رغم ارتباطه بذكرى عزيزة هي رحيل آخر جندي بريطاني مستعمر عن أرض مصر، إلا ان الثامن عشر من يونيو أو عيد الجلاء بدا في السنوات الأخيرة منسيا متجاهلا وكأنه ذكرى حدث عادي يمر مرور الكرام دون أن يحتفي به أحد أو يسلط عليه الضوء إعلام.
لم يكن انتصار هذا اليوم إنجازا فردياً لجمال عبد. الناصر وحده ولا لثورة ٢٣ يوليو وجيلها وإنما كان تتويجاً لمشوار كفاح طويل للشعب المصري بأجيال متتابعة دام أكثر من سبعين عاماً (١٨٨٢- ١٩٥٦) كما لم يكن منفصلاً- علي وجه الخصوص عما حدث – في مصر على مدار السنوات الخمس التي سبقته وإنما كان بمثابة تتويج لها.
https://www.facebook.com/Official.page.of.nasser.website/videos/1003573196745832/?t=132
جلاء القوات البريطانية عن مصر 18 يونيه 1956
فقد أسفرت انتخابات عام ١٩٥٠ البرلمانية عن وصول الوفد بقيادة مصطفى النحاس إلى الوزارة مره أخرى بعد أن أبعد عنها لعدة أعوام على يد الملك فاروق الأول، وكما جرت العادة منذ وزارته الأولى عام ١٩٢٤ لجأ الوفد إلى أسلوب التفاوض للوصول إلى المطلب الغالي الذي طالما رفعته جموع الشعب: الاستقلال.
مصطفى النحاس باشا
إلا أن المفاوضات لم تجد نفعاً فقرر النحاس باشا اللجوء إلى أسلوب آخر من أساليب الضغط السياسي على البريطانيين إذ توجه النحاس إلى مبنى البرلمان ليعلن من طرف واحد عن إلغاء معاهدة عام ١٩٣٦ التي بموجبها انسحبت القوات البريطانية من المدن الكبرى وتركزت في منطقة قناة السويس.
ويؤكد المؤرخ خلف الميري أنه بموجب إلغاء مصر هذه المعاهدة أصبح وجود القوات البريطانية وجوداً غير شرعي مما فتح الباب على مصراعيه لبداية النضال الشعبي والفدائي لإجبار هذه القوات على الانسحاب من قواعدها.
إلا أن الحكومة الوفدية ورغم اتخاذها هذا القرار٫ ووفقا للمؤرخ الكبير الراحل عبد الرحمن الرافعي لم تكن قد أعدت للأمر عدته على حد تعبيره حيث لم تنظم المقاومة لا بشقها السلمي ولا المسلح ولم تدرب المتطوعين على حرب العصابات ولا سلحتهم كما لم تزود قوات الأمن النظامية [الشرطة] في منطقة القناة بما يلزمها من أسلحة لمواجهة القوات البريطانية.
ومن الواضح أن القيادة الوفدية التي كانت قد مالت في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية إلى مصالح كبار ملاك الأراضي كانت تخشى من حمل الشعب للسلاح وحين سافر النحاس إلى الإسكندرية في العشرين من أكتوبر وواجه مطالب شعبية بتوزيع «السلاح من أجل الكفاح ضد الاحتلال البريطاني» كان رد النحاس هو مطالبة الجماهير بـ«التريث».
إلا أن جمهور البسطاء من أفراد الشعب [لم يتريث] وبدأت بالفعل حركه مقاومه واسعة في منطقة القناة اتخذت في البداية شكل رفض التعاون على طريقة (المقاومة السلمية) للزعيم غاندي في الهند حيث رفض عمال السكك الحديدية المصرية أن يقلوا جنود الاحتلال في قطاراتهم ورفضوا تزويد القطارات بالماء والوقود وامتنع عمال الشحن والتفريغ في القناة عن تفريغ حمولات البواخر الانجليزيه.
