من الناس ممن يهابون الموت ويخافون عواقبه يرون المنتحر [شجاعا] أحب اكتشاف المجهول المتوقعة صعوبته فطلبه وبلغه، وكثيرون منهم ممن يرون الموت أمرا عاديا كنفق لا بد من عبوره في يوم آتٍ بلا ريب يرونه [جبانا] اختبأ في الظلام من وحش وهمي يطارده في النور ولو واجهه، بقوة وذكاء مستفيدا من الضياء الذي هو فيه، لانتصر عليه لا محالة!
الأديان والانتحار
لأن الانتحار، إذا نجحت محاولته، ينقل الإنسان من العالم المشهود إلى العالم الغيبي؛ فقد كان على رأس اهتمامات الأديان التي يعنيها شأن الموت وما وراءه أكثر مما يعنيها شأن سواه؛ لأنه في اعتقادها الحلقة المتممة للوجود الكلي الذي لا يصبح ذا قيمة، في الضمير الديني، بمنأى عن الحساب الإلهي الذي يتلوه النعيم المقيم أو الجحيم المستعر..
في اليهودية: تحرم اليهودية الانتحار فهي تعده عملا يستحق العقوبة الربانية لمجاوزته الحدود، لكن التلمود الذي هو أبرز شروح التوراة لدى اليهود يمجده لو كان فرارا من الأسر أو كان وقاية من الارتداد عن الدين.
في المسيحية: تحرم المسيحية الانتحار، يقول لاكتنس: إن من أكبر المعاصي أن يقتل المرء نفسه. وفي العصور الأقدم كانت تحبذه في دائرتين هما الإكراه على الارتداد عن الدين ودفاع البكر عن شرفها.. وكانت تنظر إلى الموضوع بشفقة ولكن دون قبول، لكنها في العصور الأحدث صارت تمنع المنتحر من ارتياد الكنيسة إذا نجا ولا تدفنه في المقابر المقدسة إذا انقضى أجله بالانتحار.
في الإسلام: يعتبر أهل السنة والجماعة المنتحر مرتكب كبيرة من أكبر الكبائر، لكنهم يبقونه على ملة الإسلام، ويجيزون الصلاة عليه ودفنه بمقابر المسلمين، لم يخرج عن ذلك الإجماع الفقهي سوى عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، في خاصة أنفسهما كما قيل، فهما لم يجيزا الصلاة عليه، لكنهما أيضا لم يبالغا في قضيته وفوضا أمره إلى ربه.
واختلف الجميع في فكرة خلود المنتحر في النار الواردة في بعض مراجع السنة النبوية «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا»- من حديث أبي هريرة.
فمن قائل إنه هكذا يخلد في النار بنص الحديث الصحيح، ومن قائل إنما الحديث للزجر والردع، ولا يخلد في نار جهنم سوى الكافر ذي الكفر الصراح البواح الذي ليس من أهل التوحيد بالأساس، وهو ما نراه نحن أيضا، خصوصا مع خلو القرآن الكريم من قساوة العقوبة واكتفائه بالنهي عن ارتكاب الجريمة الفظيعة دونما زيادة بل مع إثبات صفة الرحمة لا النقمة الإلهية ولا أشباهها من الصفات «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما».
الخلاصة
ليس الانتحار كفرا وعليه فليس المنتحر بكافر، لكنه شخص يخصم من رصيد الحياة ويضاعف من أرصدة الموت، راغبا أو مضطرا، وهذا هو الفعل السلبي الذي علينا كلنا مقاومته بطاقة إيجابية كاملة، وأن نجتهد صادقين لجعل الأرض الفسيحة مكانا جميلا طيبا خاليا من المآزق والأزمات والفتن، بكل أنواعها ودرجاتها، عالما يخفت فيه نفوذ وصوت المستغلين والاشرار.. بحيث لا تضجر البشرية من الأرض فتستعجل مغادرتها ولا تضجر منها كافة الكائنات الحية.