كما انسحب نحو ستين ألف عامل مصري من المعسكرات الإنجليزية مضحين بعملهم وقوت يومهم من أجل القضيه الوطنيه وانضم إليهم عدد كبير من موردي المواد التموينية وامتنعوا عن تزويد الإنجليز بها رغم ما كانت تجلبه لهم من أرباح واعترف المحتلون بخسارتهم لملايين الجنيهات الإسترلينية بسبب هذه المقاطعة.
ثم تطور الأمر بعد تظاهرة أهالي الاسماعيلية في ١٦ أكتوبر ١٩٥١ التي أسفرت عن سقوط شهيد برصاص الاحتلال مما دفع الأهالي الغاضبين لإحراق (النافي) أو مجمع البضائع والخدمات المخصص لخدمات القوات الانجليزيه وأسرهم.
وبحلول شهر نوفمبر كان الفدائيون المصريون قد نظموا أنفسهم في كتائب اتخذت لنفسها أسماء ذات دلالات وطنية وتاريخية مثل كتيبة الشهيد أحمد عبد العزيز وكتيبة مصطفى كامل وكتيبة محمد فريد وكتيبة خالد بن الوليد وغيرها.
و تمكن الفدائيون من توفير أسلحة عبر أخذها عنوة من معسكرات الإنجليز مستغلين قدره بعض العاملين بها من توفير الأسلحة مثل الفدائي غريب خضيري الشهير بـ «غريب تومي» الملقب بشيخ الفدائيين.
الفدائي غريب خضيري الشهير بـ «غريب تومي»
انتهج الفدائيون نهج حرب العصابات ضد المعسكرات الإنجليزية وشن الهجمات الخاطفة على قوافلهم العسكرية والتي اشتهر بها الفدائي محمد محمود خليفة الشهير بـ «شزام».
بل إن المقاومة وصلت حتى إلى أطفال منطقة القناة حيث نفذ الطفل البور سعيدي نبيل منصور ابن الأحد عشر ربيعاً هجوماً باستخدام كرات قماشية مغموسة بالكيروسين على معسكر انجليزي بهدف إحراقه ونتج عن الهجوم استشهاده برصاص القوات الانجليزيه.
الطفل البورسعيدي نبيل منصور
تفنن الفدائيون في أساليبهم ضد المحتلين٫ فاستخدموا عربه برتقال مفخخه لاستهداف الجنود الانجليز على كوبري سالا واستخدام الأسلاك الحديدية والشراك في الشوارع للإيقاع بالجنود والاستيلاء على أسلحتهم لدرجة دعت القيادة الانجليزيه في الإسماعيلية لإصدار تعليمات صارمة لجنودها بعدم السير إلا في مجموعات وتفادي السير فرادى.
بحث المحتلون عبثاً عن جهة يشيرون إليها بأصابع الاتهام ولم يجدوا سوى قوات الأمن المصرية التي أصروا علي أنها توفر العون للفدائيين وتكررت اعتداءات الإنجليز على قوات الأمن حتى وصلت إلى ذروتها في معركة مبنى المحافظة في الاسماعيليه في ٢٥ يناير ١٩٥٢.
https://youtu.be/7F79IEzc1ds
معركة الاسماعيلية 25 يناير 1952
حيث هاجمت القوات الانجليزيه مبنى المحافظة مطالبة رجال الأمن المصريين بالاستسلام وهو ما رفضه رجال الأمن رغم أن وزير الداخلية آنذاك فؤاد سراج الدين لم يقدم لهم العون التسليحي المطلوب، وسطر هؤلاء الجنود و الضباط ملحمه بطوليه في الصمود والتصدي للقوات المعتديه رغم سقوط نحو ستين شهيداً في صفوفهم لكنهم أبوا الاستسلام حتى نفدت ذخيرتهم.
كان من الطبيعي أن تستفز مجزرة الإسماعيلية مشاعر المصريين خاصة في العاصمة القاهرة فسارت المظاهرات التي نددت بالاحتلال، والملك فاروق الذي كان حينها يحتفل بولي عهده الأمير أحمد فؤاد ونددت بالحكومة الوفدية التي لم تستطع حماية الأهالي ولا حماية قواتها الأمنية، وسرعان ما تحولت التظاهرات إلى حرائق واسعه نالت من أغلب المصالح الأجنبية في القاهرة في السادس والعشرين من يناير١٩٥٢ فيما عرف في تاريخنا المعاصر باسم حريق القاهرة.
حريق القاهرة
كان حريق القاهرة بمثابة جرس إنذار نبه ضباط الجيش الشبان بقيادة جمال عبد الناصر الذين كونوا تنظيماً معاديا للاحتلال باسم تنظيم «الضباط الأحرار» والذي أشرف سرا على تدريب الفدائيين في منطقة القناة. كان جرس إنذار نبههم إلى ضرورة التحرك ضد النظام الملكي، وهو ما كان بالفعل في الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢.
وبداية من ٢٧ أبريل عام ١٩٥٣ تجددت المفاوضات بين الجانبين المصري والبريطاني إلا أن التفاوض هذه المرة كان مختلفا عن المرات السابقة لإدراك الضباط الشبان التام لأهمية استخدام العمل الفدائي كورقة ضغط تفاوضية منهكة لقوات الاحتلال وساستهم في لندن.
احتضنت ثورة ٢٣ يوليو الفدائيين خاصة أن أحد أبرز ضباطها وهو كمال الدين رفعت كان أحد المشرفين على تدريبهم واستطاعت ضبط إيقاع عملياتهم – إذا صح التعبير- وفقا لمسار المفاوضات، فكلما تصلب الجانب البريطاني في التفاوض زادت العمليات الفدائية وكلما أبدى الجانب البريطاني مرونة واستعداداً لتقديم تنازلات، هدأت حكومة الثورة هذه العمليات.
كمال الدين رفعت
ووصل الأمر إلى مجلس العموم البريطاني حيث سأل النائب العمالي ميتلاند وزير الدولة البريطاني سلوين لويد عن الحوادث التي وقعت في منطقة القناة قائلاً «أن مجموع الحوادث من هذا النوع فيما بين أول يناير ١٩٥٣ وحتى ١١ فبراير ١٩٥٤ بلغ ٣١٦ حادثة كما أن ١٤ من الرعايا البريطانييين قتلوا خلال تلك الفترة».
ومع تزايد مطالبات أهالي الجنود الانجليز بسحب أولادهم من مصر ومنطقة القناه، لم يجد الانجليز أمامهم سوى توقيع اتفاقية الجلاء مع الجانب المصري في أكتوبر عام ١٩٥٤.
توقيع اتفاقية الجلاء بين الجانب المصري والبريطاني
وفي ١٨ من يونيو من عام ١٩٥٦ اكتمل انسحاب القوات الإنجليزية من مصر بعد احتلال طويل دام ٧٤ عاماً وتوجه الرئيس عبد الناصر إلى مبنى البحرية في مدينة بورسعيد ليرفع علم مصر عليه في أجواء وطنية احتفالية غير مسبوقة.
الرئيس جمال عبد الناصر يرفع العلم المصري على مبني البحرية في مدينة بورسعيد
ومن اللافت للنظر أن عيد الجلاء لم يعد يلق أي صدى احتفالي على الصعيدين الرسمي أو الشعبي ومن أيضا اللافت أن قسماً غير قليل من أحفاد شزام وغريب تومي ونبيل منصور ومن أحفاد كل الأجيال السابقة التي ضحت منذ ثورة عرابي أصبحوا الآن يترحمون على المرحله السابقه على هذا التاريخ.
المصادر:
محمد الشافعي -«الاسماعيلية ارض الفرسان»- مكتبة الأسرة- ٢٠٠٠
عبد الله كوماندوز – «شزام»- المصري للنشر والتوزيع- ٢٠١٩
عبد الرحمن الرافعي- «مقدمات ثوره ٢٣ يوليو»- مكتبة الأسرة- ١٩٩٧